سياسة

الاستقرار السياسي والمعارضة الوطنية.. دلالات التنوع في برلمان 2021

كشفت مؤشرات النتائج النهائية لانتخابات برلمان 2021 عن وقوع تغيير كبير في النخبة السياسية والبرلمانية وصل إلى أكثر من70% من قوام البرلمان السابق، وهو ما يعبر عن نتيجة أولية بان هناك رغبة من الهيئة الناخبة في تغيير وجوه واستبدالها بوجوه أخرى تطرح برامج سياسية مختلفة، وتكون أكثر ديناميكية وعلى اتصال دائم باحتياجات ومطالبات الشارع المصري.

وربما كان أهم ملمح من ملامح الانتخابات هو قدرة مؤسسات الدولة المصرية على تنظيم العملية الانتخابية في ظل جائحة كورونا العالمية، ولجوء عدد من دول العالم إلى تأجيل الاستحقاق السياسي، لكن الدولة المصرية تعاملت مع التحدي العالمي بمهنية شديد وإجراءات مشددة أقرتها الهيئة الوطنية للانتخابات لتنفيذ التباعد الاجتماعي، سواء خلال تصويت المصريين في الخارج أو داخل اللجان الانتخابية في الداخل ومحيطها، وتوفير الكمامات والمطهرات للحفاظ على الصحة العامة للهيئة الناخبة.

تعامل الدولة المصرية مع التحدي وإصرارها على إجراء الانتخابات وعدم اللجوء إلى تأجيلها يعطى مؤشرًا على اهتمامها بآلية التغيير المستمر للأطر السياسية الحاكمة، واستكمال بناء مؤسساتها التشريعية والحفاظ على حيوية التغيير والتداول المستمر للمقاعد البرلمانية.

وكان لسمة التنوع في الاتجاهات السياسية لأعضاء مجلس النواب الجديد إشارة بالغة الدلالة من الناخب المصري على أهمية ظهور التعدد في التركيبة السياسية التي ستدير العمل البرلماني، وهو ما توافق أيضًا مع التعديلات الدستورية الأخيرة في عام 2019 والتي نصت على التمثيل الملائم للمرأة والشباب والأقباط وذوي الاحتياجات الخاصة في القوائم الحزبية، وهو ما تحقق في برلمان 2021 والذي يشهد لأول مرة في تاريخ الحياة النيابية المصرية وجود 148 نائبة، وهو ما يجسد حرص الدولة المصرية على التمكين السياسي للمرأة.

التنوع كان ظاهرًا أيضًا في تمثيل الأحزاب السياسية، حيث وصل مرشحو  13 حزبًا إلى البرلمان، وهو ما يعطى للأحزاب الجادة فرصة أخرى للتواصل الفعال مع الهيئة الناخبة من خلال أداء نوابها ، كما يؤكد على عزم التجربة البرلمانية المصرية على أن تكون متوافقة مع معايير البرلمانات الديمقراطية  في النظم السياسية الدولية والذي يشارك فيه مختلف التوجهات السياسية والحزبية، ويعمل على ممارسة دوره الرقابي والتشريعي بما يلبي ‏طموحات واحتياجات المواطنين، في إطـار حكـم وسـيادة القـانون، وتعزيـز مبـدأ الفصـل المـرن بـين ‏السـلطات.

‏وكان الملمح الأهم هو تمكين شباب الأحزاب عبر تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين من الوجود في البرلمان، ومعهم عدد كبير من المستقلين، وهو مؤشر على اتجاه التجربة السياسية المصرية للاستفادة من طاقات الشباب وتوظفيها في تغيير خريطة النخبة السياسية في المستقبل بكوادر سياسية مدربة وتكتسب الخبرة السياسية خلال مشاركتها البرلمانية الفعلية، وهو ما يضمن الحفاظ على التنوع والثراء السياسي والفكري والأيديولوجي في البرلمان المصري القادم.

هذه النتيجة جاءت تأسيسًا على نجاح تجربة تشكيل القائمة الوطنية من أجل مصر، والتي جسدت شكلًا من أشكال الحوار الوطني بين أحزاب بعضها ينتمي إلى أقصى اليمين والبعض الآخر إلى أقصى اليسار، لكنها اتفقت على ضرورة نجاح التجربة ورفض أي إقحام للدين في السياسة أو السماح بوجود عناصر تنتمي لتنظيمات دينية فاشية، كما اتفقت ضمنيًا على خوض الانتخابات البرلمانية بتحالف انتخابي يضم 12 حزبًا سياسيًا بجانب تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، وكان بينهم نواب يمثلون المعارضة السياسية، وهو ما يعنى أن ذلك التحالف سينتهي بانتهاء الانتخابات وهو مؤشر على وجود اختلاف جذري بين مجلس نواب 2015 ومجلس 2021.

وقد حفلت نتائج الانتخابات بمفاجآت سياسية عديدة، منها اختفاء نموذج نائب “الشو الإعلامي” أو ‏النائب الذي يظهر في وقت معين خلال الجلسات معلنًا تأييده أو معارضته ‏لقانون أو موقف معين لمغازلة الرأي العام المتأرجح، دون عمل سياسي حقيقي ‏أو فعلي لخدمة الوطن والناس‎.‎

لقد عانت الحياة السياسية المصرية خلال السنوات الماضية من نخبة ‏سياسية صنعتها فترة الفوضى التي أعقبت أحداث 25 يناير وما شهدته من ‏مواءمات مع جماعة الإخوان الإرهابية وطفت على سطح الأحداث شخصيات بدون تاريخ سياسي ومن ‏خارج الأطر الحزبية والأيديولوجية صاحبة البصمة التاريخية في السياسة ‏المصرية سواء الليبرالية بزعامة حزب الوفد العريق أو اليسارية بقيادة ‏حزب التجمع، ثم وجدناها في البرلمان تدعي المعارضة أو الموالاة دون ‏برنامج واضح أو تأسيسًا على انتماء سابق لتيار أو أيديولوجية سياسية ‏معينة.

وكانت قدرة المصريين على الفرز أسبق من الجميع، ورغبتهم في التغيير واضحة في خسارة ‏تلك النماذج خلال الانتخابات بأصوات الناس الذين انتخبوهم في المرة ‏السابقة، ولأنهم لا يؤمنون بالتغيير الديمقراطي المبنى على قبول حكم ‏الصندوق الانتخابي في حالة الخسارة، كان متوقعًا منهم التشكيك في ‏النتائج رغم أن الصندوق لم يتغير في الحالتين ‏والإشراف القضائي متحقق والمراقبة الدولية تشيد بالنزاهة والشفافية‏.

قدمت هذه النماذج شكلًا من أشكال المعارضة المشوهة التي تستغل ‏حصانتها البرلمانية للتطاول على الآخرين، سواء على الدولة ومؤسساتها ‏ورموزها أو على الجانب الآخر التطاول على خصومها سواء في السياسة ‏أو الرياضة بما يحقق مصالحها الشخصية لا المصلحة العامة.

فيما تتشكل في البرلمان القادم ملامح معارضة مصرية مختلفة تقترب مع تكوينات المعارضة الموجودة في تجارب برلمانية عريقة، وهي المعارضة المؤسسة على انتماء حزبي وأيديولوجي واضح، وسيكون لها صوت مسموع في ظل عدم قدرة أي حزب آخر على الفوز بأغلبية المقاعد البرلمانية وهو ما يعني أن مصر ما زالت بلا حزب أغلبية، وهو ما يعمق التجربة الديمقراطية عبر تحالفات سياسية مختلفة ربما تظهر تحت قبة البرلمان خلال تمرير القوانين المختلفة مع تحقيق رقابة أقوى على الأداء الحكومي.

أغلب الظن أن البرلمان القادم سيحافظ على حالة الوحدة والإحساس بدقة اللحظة السياسية باستمرار تقديم الدعم لعمليات بناء الدولة المصرية ‏والتي تتم على أسس جديدة، في القلب منها بناء تجربة ديمقراطية تتناسب مع المتغيرات ‏الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يشير إلى أن الأداء ستغلب عليه روح الاتحاد بين ‏البرلمان والدولة بمعنى أن البرلمان سيستمر في لعب دور الظهير السياسي للدولة المصرية ‏مع مراعاة، عدم ظهور حزب حاكم حتى لا يثير شجون تجارب سابقة رفض ‏الشارع السياسي المصري عودتها‎.‎

معنى ذلك أن هناك معارضة قادمة في مجلس نواب 2021 ستخضع ‏بالتأكيد للتقييم من جانب الشارع المصري، ونجاحها مرتبط بنجاح تجربة بناء الكادر السياسي التي ‏أرستها تنسيقية شباب الأحزاب الحصان الأسود في البرلمان القادم والتي ‏دفعت بعدد كبير من شباب الأحزاب والسياسيين إلى العمل البرلماني، ‏ونجاحهم سيترتب عليه تغيير جلد الحياة السياسية المصرية والاقتراب من ‏تأسيس تجربة سياسية وديمقراطية تبتعد عن نائب “الشو الإعلامي” وتتناسب مع تطور الدولة المصرية وتحدياتها المتجددة.

شكل وتركيبة برلمان 2021 وحجم التغيير الكبير والتنوع الفكري والسياسي الذي يتمتع به أعضائه تؤكد أنه انعكاس لحالة الشارع المصري السياسي الذي لا يزال يمارس الفرز والانتقاء بين بدائل سياسية متعددة حتى يصل لشكل مستقر يتناسب مع احتياجاته وحجم التطور الحادث في المنظومة السياسية المصرية من جهة وحجم التعاطي المطلوب مع التحديات التي تواجهها الدولة التي تعيش في محيط مضطرب بالصراعات الإقليمية والدولية.

كما يعطي هذا التنوع مؤشرًا على أن اتجاهات وقوى التغيير الطبيعية الموجودة في المجتمع المصري وجدت لنفسها مكانًا تحت قبة البرلمان، وهو ما يضمن الحفاظ على حالة الاستقرار السياسي والأمني، وهو ما ينعكس بالضرورة على استدامة قوة الدولة المصرية كلاعب إقليمي مهم لأن التنوع والتعدد المبني على حوار ديمقراطي مستمر ومتواصل بشكل متعدد التوجهات السياسية مع المواطنين يضمن انخفاض الطلب المجتمعي على التغيير السياسي، خاصة وأن طاقة قوى التغيير سيكون لديها تحدٍ آخر وهو الوصول إلى حالة رضاء مجتمعي عن أدائها البرلماني وإثبات لوجودها السياسي وهو ما لن يتحقق دون تحقيق أهداف ملموسة لدى الهيئة الناخبة.

هذه الممارسات السياسية التي تعد جديدة على المجتمع المصري ستدفع بلا شك نحو تعميق الممارسة الديمقراطية وحضور أقوى لدولة سيادة القانون التي تتجسد عبر ممارسات البرلمان الذي يضمن تنوعه وتعدد توجهات أعضائه السياسية والأيديولوجية توجهه نحو تحقيق العدالة والمساواة للجميع في ظل دولة القـانون.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى