
فزّاعة العدو الخارجي…التيجراي وأزمة الدولة في إريتريا
ساهمت الخبرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، التي انبثق عنها الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، في صياغة سياسات ما بعد الاستقلال “للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة” برئاسة الرئيس أسياس أفورقي. الأمر الذي انعكس على شكل الدولة، وطريقة تعاطي النخبة الحاكمة مع قضايا البناء والتنمية فيما بعد الاستقلال.
وامتدت العلاقات الحاكمة للتعاون بين الأولى وقادة جبهة تحرير التيجراي لما بعد الاستقلال؛ على نحوٍ ساهم في صياغة أطر التعاون وملامح الصراع؛ فعقب الاستقلال مباشرة؛ شهد الطرفان فترة من التقارب والتعاون الاقتصادي، المرتكز على العلاقات الحميمية لقادة الجبهتين.
مع انقلاب أسياس على شروط حصول بلاده على الاستقلال، مقابل استمرار التنسيق الاقتصادي مع إثيوبيا، التي استخدمت الموانئ الإريترية، وسعت لإحكام السيطرة على الاقتصاد الإريتري، في ذات الوقت الذي أراد فيه أسياس لعب ذلك الدور.
الأمر الذي أسهم بدوره في دخول الجيش الإريتري في حربًا حدودية مع التيجراي، خلّفت قتلى وخسائر اقتصادية وإنسانية، ولم يتوقف أثرها عند هذا الحد؛ بل كان الموروث الأعظم في استمرار هيمنة عقيدة الحرب على النخبة التي حكمت الطرفين، وبالأخص على الجانب الإريتيري.
فساهمت حالة” اللاحرب واللاسلام” وحالة الجمود في العلاقات، على ما يقارب العقدين بين الطرفين، في انتهاج نظام الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، برئاسة أفورقي، لسياسات أبوية وقمعية، لا زال يدفع ثمنها الشعب الإريتري.
سياسة العدو على الأبواب
شكّلت “سياسة العدو على الأبواب” سلوك النخبة الحاكمة في إريتريا، منذ استقلالها حتى يومنا هذا؛ فتمت عسكرة السياسة والمجتمع ككل، بهدف مواجهة مخاطر توغل العدو الإثيوبي. وتغذية تلك المخاوف، باستدعاء المظالم التي تعرضت لها إريتريا، مع هيمنة الإمبراطور هيلاسلاسي، الذي أمعن في السيطرة عليها، من خلال جملة من الإجراءات، عقب بروز بوادر الأصوات الداعية للتحرر تزامنًا مع فترة الاتحاد الفيدرالي، فقام بضمها كإقليم عاشر لإثيوبيا، وقام بتعديل الدستور، وإلغاء الأحزاب، وصياغة نظام اقتصاد قائم على الإقطاع. ومن بعده، مثّلت فترة ” الإرهاب الأحمر” على يد نظام منجستو الاشتراكي.
ساعدت هذه الذاكرة التاريخية السلبية، في تعظيم هيمنة أفورقي، باعتباره قائد ثورة التحرير والأب المخلص، ففور وصوله على رأس الجبهة الشعبية؛ أدار البلاد بجانب شركائه إبان فترة التحرير بالعقلية الثورية، واستمرار المرحلة الانتقالية، التي لم تُفضٍ إلى إقامة مؤسسات دستورية راسخة، ولم تشهد البلاد أية ممارسات ديمقراطية أو دستورية ليومنا هذا.
– تعطيل الاستحقاقات الدستورية
فور إعلان الاستقلال انتخبت الجمعية الوطنية الانتقالية أسياسي أفورقي رئيسًا لإريتريا، وكان من المقرر أن تقوم الجمعية الوطنية في ديسمبر 2001 بإجراء انتخابات رئاسية، وتشريعية إلا أن ذلك لم يحدث، وظل أفورقي هو الرئيس الإريتري الأوحد في تاريخ إريتريا منذ استقلالها وحتى الآن.
فلم تجرٍ إريتريا انتخابات منذ استقلالها عام 1993، ولم تحدد اللجنة الانتخآبية ( تأسست في يناير 2002) موعدًا جديدًا بعد. ولم يتم تفعيل الدستور، مع هيمنة أعضاء الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكمة ” PFDJ” على الجمعية الوطنية المكونة من 150 عضوًا من أعضاء الجبهة، ورغم إقرار الجمعية التعددية الحزبية شكليًا إلا أن ذلك لم يترجم على أرض الواقع، منذ 2002.
– نظام التجنيد الإجباري
أحد أسوأ مظاهر تلك السياسية، التي خلّفت مجتمعًا هشًا، يعاني من ضعف التنمية؛ مع تفريغه من رأس المال البشري، ناهيك عن عدم التخصيص الأمثل لها؛ مع قيام نظام التجنيد في الخدمات المدنية بما لا يتوافق مع التخصص الدراسي.
فتم إقرار الإعلان المؤقت للخدمة المدنية 1995، لمدة 18 شهرًا؛ تنقسم إلى: ستة أشهر في الخدمة العسكرية، يليها اثني عشر شهرًا في الخدمة المدنية أو العسكرية؛ إلا أنه، خلال الحرب الحدودية، تم استدعاء الدفعات السابقة للتعيين، ولم يتم تسريحهم بعدها؛ ليتقرر بذلك نظام تجنيد إجباري مدى الحياة. ويشمل التجنيد كل من الرجال والنساء، على نحوٍ فاقم من مشكلات الشباب، الذين يعانون من سوء الخدمات وضعف المقابل، والعمل في ظروف صعبة، تصل إلى العمل في المنازل الخاصة للقادة في الحزب والجيش، على نحوٍ يمكن اعتباره نوعًا من أنواع العمل القسري.
وظلّ نظام التجنيد مرتبطًا بسردية النظام عن العدو الخارجي، وضرورة إحكام القبضة على الحياة السياسية الفارغة. واستمر هذا النظام، رغم الوعود المتكررة بإعادة النظر فيه، حتى مع توقيع اتفاق السلام الجديد مع آبي أحمد، لم يتم إعادة النظر في المظالم التي يعاني منها المتجتمع.
وهو النظام المتسبب في وقوع إريتريا ضمن أكبر الدول المصدّرة للاجئين، ربما تتجاوز دولًا تشهد صراعات. ويؤكد على ذلك، شاهدة إريتريو المهجر واللاجئين في كافة بقاع العالم.
– تنامي المظالم الاجتماعية
يعد ضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية أحد أسوأ مظاهر تلك المظالم، مما دفع بآلاف الإريتريين للفرار من البلاد، مع مواجهة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أثناء عبورهم وفي بلدان المقصد. فقد فرضت حالة القمع السياسي الداخلي وعدم الاستقرار والدخول في الكثير من الصراعات والخلافات الإقليمية قيودًا على حركة التنمية.
ولقد ساهمت ديناميات الصراع بشكل كبير في الأرقام والاتجاهات للجوء والهجرة؛ لتصبح إريتريا واحدة ضمن أعلى عشر دول إفريقية مصدّرة للاجئين حتى نهاية عام 2018. كما أن الأطفال الإريتريون من بين المراهقين المهاجرين بحثًا عن فرصة لإعالة أنفسهم أو إعالة أسرهم، وفقًا لتقرير الهجرة لعام 2020. وظلت إريتريا منذ الستينيات، إحدى كبرى الدول المصدّرة للاجئين، مع بداية خبرتها في حرب الاستقلال، والتي واصلت معاناتها من هذه التجربة مع اشتداد المظالم الاجتماعية، والافتقار للحقوق الأساسية للإنسان والحرية السياسية وفرص التعليم والعمل أو طلب اللجوء بسبب العسكرة.
وبالنظر للمؤشرات الاقتصادية؛ يحتل اقتصاد إريتريا المرتبة 177 في مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2020، كما تحتل المرتبة 47 أي الأخيرة بين ال 47 دولة في إفريقيا جنوب الصحراء. فضلًا عن معاناة الاقتصاد من التسييس والعسكرة، وارتفاع نسبة الإنفاق على التسليح، كما بلغ الدين العام نسبة 129.4% من النتائج المحلي الإجمالي، مع ضعف الاستقرار النقدي، وحيازة الصادرات والإرادات ما مجمله 53.3% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، ما جعلها وجهة استثمارية غير جاذبة. إذ أدت هيمنة مؤسسات الدولة واعتمادها على تمويل الدولة إلى زيادة الديون السيادية وانخفاض التصنيف الائتماني وزيادة هوامش الفائدة، وتعرض البلاد للصدمات الخارجية، مع تراجع الصادرات من المواد الخام، التي يعتمد الناتج المحلي على الجزء الأكبر منها.
إذ تفرض الحكومة قيودًا على النشاط الاقتصادي، كما ساهم انخراط شريحة كبيرة من الأيدي العاملة في الخدمة العسكرية إلى تدهور في الإنتاج الزراعي وساعد على عرقلة التنمية الاقتصادية، كما استنزف الإنفاق العسكري من الموارد اللازمة للبنية التحتية. فلا تزال إريتريا إحدى أقل بلدان العالم نموًا، حيث يعيش 80% من سكانها على زراعة الكفاف؛ ذلك القطاع الذي يعد بجانب التعدين إحدى القطاعات الرئيسية للاقتصاد الإريتري. كما تعاني إريتريا من انخفاض مؤشرات التنمية البشرية، وعدم تطابق المهارات، فتحتل المرتبة رقم 182 من 189 دولة. فقد كان الشتات الإريتري مصدرًا كبيرًا للتحويلات المالية الحيوية، حيث قام بتمويل حربها من أجل الاستقلال وتوفير 30% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد سنويًا، منذ الاستقلال. إلا أن هذه التحويلات تراجعت، مع انعدام مبرر الحرب، وتصاعد حدة المعارضة.
كما أنذر إزالة العقوبات عن إريتريا بجملة من التغير في المؤشرات الاقتصادية، وتوقعات اقتصادية بنمو الناتج المحلي الإجمالي ليرتفع إلى 3.9% لعام 2020 و4.0% لعام 2021، مع توقع بنمو نصيب الفرد من الدخل لنحو 1.8% لعام 2019 لحوالي 2.6 لعالم 2021، غير أن احتمالية انجرار البلاد للحرب مرة أخرى قد يجهض كافة التوقعات.
– تقييد الحقوق والحريات
غلّفت سياسات الحرب كافة أوجه الحياة والممارسات السياسية للبلاد؛ فتم تقييد الحقوق والحريات للأفراد؛ كتقييد الحق في التنقل والسفر للأفراد، مع فرض الخدمة الوطنية العسكرية الإلزامية لأجل غير مسمى، إذ يتعرض الأفراد للاعتقال أو القتل حال ضبطهم متهربين عبر الحدود. ويصل عمر الأشخاص للستين عامًا في تأدية الخدمة العسكرية، هذا فضلًا عن العمل القسري، في إطار الخدمة الإجبارية، فرغم مناداة المجتمع المدني بتقنين الخدمة العسكرية، إلا أن الأطفال دون 18 سنة لا زالوا يخضعون للتدريب العسكري، في معسكر تدريب” سوا”. هذا فضلًا عن مصادرة الأفراد في حقوق التملك؛ فتؤول تبعية الأراضي للحكومة، مع انعدام الملكية الخاصة، وإمكانية مصادرة الملكيات الخاصة دون قانون أو تعويض.
ناهيك عن حالة الحقوق والحريات العامة، في المعتقد والدين والممارسات السياسية؛ فوفقًا لتقارير منظمة العفو الدولية، تمّ وضع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الإريترية تحت الإقامة الجبرية عشر سنوات؛ لاعتراضه على تدخل الحكومة في شؤون الكنيسة.
هناك حالة من الإغلاق الشديد على مستوى الإعلام والمجتمع المدني، الذي لم تترك مساحة للمجتمع المدني، خوفًا من تنامي دوره في تفعيل أنماط المشاركة السياسية، بما يمثل ضغطًا على الحكومة. وبهذا، لم ينشط المجتمع المدني، سوى في الخارج، بهدف الضغط على الحكومة، كالتحالف الديمقراطي الإريتري المعارض، الذي تستضيفه إثيوبيا، في مؤشر على توظيف قضايا الداخل في سياسات المحاور والاستقطاب الخارجي.
– سياسة المحاور الإقليمية
شهدت الفترة التي استقلت فيه إريتريا، تصاعد حدة الاستقطاب الإقليمي، والصراعات الداخلية التي شهدتها بعض الدول، تزامنًا مع التحولات التي شهدها النظام الدولي. ففي تلك الأثناء، صعد نظام البشير في السودان، وسقطت الحكومة في الصومال، وتصاعدت وتيرة المعارضة المسلحة والحروب الأهلية ودعوات الانفصال. وهو المشهد الذي لم يخلٌ من تدخلات وأدوار القوى الكبيرة، المتنافسة على الثروات والباحثة عن دور ريادي في المنطقة.
لهذا، كان من الطبيعي أن يكون صعود إحدى الدولتين إقليميًا يأتي على حساب الأخرى؛ مع انهيار مشروع التكامل في القرن الإفريقي، بين ميليس زيناوي وأسياس أفورقي. فجاء انحياز الولايات المتحدة لدورإثيوبي أكبر، ما دفع بتهميش إريتريا، وساهم في رسم ملامح سياستها الخارجية وبناء أجندة تحالفاتها، الأمر الذي انعكس في مجمله على شكل وتطور نظامها السياسي.
انصرف موقف الولايات المتحدة على إسرائيل وأوروبا، فرغم استمرار متابعة إسرائيل لعلاقتها مع إريتريا، إلا أنها أصبحت هامشية ومحدودة مقارنة بجارتها إثيوبيا. ساهمت تلك البيئة الإقليمية والدولية الضاغطة في تشكيل مدركات القيادة الإريترية، على نحوٍ ساهم في صياغة تحركاتها وبناء تحالفاتها لكسر تلك العزلة، في ضوء إدراكها لمجمل القيود والفرص المفروضة عليها داخليًا وإقليميًا ودوليًا.
وهو ما دفع بأفورقي لبناء تحالفات مع إيران وتركيا، واليمن والصين وغيرها من القوى الإقليمية والدولية، في مواجهة المعسكر الغربي، الذي فرض العزلة عليه، مع توقيع مجلس الأمن عقوبات على إريتريا، مع اتهامها بتقديم الدعم لحركة الشباب المجاهدين الصومالية. وبمتابعة تحركات وعلاقات الطرفين، يمكن فهم حجم التناقض الاستراتيجي بينهما، والذي بدوره فرض على كل من يريد اختراق منطقة القرن الإفريقي أن يختار أيًا من النظامين على حساب الآخر.
كما شاركت الدولتان في حروب بالوكالة الإقليمية في الصومال، ولعل توظيف ورقة المعارضة، واستضافة كل نظام معارضة النظام الآخر، كانت السمة الغالبة للنظم الحاكمة في كلٍ من إثيوبيا وإريتريا والسودان. واتخذت تلك النظم وجماعات المعارضة من قضايا الحدود المشتركة بين دول الجوار، أداة ضغط يمكن توظيفها ريثما اقتضى الأمر. وظلت ورقتي الحدود والمعارضة أزمة ممتدة، والتي أنذر بإعادة فتحها مرة أخرى، كان الصراع الجاري بين آبي أحمد والتيجراي.
فلم يوفر الإعلان المشترك للسلام والصداقة، بين آبي وأسياس أية أسس للسلام بين الطرفين، بل يمكن اعتباره اتفاق الرجلين ضد عدوهما التقليدي ” التيجراي”، وقد كان هذا الاتفاق أحد عوامل الأزمة القائمة. وعلى الرغم من مساعي آبي لكسر العزلة التي عانى منها أفورقي، وعقده لاتفاقات مصالحة مع جيبوتي والصومال، ومع إزاحة البشير عدو أسياس في السودان؛ غير أن كافة التحولات الإقليمية هذه، لم تفض إلى تغيّر حقيقي في السياق الاستراتيجي الذي يقع فيه نظاما آبي أحمد وأسياس أفورقي، ولم تنتفٍ عوامل التهديد المشترك والمتبادل بين البلدين. إذ كشفت تطورت الأمور على مدار العامين التاليين على تقاربهما، عن عمق جذور الأزمات الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ.
ولعل التصريحات الأخير لوزير الخارجية الإريتري ” يماني جبريميسكل”، بأن ما تقوم به مفوضية الأمم المتحدة، ما هو إلا محاولة لإخلاء البلاد من سكانها. ذلك ردًا على تصريحات المفوضة الأممية بأن ممارسات النظام الإريتري تنافي القانون الدولي، على خلفية مهاجمة الجيش الإثيوبي لمخيمات اللاجئين الإريتريين في إقليم تيجراي، واستعادتهم جبرًا للبلاد، بعدما فرّوا من الخدمة الإجبارية. يعكس ذلك الأمر، استمرار انعدام الثقة المتبادل بين النظام الإريتري والمنظمات الدولية. ما يعكس في مجمله، استمرار العقيدة الراسخة الإريترية المنعزلة دوليًا، وأن وسلام آبي أحمد، لم يكن انعكاسًا لتغيرات جوهرية في مجمل الأمور التي أنذر السلام بتغيرها.
– ظهور الشبح
فمع اندلاع المواجهة بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي وجبهة التيجراي؛ دخلت إريتريا على خط الأزمة، مع قيام جبهة التيجراي بتوجه صواريخ طالت العاصمة أسمرا. جاء ذلك، بدعوى انحياز أسياس لآبي في مواجهتهم، ومشاهدة جنود إريتريون في ساحات الصراع، ودخول الجنود الإثيوبيين للحدود الإريترية ومعاودة الهجوم مرة أخرى.
بهذا المشهد؛ ظهر الشبح الخفي، الذي ظلّ المجتمع والجيش الإريتري في حالة تأهب لمواجهته على مدار عقدين. هذا الشبح، الذي إذا انجرت إريتريا في مواجهة مباشرة معه مرة أخرى، فلن تقف عن تلك الحدود، بل سينجر الإقليم برمته لتلك الساحة المشتعلة، التي يرغب في دخولها أحد.
فتشير تقارير إلى قيام أسياس برفع حالة التعبئة في الجيش الإريتري، منذ أكتوبر، في الوقت الذي تؤكد فيه التقارير عن رفض الجنود الإريتريين من قبيلة –بني عامر- الدخول في مواجهة مع التيجراي، وهروبهم إلى كسلا في السودان.
وهو الموقف الذي يرفع من مؤشرات انجرار السودان هي الأخرى لتلك الحرب، إذا تم تدريب المعارضة الإريترية من بني عامر والمتحالفة مع التيجراي في مواجهة نظام أسياس. وبالتبعية، تقديم الدعم للتيجراي، للضغط على آبي أحمد في ملفي المياه والحدود مع ولاية أمهرا. غير أن السودان لا يرغب في دخول تلك الساحة، مع رحيل البشير حليف التيجراي، ومع إمكانية تقديم إثيوبيا وإريتريا دعمًا للبجا وللمعارضة السودانية في ولايات الشرق السوداني. وربما زيارة مبعوث الرئيس الإريتري للسودان في 11 نوفمبر جاءت في ذلك السياق، لإثناء السودان عن تبني تلك الخطوة، والتنسيق مع الجيش السوداني لقطع الدعم اللوجستي المقدم للتيجراي من الجماعات القائمة في ولايتي كسلا والقضارف، تأتي تلك الزيارة في إطار الزيارة التي قام بها رئيس مجلس السيادة ” عبد الفتاح البرهان” لإثيوبيا في الأول من نوفمبر، التي أعلن خلالها تعزيز السيطرة على الحدود مع إثيوبيا. غير أن امتناع السودان عن التورط في ذلك النزاع، لا يقضي بالضرورة إقدام آبي على تسوية ملف المياه، أو التنازل عن أراضي مثلث الفشقا، خوفًا من خسارته لدعم أمهرا.
في نهاية الأمر، لا زالت المعارضة الإريترية التي تستضيفها التيجراي والمؤمنة بقيام دولة التيجراي الكبرى، تعمل من داخل الإقليم وخارجه، وإذ تم توظيف تلك المعارضة وتقديم الدعم لها، فإنها ستمثل بجانب جبهة التيجراي تهديدًا لنظام أفورقي ولإريتريا. غير أن الأمر لا يقف على المعارضة المتمثلة في “حركة أغازين”، فهناك الكثير من التنظيمات والأحزاب بالداخل والخارج، باتت رافضة لنظام أفورقي الأبوي، سواء كانت هذه المعارضة تؤمن بالأهداف القومية أم ترغب في تحقيق حلم التيجراي الكبرى، وسواء أكانت عربية أم تنتمي لعرقيات أخرى وسواء أكانت مسلمة أم مسيحية مع اختلاف طوائفها. ناهيك عن انقسام النخبة الحاكمة نفسها حول خلافة أفورقي، بحكم مرضه وسنه، وتنامي تلك الانقسامات داخل المؤسسات الحاكمة، ورفض خلافة ابن أفورقي، ولعل هروب بعض جنود الجيش مؤخرًا رفضًا في الانجرار في حروب إقليمية، يعكس في مجمل الأمر حالة الاستقطاب الداخلي التي يعايشها النظام والمجتمع معًا.
كل هذه الثنائيات من المعارضة، سواء تلقت دعمًا من الخارج أم لا، وسواء تبنت مشروعات قومية أم إقليمية، وسواء تمّ توظيفها لحساب أجندات خارجية ومصالح واستقطابات إقليمية ودولية أم لا، لن تغير من حقيقة أن نظام أفورقي بات على المحك، على أقل تقدير إن لم يكن بفعل تغيير من الداخل بإرادة أعضاء الجبهة، أو تغيير مفروض من الخارج، أي من خارج النظام، مدفوع بتلك الضغوط، مع ضعف وتشرذم تلك المعارضة، فإن سيناريو رحيله بقضاء إلهي؛ أصبح أمرًا مطروحًا بحكم السنة الكونية وبحكم حالته الصحية.
ويفرض هذا الوضع المتفاقم والملتبس على مصر تحديدًا- والتي هي براء مما تشهده تلك البقة الهامة لأمنها القومي- ضرورة الاستعداد لبناء موقف وتصور من مستقبل تلك المنطقة، وتحديدًا، من مستقبل النظام الإريتري. فتاريخيًا، شهدت الحركات الثورية الإريترية حالة من الانقسام والتباين، كانت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا الاستثناء، فاستطاعت حشد جهود المقاومة، والظفر بالاستقلال، ومن ثمّ المكوث على رأس الحكم برئاسة أفورقي حتى الآن. فكان للجبهة نصيبًا من الدعم المصري لها، بحكم الدعم المصري لحركات التحرر الوطني، وبحكم انحياز مصر لإرادة الشعوب وإيمانها بحقها في تقرير مصيرها، لم تكن مصر بعد ذلك مسؤولة عن قمع نظام أسياس الأبوي. وعليه، لا يتصور أي تردد في الموقف المصري في الانحياز لأية حركة قادرة على قيادة التغيير لصالح إعادة بناء الدولة الإريترية.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



