أفغانستان

الاستراتيجية الممتدة: الانسحاب من أفغانستان.. المكاسب الأمريكية واحتمالات العودة

أعادت مشاهد سيطرة حركة طالبان على الولايات الأفغانية ثم دخولها العاصمة كابول (15 أغسطس) دون مقاومة ودون طلقة رصاص واحدة؛ إلى الأذهان مشاهد اقتحام تنظيم داعش لمدينة الموصل العراقية دون مقاومة وبتسليم تام من القوات التي كانت تتولى تأمين المدينة العراقية. حدود التشابه بين المشهدين لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتعدى ذلك إلى الأسباب التي أدت إلى حدوثها، وهو الحدث نفسه؛ أي انسحاب القوات الأمريكية، سواء من أفغانستان 2021 أو العراق عام 2011.

ساحة مهيأة

فرض انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان واقعًا جديدًا انتقلت بموجبه كابول من الاستراتيجية الأمريكية التي بدأها جورج بوش الابن عام 2001 والقائمة على مكافحة الإرهاب في أفغانستان، و”إعادة بناء الدولة” إلى استراتيجية أخرى عبّر عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن بقوله (8 يوليو) “لم نذهب إلى أفغانستان لبناء دولة، الولايات المتحدة ذهبت إلى أفغانستان لمنع هجوم إرهابي آخر بحجم مآسي 11 سبتمبر، وأنجز الجيش هذه المهمة”. وهي استراتيجية تجعل من أفغانستان ساحة مهيأة للمتغيرات الجيوسياسية الآنية والمستقبلية التي ستنعكس آثارها على كابول. وبما يحقق لواشنطن أهدافًا استراتيجية على المدى البعيد. 

وتوضح مشاهد السيطرة الكاملة لحركة طالبان على عدد كبير من الولايات الأفغانية وصولًا إلى كابول بمجرد بدء انسحاب القوات الأمريكية أن التقديرات الاستخبارية الأمريكية التي توالت منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما مرورًا بالرئيس السابق دونالد ترامب وصولًا إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن حول التداعيات السلبية التي سيحدثها هذا الانسحاب كانت صائبة –وإن كانت أخطأت في توقع المدى الزمني لذلك- بيد أنها قد تكون مقصودة في ذاتها.

وتتشابه محددات انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان مع محددات انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011، بدءًا من الدوافع الأساسية وراء قرار الانسحاب والتي يمكن إجمالها في الداخل الأمريكي ورغبة الرؤساء الأمريكيين في تلبية تطلعات الشعب الأمريكي في إنهاء “الحروب الأبدية”. ومثلما حدث في أفغانستان من سقوط سريع للجيش والحكومة أمام قوات حركة طالبان، حدث الأمر ذاته في العراق ولكن بعد ثلاث سنوات على يد عناصر تنظيم داعش عندما اقتحمت المدن العراقية عام 2014، مع فارق أن السلطة العراقية استطاعت الصمود ثلاث سنوات ولم يستطع داعش السيطرة على العاصمة العراقية بغداد.

ومثلما قال أوباما (ديسمبر 2011) “رغم أن الانسحاب لم يكن مثاليًا، نترك وراءنا عراقًا يتمتع بالسيادة والاستقرار والاعتماد على الذات، مع حكومة تمثيلية منتخبة من قبل شعبها”، قال بايدن (26 يونيو) “قوّاتنا تُغادر، لكن هذه ليست نهاية دعمنا لأفغانستان، وينبغي للأفغان أن يقرروا مستقبلهم وما يريدونه”. فالواقع الفعلي يشير إلى أن الأوضاع في أفغانستان ستتجه إلى ما اتجه إليه العراق وفق إرادة أمريكية مسبقة.

  • سيطرة حركة طالبان على الحكم

تشير المعطيات والمؤشرات إلى أن سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان بعد خضوع العاصمة لها -سواء سيطرة مطلقة أو بصورة تشاركية- باتت أمرًا مُسلَّمًا به، وأن الحديث عن مواجهة الحركة في الوقت الحالي أو إزاحتها خارج العاصمة الأفغانية كابول بات جزءًا من الماضي؛ إذ تشير مواقف القوى الدولية وفي مقدمتها روسيا والصين بشأن الاستعداد لإقامة علاقات مع حركة طالبان، وحتى موقف الولايات المتحدة نفسه الذي عبّر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن (16 أغسطس) قائلًا: “حثثت الأفغاني أشرف غني على السعي إلى تسوية سياسية مع طالبان، وتم رفض هذه النصيحة بشكل قاطع”. 

ويأتي هذا الموقف امتدادًا لانخراط واشنطن في مفاوضات مباشرة مع حركة طالبان والتي أسفرت عن اتفاق الدوحة (فبراير 2020)، مما يشير إلى أن سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان لم تكن مفاجئة لواشنطن أو لأي من القوى الدولية التي ستسعى إلى التعامل مع هذا الأمر الواقع في المستقبل القريب، خاصة مع ما صدر عن حركة طالبان من تصريحات تفيد بالتزامها بمبادئ حقوق الإنسان وعدم اللجوء إلى العنف.

  • بيئة خصبة للإرهاب

تكشف ظروف سيطرة حركة طالبان على الولايات الأفغانية تباعًا وصولًا إلى العاصمة كابول عن هشاشة الوضع الأمني بشكل كبير، وأن القوات الأمنية التي أنفقت عليها الولايات المتحدة نحو 88 مليار دولار افتقرت إلى أدنى مستويات الاستعداد القتالي أو العقيدة التي تدفعها إلى مواجهة قوات حركة طالبان. وهو الأمر ذاته الذي شهده العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية، فافتقاد القوات العراقية للعقيدة رغم مليارات الدولارات التي أنفقت عليها بعد أن فككت الولايات المتحدة الجيش العراقي بعد الغزو عام 2003 هو الذي جعل هذه القوات تسلّم مدنًا عراقية لعناصر تنظيم داعش.

وتنبئ هذه الهشاشة الأمنية بأن أفغانستان من اليسير أن تصبح خلال الفترة القليلة المقبلة مسرحًا للعديد من التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش التي ستجد فيها ملاذًا وساحة مهيأة للتخطيط لهجمات إرهابية داخل أفغانستان وخارجها، خاصة وأن هذين التنظيمين على وجه الخصوص قد زادا من نشاطهما خلال الفترة الأخيرة بشكل مطرد في قارة آسيا وبالخصوص في جنوب آسيا. خاصة إذا تم النظر إلى الصلات الوثيقة التي تربط حركة طالبان بتنظيم القاعدة، والتي تشير تقارير عدة إلى أنها مازالت مستمرة حتى الآن رغم 20 عامًا من الحرب الأمريكية على الإرهاب في أفغانستان.

فقد أشار التقرير الفصلي (يناير – مارس 2021) للعملية الأمريكية في أفغانستان والتي تتخذ اسم “عملية الحرية الدائمة” أن وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية أفادت أن تنظيم القاعدة ينتظر على الأرجح مزيدًا من التوجيهات من حركة طالبان، ولا يزال التنظيم يعتمد على طالبان في الحماية، وقد عزز كل من تنظيم القاعدة وحركة طالبان علاقاتهما مما يجعل من الصعب حدوث انقسام تنظيمي بينهما، وصرّح وزير الداخلية الأفغاني السابق مسعود أندرابي (فبراير 2021) بأن طالبان تواصل الحفاظ على علاقات وثيقة مع الإرهابيين الدوليين بما في ذلك تنظيم القاعدة.

هذا علاوة على سيناريوهات الحرب الأهلية التي قد تستعر داخل أفغانستان بين حركة طالبان -التي حصدت أعدادًا هائلة من الأسلحة والمعدات العسكرية المتنوعة مثل المدرعات والمدافع المضادة للطائرات والمروحيات والطائرات بدون طيار- والميلشيات التابعة للقوميات الأفغانية المختلفة مثل البشتون والطاجيك والأوزبك والهزارة. وما يسفر عنه ذلك من هجين من المقاتلين الذين قد يؤسسون تنظيمًا إرهابيًا جديدًا.

أهداف أمريكية

يمكن الجزم بأن التداعيات سالفة الذكر لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان ليست مفاجئة لصناع القرار في واشنطن بعدما وصلت دوائر صنع القرار الأمريكية إلى نتيجة مفادها أن استمرار الوجود العسكري في أفغانستان لن يغير من الأمر شيء. بل يمكن القول إن هذه التداعيات هي ضمن الاستراتيجية الهادفة إلى مواجهة التهديدات الاستراتيجية لواشنطن، ومن أهمها الصين وروسيا؛ إذ إنها تحقق لها عددًا من الأهداف.

  • الفكاك من المستنقع الأفغاني

كانت كلفة الحرب الأمريكية في أفغانستان ضخمة منذ عام 2001 وحتى الانسحاب 2021 على المستويين المادي والبشري، إذ بلغت هذه الكلفة حسب بعض التقديرات نحو تريليوني دولار أمريكي، ونحو 2500 قتيل من الجيش الأمريكي ونحو 3800 قتيل من المقاولين الأمريكيين العاملين هناك. وهو ما دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى القول إن “التاريخ أثبت أن أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات”. ولذلك فإن قرار سحب القوات من أفغانستان رغم تداعياته قد بات ضروريًا، خاصة وأنه رغم هذه الكلفة الكبيرة لم يحقق الأهداف المرجوة، ورغم إزاحة حركة طالبان من السيطرة على البلاد في عام 2001 فإن القوات الأمريكية والدعم المقدم للجيش الأفغاني لم تنجح في القضاء على الحركة.

  • عرقلة الاستراتيجية الصينية

ركزت استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية المتعاقبة على ضرورة مواجهة النفوذ المتنامي لكل من الصين وروسيا، واتخذت الإدارات الأمريكية أساليب عدة لمواجهة هذا النفوذ. وفي الوقت الراهن فإن الوضع الذي أنتجه انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان والذي يغلب عليه الطابع الفوضوي يمثل هدفًا أمريكيًا في حد ذاته؛ لما له من آثار تصب في صالح الاستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى تقويض الاستراتيجيات الصينية القائمة على الشراكة مع دول الجوار ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، ومواجهة الآثار الناجمة عنها.

إذ تعد أفغانستان إحدى حلقات الوصل المهمة لمشروع “طريق الحرير” في جنوب آسيا، حيث تعد الطريق الأقصر ما بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وما بين الصين والشرق الأوسط، وتم في عام 2016 إطلاق قطار شحن مباشر من الصين إلى بلدة حيراتان الحدودية الأفغانية، كما أنشئ ممر جوي يربط بين كابل ومدينة أورومتشي الصينية. ذلك فضلًا عن أن للصين استثمارات كبيرة في البنية التحتية لأفغانستان ونشاطات استخراج المعادن سواء التي تستخدم في الصناعات التكنولوجية مثل الليثيوم والنحاس، أو المعادن النفيسة مثل الذهب والأحجار الكريمة.

وتمثل حالة الفوضى الأمنية والإرهاب الناشئة في أفغانستان مهددًا كبيرًا لهذه الاستثمارات الصينية في أفغانستان، ومن شأنها أن تعرقل –ولو مؤقتًا- النشاط الاستثماري الصيني في كابول. هذا بجانب أن هذه الحالة تهدد الاستثمارات الصينية ضمن مبادرة “الحزام والطريق” في الدول المجاورة مثل باكستان، والتي تقدر هذه الاستثمارات فيها بنحو 60 مليار دولار؛ نظرًا لاحتمالات الهجمات الإرهابية الارتدادية من الفصائل والميلشيات المناوئة لحركة طالبان.

  • خلق ساحة اشتباك جديدة

تبدو أفغانستان وفقًا لهذه المعطيات ساحة مهيأة لتكون مسرحًا جديدًا للاشتباك بين القوى الدولية والإقليمية. وقد يفرض تنامي الظاهرة الإرهابية والفوضى هناك على القوى المجاورة الصين وروسيا على الانخراط في أفغانستان لتأمين مصالحها الاستراتيجية؛ وذلك بالنظر إلى ما يمثله توافد المقاتلين والتنظيمات الإرهابية إلى أفغانستان من تهديد على الحدود الصينية واحتمالات التحالف مع مقاتلي الإيجور في إقليم شينجيانغ الصيني، والأمر ذاته بالنسبة لروسيا واحتمالات تمدد الإرهابيين والمقاتلين إلى جمهوريات الاتحاد السوفتي السابقة على الحدود الروسية. ومن ثم فإن أحد الأهداف التي يمكن أن تكون واشنطن تسعى إليها هو شغل بكين وموسكو بالأوضاع في أفغانستان ومحاولتها تأمين مصالحها وفرض الاستقرار هناك درءًا لتداعياتها السلبية عليهما، في مقابل انشغال الولايات المتحدة باستراتيجيتها لمواجهة نفوذهما المتنامي. 

هذا فضلًا عن احتمالات تجدد الصراع بين حركة طالبان وإيران، فعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة قد شهدت طابعًا تعاونيًا بين الجانبين لمواجهة الولايات المتحدة، فإن انسحاب القوات الأمريكية قد يعيدهما إلى دائرة الصراع التي شهدت قبل ذلك اقتحام القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف وقتل تسعة دبلوماسيين إيرانيين عام 1998، وذلك بعد أن تخلصا الآن من العدو المشترك وهو الوجود الأمريكي على الأراضي الأفغانية وعلى حدود طهران. فضلًا عن استمرار حضور أفغانستان بقوة بعد انسحاب القوات الأمريكية في معادلة الاشتباك القديمة المتجددة بين الهند وباكستان.

إجمالًا، لم يكن قرار الولايات المتحدة بسحب قواتها من أفغانستان قرارًا عرضيًا، وإنما قرار استراتيجي يحقق لها أهدافًا عدة، أهمها محاولة مواجهة النفوذ الصيني المتنامي، وخلق ساحة اشتباك جديدة تنخرط فيها القوى الدولية والإقليمية بنفسها أو بالوكالة تكون مسرحًا مرحليًا بديلًا للاشتباك في الشرق الأوسط. إلا أن قيودًا عدة قد تفرض على الولايات المتحدة العودة إلى أفغانستان من جديد خلال السنوات المقبلة، وأهمها أن الظاهرة الإرهابية التي ستتنامى هناك بشكل مطرد قد لا تقتصر آثارها على أفغانستان أو الدول المجاورة فقط، مثلما حدث في هجمات 11 سبتمبر، ومثلما أدى اجتياح عناصر تنظيم داعش لسوريا والعراق إلى نتائج سلبية مباشرة على الولايات المتحدة وحلفائها. وقد لا تكون الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في أفغانستان ما بعد الانسحاب والتي تعتمد بشكل أساسي على الضربات الجوية ذات تأثير كبير في دحر الإرهاب هناك، وهو ما قد يستدعي تأسيس وجود عسكري جديد في أفغانستان أو محيطها؛ تأسيسًا لمسرح العمليات الجديد خلال السنين المقبلة في وسط وجنوب آسيا.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى