العراق

قمة دول جوار العراق … أهداف متشعبة

تنعقد غدًا السبت في العاصمة العراقية بغداد قمة لدول جوار العراق، تشارك فيها أيضًا عدة دول وازنة في المحيط الإقليمي والدولي. تأتي هذه القمة في ظل ظروف بالغة التعقيد سواء على مستوى الداخل العراقي، أو على مستوى منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وتزايد واضح للتحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجهها دول المنطقة.

تستهدف القيادة العراقية من هذه القمة -التي بدأ التجهيز والإعداد لها في يونيو الماضي- تحقيق العديد من الأهداف السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، رغم أن الواقع الداخلي في العراق ومحيطه الإقليمي، ربما يجعل التوقعات بشأن إمكانية تحقيق هذه الأهداف محدودة للغاية، لكن رغم هذا يمكن اعتبار هذه القمة بمثابة “إعادة ترتيب أولية” لكافة الملفات السياسية الإقليمية، في ظل الانسحاب الأمريكي التدريجي من منطقة الخليج، وبدء محاولات التسوية مع الجمهورية الإسلامية في إيران؛ وهي جميعها متغيرات فرضت انخراط القيادة العراقية في مسار يتخذ من العلاقات الخارجية -خاصة مع المحيط العربي- وسيلة لتأمين وتحسين وضعه الداخلي المضطرب وغير المستقر على كافة المستويات، وهي استراتيجية شرع رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي فيها منذ توليه منصبه في مايو 2020.

جمع الأفرقاء … ما هي الأهداف؟

من أهم السمات المميزة لهذه القمة المرتقبة، حقيقة أنها تجمع عمليًا بين العديد من الأطراف المنخرطة في خلافات سياسية واقتصادية عميقة، فقد وجهت الرئاسة العراقية الدعوة إلى كل من مصر والمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا والأردن وإيران وروسيا والصين وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، بجانب إعلان دول وهيئات اخرى مشاركتها في هذا الاجتماع، مثل الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وألمانيا واستراليا وهولندا والسويد.

بالنظر إلى قائمة الدول المدعوة، نستطيع أن نلاحظ وجود عدد من الدول الإقليمية المهمة، المنخرطة بين بعضها البعض في ملفات خلافية متعلقة بالجوانب السياسية والاقتصادية.

وهو ما يؤشر على رغبة عراقية في تأكيد نقطتين أساسيتين، الأولى هي النأي بالعراق عن أية تجاذبات إقليمية تتخذ من المسرح العراقي ساحة للمواجهة، والثانية هي رغبة القيادة العراقية الحالية في استعادة الدور العراقي على المستوى العربي والإقليمي، خاصة وأن نجاح بغداد في جمع كافة هذه الدول السالف ذكرها على طاولة واحدة، يمكن اعتباره بمثابة “إنجاز دبلوماسي”، قد يكون بمثابة فاتحة لبدء سلسلة من مبادرات التهدئة والحوار والتعاون على المستوى الإقليمي.

 النقطة الثانية تبدو هي الأبرز، بالنظر إلى حقيقة أن العراق لم يشهد مؤتمرات على نفس مستوى قمة الغد، منذ استضافته القمة العربية الثالثة والعشرين عام 2012، وكان واضحًا سعي العراق منذ عام 2019، في تنشيط جهوده الدبلوماسية على المستوى الإقليمي والدولي، وذلك من خلال مجموعة من الزيارات والاجتماعات، أهمها تدشين اجتماعات دورية بين قادة العراق ومصر والأردن، كان أولها في مارس 2019، وثانيها في أغسطس 2020، واحتضنت بغداد الجولة الثالثة من هذه الاجتماعات للمرة الأولى في يونيو الماضي، وهي اجتماعات شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات التجارية والصناعية بين البلدان الثلاثة، وشكلت نموذجًا للتعاون العربي المشترك. يضاف إلى ذلك استضافة بغداد لمؤتمر رؤساء برلمانات دول جوار العراقي في أبريل الماضي.

هذه الاجتماعات يضاف إليها انفتاح عراقي اقتصادي واضح على سوريا ولبنان، بجانب مجموعة من الزيارات المهمة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي، منها زيارته إلى المملكة العربية السعودية أواخر مارس الماضي، وزيارته إلى الإمارات العربية المتحدة في أبريل الماضي، والتي من خلالها أظهر العراق للعالم انفتاحه على محيطه الإقليمي، ورغبته في تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية معها. على المستوى الدولي، كانت زيارة بابا الفاتيكان إلى بغداد في مارس الماضي، بوابة بدأت من خلالها بغداد في مد جسور التواصل مع عدة دول أوروبية. كل ما سبق استخدمته بغداد كقاعدة تبني عليها جهودها في قمة الغد.

بالعودة إلى الوفود التي ستحضر قمة الغد، نجد أن مسألة مستوى التمثيل ستكون حيوية ومهمة لتحقيق نتائج واضحة وملموسة من هذه القمة. فحتى وقت كتابة هذه السطور، تشير المعلومات المتوفرة إلى أن القمة سيحضرها كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأمير قطر “أو وزير خارجيتها”، ووزير الخارجية الأمريكي “او السفير الأمريكي في بغداد”، ووزير الخارجية الإيراني، وولي عهد الكويت مشعل الأحمد الجابر الصباح، وأمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو.

وبغض النظر عن مستوى الوفود التي ستشارك، إلا أنه يُتوقع أن تتم مناقشة كافة الملفات الإقليمية خلال هذه القمة، سواء عبر الجلسات الجماعية او عبر جلسات ثنائية أو ثلاثية بين رؤساء وفود الدول المشاركة. الملف الإقليمي الأول الذي يتوقع أن تتناوله هذه القمة هو الملف الإيراني، فبغداد تعمل منذ أشهر على الوساطة بين طهران والرياض، وذلك عبر عدة جولات من المباحثات غير الرسمية بين الجانبين، احتضنتها العاصمة العراقية في أبريل الماضي، وتحاول بغداد في هذه القمة الاتفاق مع الجانبين على عقد جولات ثنائية أخرى. 

هذا الدور يشابه إلى حد كبير الدور الذي تحاول بغداد لعبه فيما يتعلق بالعلاقات بين طهران وواشنطن، حيث تؤيد بغداد توصل كلا الجانبين إلى اتفاق يساهم في تهدئة العلاقات بينهما، خاصة أن العراق يتأثر بشكل مباشر بالتصعيد المستمر منذ سنوات بين إيران والولايات المتحدة، وهو ما أثر بشكل كبير على الداخل العراقي الذي يعاني أساسًا من تداعيات أمنية واقتصادية كبيرة منذ سنوات.

بغداد تستشعر بشكل كبير المخاطر الداهمة على الأمن العراقي، سواء بسبب تحول الساحة العراقية إلى ساحة لتصفية الحسابات، أو بسبب خشيتها من تكرار السيناريو الأفغاني، مع قرب انسحاب القوات الأمريكية بشكل كامل اواخر العام الجاري. لذا يبدو اهتمامها بالملف الإيراني من حيث الشكل مستهدفًا لتوسيع الدور العراقي إقليميًا لكنه من حيث الموضوع يبقى واضعًا في حساباته التأثير الإيجابي لأي تحسن في العلاقات بين طهران من جهة، ودول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، على الداخل العراقي، الذي بات على أعتاب انتخابات برلمانية مصيرية في العاشر من أكتوبر القادم.

الملف السوري -وإن كانت الحكومة السورية لم تتلق أي دعوة لحضور هذه القمة- سيكون بطبيعة الحال ضمن الملفات التي سيتم بحثها، خاصة أن العلاقات بين بغداد ودمشق في أحسن أوضاعها حاليًا، وهنا تحاول بغداد لعب دور الوسيط بين دمشق ودول مثل المملكة العربية السعودية وتركيا، وكذلك تعمل على تهيئة الأجواء أمام دمشق كي تعود للأنشطة الدبلوماسية والاقتصادية العربية بشكل كبير، خاصة وأن بغداد كانت لها مبادرة اقتصادية منفردة مع لبنان، ومؤخرًا لوحظ تغير مفاجئ في التعاطي الأمريكي مع الملفين اللبناني والسوري، يتمثل في الإعلان “الشفهي حتى الآن” عن موافقة واشنطن على تزويد لبنان بالغاز المصري عبر الأراضي السورية. 

هنا يبرز دور باريس التي تعد شريكًا أساسيًا لبغداد في فكرة عقد قمة هذا العام، فباريس تبدو حاليًا “المرشح الأبرز” لسد الفراغ الذي يحدثه انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية -أو تقليصها لنفوذها- في بعض الدول. في هذه المرحلة يبدو اهتمام فرنسا كبيرًا بمحور الشام “العراق – لبنان – سوريا”، والتنسيق بين القيادتين العراقية والفرنسية يبدو في أعلى مراحله، خاصة بعد اجتماعين مهمين عقدهما رئيس الوزراء العراقي مع الرئيس الفرنسي، خلال شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين.

حضور تركيا هذه القمة، خاصة لو كان هذا الحضور ممثلًا في الرئيس رجب طيب أردوغان، سيجعل من الحتمي على هذه القمة أن تتناول معظم الملفات الخلافية التي تجمع بين تركيا والدول الحاضرة، خاصة مصر التي كانت قد جمدت المباحثات الاستكشافية بينها وبين تركيا مؤخرًا، على خلفية عدم جدية أنقرة في التعاطي مع المطالب المصرية. حضور تركيا لهذه القمة سيأتي بعد أيام من شنها عملية عسكرية كبيرة في شمال العراق، وتعزيزها المستمر لقواعدها العسكرية هناك، وبالتالي سيكون منطقيًا فتح العراق لملف هذه الانتهاكات، وكذلك ملف المياه، حيث يعاني العراق وسوريا في هذا الملف من جراء تداعيات السياسات التركية الخاصة ببناء السدود. العلاقة بين بغداد وتركيا لها طابع اقتصادي مهم ستعمل بغداد في هذه القمة على دفعه قدمًا، حيث يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 15 مليار دولار سنويًا.

على مستوى العلاقات الخليجية – العراقية، يتوقع ان تستغل بغداد فرصة هذه القمة من أجل تحسين علاقاتها مع دول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية التي يعول عليها العراق كثيرًا لدعمه على المستوى التجاري والاقتصادي، وكذلك يعول عليها لدعمه على المستوى السياسي والإقليمي، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الكويت. الملف الاقتصادي لن يغيب قطعًا عن التناول في هذه القمة، فالعراق يحتاج إلى تفعيل شراكاته الاقتصادية مع بعض الدول المشاركة في هذه القمة، مثل مصر والأردن، وإلى تعزيز تبادله التجاري مع دول مثل إيران وتركيا، وإلى فتح أبواب جديدة للتعاون الاقتصادي مع دول خليجية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، خاصة في مجال الكهرباء والبتروكيماويات وبناء المدارس ومشاريع التعليم والزراعة والثقافة. كذلك يتوقع أن تتناول هذه القمة ملف التغير المناخي والتلوث البيئي، وسبل التعامل معه وتقليل الانبعاثات الملوثة للبيئة.

 الملف الأمني سيكون بطبيعة الحال حاضرًا وبقوة في هذه القمة، فالحرب ضد تنظيم داعش لم تنتهي حتى الآن في العراق، وملف أسر عناصر تنظيم داعش المحتجزين في مخيم “الهول” مازال دون حل حتى الآن، واستمرار وجودها في المخيم يمثل مخاطر أمنية كبيرة على العراق الذي تتوقع تقارير فريق مراقبة العقوبات التابع للأمم المتحدة، وأحدثها صدر أواخر الشهر الماضي – أن تنظيم داعش سيحاول إعادة تنظيم نفسه على الأراضي العراقية بمجرد اكتمال انسحاب القوات الأمريكية، بحيث ينفذ هجمات أكثر شراسة وتأثير، خاصة أن التنظيم ينفذ بالفعل عمليات على الأراضي العراقية، سواء عبر استهداف أبراج الضغط العالي الكهربائية، أو عبر عمليات تفجير مثل ما حدث منتصف الشهر الماضي في بغداد. لذا يرجح أن يكون الملف الأمني ضمن الملفات التي سيتم بحثها، وهو ملف تشترك كل الدول بما فيها فرنسا والولايات المتحدة في الخشية منه.

رغم الزخم الكبير … التوقعات محدودة

إن تحقيق بغداد لكافة الأهداف السالف ذكرها خلال هذه القمة يبدو أمرًا مستبعدًا، بالنظر إلى عدة عوامل أساسية، أهمها هو أن الملفات المطروحة -أو المتوقع طرحها- للنقاش في هذه القمة في أغلبها ملفات إقليمية لها روابط دولية وتعقيدات تحتاج إلى أكثر من مجرد لقاء قمة مهما بلغت درجة التمثيل فيه. من الأمثلة التي يمكن قياس هذا الوضع عليها هو ملف العلاقة بين بغداد والكويت، حيث تتسم العلاقة الحالية بينهما بالفتور الشديد على خلفية ملف الديون المتبقية على الدولة العراقية، وتبلغ نحو 2.5 مليار دولار، وهو ملف لم يتم بحثه بشكل مشترك بين الجانبين خلال الأعوام الأخيرة، وسيتعذر بالتالي تناوله في هذه القمة، وسيظل مؤثرًا بشكل أو بآخر على العلاقات الكلية للعراق مع الخليج. 

مثال آخر هو ملف العلاقات بين بغداد وتركيا، فملف المياه لم يتم بحثه بين الجانبين ولو لمرة واحدة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالملف العسكري، حيث تطالب تركيا بغداد بتفكيك تواجد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، قبل أي حديث عن إيقاف العمليات التركية على البرية والجوية على الأراضي العراقية. مثل هذه الملفات وغيرها سيكون من الصعب بمكان التطرق إليها خلال هذه القمة.

لذا يمكن القول إن الإنجاز المتوقع من هذه القمة سيكون “حدوثها” في حد ذاته، في ظل الظروف العراقية الصعبة على المستويين الأمني والسياسي، وعدم وجود تنسيق مبدئي بين الدول المشاركة في هذه القمة على أجندة موحدة لفعاليتها. 

حضور عدد كبير من الزعماء والقادة والمسؤولين من دول مهمة في المنطقة إلى بغداد في مثل هذه الظروف ربما يكون إنجازًا “سياسيًا” للحكومة العراقية الحالية، خاصة لو صدر عن هذه القمة إعلان أو اتفاقية تتضمن خطوات سياسية أو اقتصادية لاحقة، وكذلك لو ترافقت هذه القمة -كما يتوقع البعض- مع لقاءات ثنائية وثلاثية ورباعية منفصلة بين الدول المشاركة. 

لكن تبرز في هذا الصدد أسئلة عديدة، هل سيكون لهذه القمة نتائج ايجابية على الوضع الداخلي العراقي؟، وهل سيكون لنتائجها تبعات على المشهد الإقليمي في المنطقة، وهل يكون للعراق دور سياسي ودبلوماسي أكبر في التقريب بين دول المنطقة؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى