
تقريب وجهات النظر … شرق ليبيا وغربها يجتمعان مجدداً في القاهرة
تستمر محاولات القاهرة في تقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية المختلفة، في توقيت بدأت فيه المخاوف والمؤشرات السلبية في الظهور تدريجياً حيال مستقبل المسارات السياسية والعسكرية والاقتصادية الليبية، مع إقتراب الموعد المحدد لعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية في الرابع والعشرين من ديسمبر القادم.
في هذا السياق؛ جاءت الزيارات واللقاءات التي شهدتها القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية، بدءاً بزيارة المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي، والمشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الليبي، اللذين قاما بزيارة القاهرة ضمن وفد موحد أول أمس، والتقيا بالرئيس عبد الفتاح السيسي بحضور مدير جهاز المخابرات العامة المصرية الوزير عباس كامل. وصولاً إلى زيارة رئيس حكومة الوفاق الوطني، عبد الحميد الدبيبة، على رأس وفد حكومي ليبيا، ولقائه مع الرئيس السيسي ورئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي.
السياق السياسي
العناوين العامة لهاتين الزيارتين كانت تتمحور حول إدامة التشاور المستمر بين القاهرة والأطراف الليبية المختلفة، عملاً بالنهج المصري المتبع منذ سنوات، والذي يستهدف توحيد الأصوات المتعددة داخل الدول العربية، والتوفيق بينها من أجل الوصول إلى تحقيق توافق وطني يدفع بالأوضاع الداخلية داخل هذه البلاد قدماً إلى الأمام، خاصة في دولة مثل ليبيا، عانت منذ عام 2011 من عدم استقرار مستمر في كافة مناحي الحياة.
هذا النهج من جانب القاهرة، كان قد شهد عدة تطورات هامة، كان أبرزها استقبالها في أكتوبر 2020، وفداً يضم خمسة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، يرافقهم أربعة من نواب البرلمان الليبي. حينها حملت تلك الزيارة ملامح استراتيجية مصرية تؤكد من خلالها القاهرة أنها تسعى إلى لم شمل كافة المكونات الليبية، وإلى التعاطي مع جميعها دون استثناء، بهدف واحد فقط وهو الصالح الليبي العام، وهو ما يتوافق مع كافة المبادرات السياسية والاقتصادية التي اتخذتها مصر منذ “إعلان القاهرة” وحتى اليوم.
تعززت هذه الإستراتيجية بشكل أكبر العام الجاري، من خلال زيارة هامة إلى طرابلس في أبريل الماضي، رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، حيث تضمنت هذه الزيارة التوقيع على احدى عشر وثيقة للتعاون بين الجانبين المصري والليبي، شملت مجالات المواصلات والنقل، ومشروعات الطرق والبنية التحتية، والقطاع الصحي، وقد تم بحث هذه المذكرات بشكل مستفيض، بجانب قضايا أخرى، خلال زيارة قام بها مدير جهاز المخابرات العامة المصرية، الوزير عباس كامل، إلى طرابلس في يونيو 2021. وقد كان الحرص واضحاً من جانب مصر خلال هاتين الزيارتين، على التشاور مع كافة الأطراف الليبية الشرعية في شرق البلاد وغربها، للدفع في اتجاه دعم التوافق بين الليبيين – كل الليبيين بلا استثناء – وهو توجه لا يتوقف فقط على مجرد الإعراب عن الآمال والأمنيات، بل يتعداه ليصل إلى حد العمل الفعلي على الأرض لتجميع الليبيين على أرضية توافقية واحدة.
السياق السياسي على المستوى الاقليمي، لا يمكن إغفاله أيضاً، خاصة ان زيارة الدبيبة وحفتر وصالح إلى القاهرة تأتي في نفس توقيت زيارة رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، إلى العاصمة القطرية الدوحة، وكذلك زيارة شخصيات سياسية بحرينية وعراقية رفيعة المستوى إلى القاهرة، علماً أن الملف الليبي كان دوماً من أبرز الموضوعات التي حرصت مصر على بحثها خلال الفعاليات الإقليمية الأخيرة، سواء خلال قمة دول جوار العراق التي انعقدت الشهر الماضي، أو خلال اجتماع وزراء خارجية دول جوار ليبيا، الذي انعقد أواخر الشهر الماضي في العاصمة الجزائرية، علماً أن هذا الاجتماع يأتي في سياق منظومة “جوار ليبيا”، التي تم إطلاقها عام 2014 في العاصمة المصرية القاهرة.
القاهرة تحاول من خلال استضافتها للأطراف الليبية الرئيسية في الشرق والغرب، البناء على ما تم التوافق عليه بين دول جوار ليبيا خلال الأجتماع السابق الإشارة إليه، حيث تمكنت الدول المشاركة في هذا الأجتماع- خاصة مصر والجزائر – من تأسيس أرضية توافقية مشتركة تبني عليها كل دولة موقفها من الملف الليبي، بحيث يتم تفادي بعض التناقضات والحساسيات التي كانت تحكم مواقف هذه الدول من الوضع الليبي خلال الأعوام القليلة الماضية.
تتكون هذه الأرضية التوافقية من مجموعة من البنود التي تتسق مع مخرجات مؤتمر برلين وكافة النقاط التي تم الأتفاق عليها في جولات المباحثات الليبية المختلفة، سواء في جنيف أو في تونس، اهمها التأكيد على أن الحل السياسي للأزمة الليبية هو الحل الوحيد المطروح على الطاولة، وان عقد الانتخابات التشريعية والرئاسية نهاية العام الجاري هو المسار الوحيد الذي يجب السعي نحوه. كذلك توافقت دول جوار ليبيا على الرفض الكامل لأي تواجد عسكري أجنبي على الأراضي الليبية، وتكريس سيادة ليبيا واستقلال قرارها، وتأكيد ضرورة إدامة جهود دول الجوار لإحلال الاستقرار في كافة أرجاء ليبيا.
على الجانب الداخلي، تعي القاهرة تماماً تصاعد التوتر السياسي بين الأطراف الليبية المختلفة، على خلفية فشل ملتقى الحوار السياسي في التوصل إلى الأرضية التشريعية والقانونية التي يمكن على أساسها عقد الأنتخابات المقبلة، وكذلك الخلافات الحالية بين البرلمان وحكومة الوحدة الوطنية، بسبب ملف الميزانية العامة للدولة، وكذلك حول بعض الملفات الخدمية والحكومية، وهي خلافات أفضت إلى عقد جلستين لمسألة الحكومة أمام البرلمان، واحتمالية عقد جلسة برلمانية الأثنين المقبل، للتصويت على سحب الثقة من هذه الحكومة، بناء على طلب نحو 90 نائبا من نواب البرلمان.
السياق الاقتصادي والخدمي
يبقى الجانب الاقتصادي والخدمي من أهم الجوانب التي تحتاج ليبيا في الوقت الحالي إلى الدعم فيها، وفي هذا الأطار يمكن قراءة جانب آخر من جوانب استضافة القاهرة للأطراف الليبية المختلفة، حيث تم خلال زيارة رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، عقد الجولة الحادية عشرة للجنة العليا المصرية الليبية المشتركة، وهي المرة الأولى التي تنعقد فيها هذه اللجنة منذ ديسمبر 2009، وهو ما يمكن اعتباره تتويجاً عريضاً للانفتاح الكبير في العلاقات بين مصر وليبيا.
الوفد الحكومي الليبي المشارك في هذا الأجتماع ضم مسؤولي وزارات الاقتصاد والتجارة، والمواصلات والإسكان والخارجية والتعاون الدولي والتخطيط والشؤون الاقتصادية، والداخلية، والثقافة والتنمية المعرفية، والمالية، والخدمة المدنية، والتعليم العالي والبحث العلمي، والتعليم التقني والفني، والزراعة والثروة البحرية والرياضة والعمل والتأهيل، بجانب ممثلي أجهزة وشركات حكومية أخرى، مثل جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية، والشركة العامة للكهرباء، وجهاز مشروعات الاسكان والمرافق، وجهاز تنفيذ مشروعات المواصلات، والشركة القابضة للاتصالات.
خلال اجتماعات هذه الدورة، تم توقيع عدة مذكرات تفاهم وعقود تنفيذية، تضاف إلى العقود السابقة التي تم توقيعها خلال زيارة رئيس الوزراء المصري إلى طرابلس في أبريل الماضي، وكذلك إلى التفاهمات التي تم التوصل إليها خلال الأسابيع الماضية، ضمن سلسلة المباحثات التي بدأها السفير المصري في ليبي مع عدة وزراء ومسؤولين حكوميين ليبيين، من بينهم وزير الاقتصاد والتجارة ووزيرة الخارجية ووزير التخطيط ووزير النفط والغاز، بالإضافة إلى المباحثات التي تمت بين البلدين لإعادة استئناف الرحلات الجوية بينهما، علماً أنه من المقرر أن يزور ليبيا قريباُ وفد مصري كبير يضم ممثلين عن القطاع الخاص، لبحث مشاركة مصر في عمليات إعادة الإعمار، وذلك سبل دفع التعاون التجاري والاستثماري بينهما.
أجمالاً تم خلال اجتماعات هذه اللجنة، توقيع أربعة عشر مذكرة تفاهم وستة عقود تنفيذية، تضمنت مذكرة تفاهم بين الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة في مصر، ووزارة الخدمة المدنية بالحكومة الليبية في مجالات الإدارة والوظيفة العامة والخدمة المدنية، ومذكرة تفاهم لإنشاء اللجنة التجارية المشتركة بين البلدين، ومشروع مذكرة تفاهم في مجال التعاون الصناعي، ومذكرتي تفاهم في مجال الزراعة والحجر الزراعي، ومذكرة تفاهم حول التعاون المشترك في مجال الشئون الاجتماعية، ومذكرة تفاهم في مجال أمن الطيران المدني، ومذكرتي تفاهم للتعاون في مجال مكافحة التلوث البحري وآثاره والتعاون في مجال البحث والإنقاذ البحري، ومشروع مذكرة تفاهم في مجال الإسكان والتشييد، ومذكرتي تفاهم في مجال الشباب والرياضة، ومذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجال النفط والغاز.
يضاف إلى هذه المذكرات، عقود ومذكرات تفاهم تتعلق بمشروعات خدمية عملاقة سيتم تنفيذها بإيدي مصرية على الأراضي الليبية، منها عقد بين جهاز مشروعات الاسكان والمرافق الليبي، وائتلاف الشركات المصرية (أوراسكوم للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة، وحسن علام للإنشاءات)، من أجل تنفيذ الطريق الدائري الثالث بالعاصمة الليبية، وعقد اخر لصيانة طريق “أجدابيا- جالو”، بين وزارة المواصلات الليبية، ممثلة في جهاز تنفيذ مشروعات المواصلات ، وائتلاف شركات (أوراسكوم للإنشاءات، وحسن علام للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة). يضاف إلى هذين العقد عقد تصميم وتوريد وتركيب مشروع محطتين غازيتين لتوليد الكهرباء، الأولى في مدينة درنة والثاني في مدينة العجيلات، وقد تم توقيع هذا العقد بين الشركة العامة للكهرباء الليبية، وائتلاف الشركات المصرية (أوراسكوم للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة، والهندسة)، بجانب توقيع عقد استشاري خاص بنفس المحطتين، بين الشركة العامة للكهرباء الليبية وائتلاف من المكاتب الاستشارية المصرية.
دعم الجيش الوطني الليبي، والتأكيد على ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة
أكد خلال هذه الزيارة، كل من الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ضرورة خروج جميع القوات الأجنبية والمليشيات والمرتزقة من ليبيا، حيث تكون القوات الليبية هي فقط الموجودة على أراضي الدولة، وأشارا إلى أن مصر مستعدة لتقديم كل الدعم السياسي للدولة الليبية من أجل تحقيق هذا الهدف. وهنا لابد من النظر إلى وجود قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر ضمن الزائرين للقاهرة خلال اليومين الماضيين، ضمن سياق رغبة القاهرة في تأكيد دعمها الكامل لدور المؤسسة العسكرية الليبية في مواجهة الإرهاب، وكذلك استمرار الدور المصري المساعد في توحيد هذه المؤسسة.
وجود المشير في القاهرة يتزامن مع عملية عسكرية واسعة النطاق بدأها الجيش الوطني الليبي في المناطق الجنوبية المتاخمة للحدود مع تشاد، بهدف إنهاء المخاطر التي تشكلها المجموعات المعارضة المسلحة التشادية المتمركزة منذ سنوات على الأراضي الليبية، وهذا جانب مهم من الجوانب الأمنية العديدة التي تشكل مخاطر مستمرة على الوضع الداخلي الليبي، وعلى رأسها ملف فوضى الميليشيات خاصة في غرب البلاد، وكذلك الآثار السلبية المستمرة لتواجد مرتزقة وقوات أجنبية على أراضي البلاد، ومن أمثلة هذه الآثار ما قام بها عشرات المرتزقة السوريين في منطقة “صلاح الدين” بالعاصمة الليبية منذ أيام، وكذا الأشتباكات المتقطعة بين الميليشيات والمجموعات العسكرية المختلفة، والتي أدت إلى بدء نشوء حالة من الخلاف بين المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية.
أخيراً، يمكن القول أن القاهرة باستضافتها الناجحة والفعالة والمثمرة للقيادات الليبية الشرعية والرئيسية، قامت بالتأكيد على رؤيتها التوافقية للحل في ليبيا، التي تتلخص بضرورة ضمان عقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل نهاية العام الجاري، وذلك بالتوازي مع تعزيز المسار الأمني من خلال إلزام الجهات الأجنبية بإخراج العناصر المرتزقة من داخل الأراضي الليبية حتى تتمكن المؤسسات الأمنية الليبية من الاضطلاع بمسئوليتها ومهامها، وهو الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تعزيز جهود استعادة الأمن والاستقرار في سائر أنحاء ليبيا. على الجانب الأخر، أرسلت مصر رسائل إضافية مفادها انها تضع أولوية قصوى لعودة الاستقرار إلى كافة المناطق الليبية، وتمكين البلاد من استعادة دورها إقليمياً ودولياً، وكذلك شددت عبر تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي، على احترام القاهرة للسيادة الليبية، وحرصها على الحفاظ على وحدة أراضيها، ورفض كافة أشكال التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي الليبي، فضلاً عن تعزيز تماسك المؤسسات الوطنية الليبية وتوحيد الجيش الوطني الليبي لحماية مقدرات الشعب الليبي الشقيق وتفعيل إرادته الحرة.
باحث أول بالمرصد المصري