تركيا

تراجع الحد الأدنى للأجور في تركيا: ليست أزمة المواطن الأولى أو الأخيرة

شهد الاقتصاد التركي انتكاسة جديدة بحلول أواخر العام الجاري مع انخفاض الحد الأدنى للأجور إلى أقل من 300 دولار، وذلك لأول مرة منذ عشر سنوات؛ إذ تراجع الحد الأدنى للأجور من 392 دولار (2324 ليرة تركية) في يناير 2020 ليصل إلى 296.8 دولار في ديسمبر 2020.

وبانخفاض الحد الأدنى للأجور في تركيا إلى أقل من 300 دولار، تكون الفجوة بين أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي قد اتسعت كثيرًا، فأعلى حد أدنى للأجور في دول الاتحاد الأوروبي هي لوكسمبورج التي يصل فيها إلى أكثر من 2000 دولار. ويعتبر تدنى الأجور صفعة إضافية للمواطن التركي الذي يعاني من ظروف اقتصادية صعبة في البلاد منذ عدة سنوات خاصة في ظل انهيار قيمة الليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم.

وانطلاقًا مما سبق، يستهدف هذا المقال التعمق في ظروف الاقتصاد التركي من الناحية الاجتماعية وانعكاسات هذا الأمر على المواطن التركي.

أزمات متلاحقة أمام المواطن التركي

تزامن انخفاض الحد الأدنى للأجور مع اتخاذ الحكومة التركية قرارًا بتطبيق زيادة جديدة في أسعار البنزين بنحو 18 قرشًا للتر الواحد ابتداءً من اليوم الاثنين الموافق الرابع عشر من ديسمبر. ويباع لتر البنزين حاليًا بحوالي 7 ليرات و6 قروش في إسطنبول، و7 ليرات و10 قروش في العاصمة أنقرة، و7 ليرات و12 قرشًا في إزمير.

وكانت السلطات التركية قد كشفت النقاب في الثاني من ديسمبر الجاري عن رفع أسعار الغاز المسال للسيارات، بمقدار 8 قروش للمتر المكعب الواحد، بعد أقل من أسبوع من زيادة أقرتها السلطات في السابع والعشرين من نوفمبر الماضي على أسعار الديزل بنحو 28 قرشا للتر.

والجدير بالذكر أنه في الثاني عشر من نوفمبر، كانت السلطات التركية قد رفعت أسعار البنزين 19 قرشًا للتر، في زيادة هي الثانية خلال أسبوع واحد، بعد زيادة بمقدار 17 قرشًا للتر، وبمقدار 16 قرشًا للتر الديزل في الرابع من ذات الشهر. هذا، وقد سجلت أسعار المحروقات في تركيا زيادات عدة منذ مطلع العام الجاري؛ على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب السياسات التي يتبناها الحزب الحاكم.

انعكاسات الأزمات الاقتصادية المتلاحقة على المواطن 

لم تؤثر الأزمة الاقتصادية على نظرة المجتمع الدولي لتركيا فحسب كما إنها لم تقتصر على تراجع تقييمات المؤسسات الدولية فقط بل إنها انعكست بشكل مباشر وسلبي على المواطن التركي ومستوى معيشته. ومن هذا المنطلق، أعلنت غرفة تجارة إسطنبول عن ارتفاع مؤشر تكاليف المعيشة في إسطنبول خلال العام الحالي بنسبة 14.07%، وعن نوفمبر وحده، نجد أن المؤشر قد ارتفع بنسبة 1.94% مقارنة بزيادة قدرها 2.45% في أكتوبر. 

وعلاوة على ذلك، ارتفعت نفقات المواد الغذائية بنسبة 3.17 %. خلال نوفمبر، وزادت نفقات الإسكان بنسبة 1.58 %، وبلغت نسبة الزيادة على نفقات النقل والمواصلات 1.34 %، وزادت نفقات السلع المنزلية بنسبة 0.79%، وارتفعت نفقات الرعاية الصحية والشخصية بنسبة 0.20 %.، كما زاد الإنفاق على الملابس بنسبة 1.90 %، بينما انخفضت نفقات التعليم الثقافي والترفيه بنسبة 0.18 %.

وقد تجلى ارتفاع مستوى المعيشة في القفزة التي حققها مؤشر أسعار المستهلكين بتركيا خلال ذلك الشهر، وهو ما يُمكن توضيحه بالشكل الآتي:

الشكل (1): مؤشر أسعار المستهلكين الشهري خلال 2020

Source: Trading Economics, Turkey Consumer Price Index (CPI).

يتبين من الشكل السابق ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين بنحو 11.6% خلال 2020؛ إذ قفز من 446.45 نقطة خلال يناير 2020 مسجلًا 498.58 نقطة في نوفمبر من نفس العام. ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى تراجع قيمة الليرة مقابل الدولار مما يرفع من قيمة فاتورة الاستيراد ويصب مباشرة في رفع معدل التضخم الذي يعد مؤشر أسعار المستهلكين أحد مؤشراته.

ومع ارتفاع التضخم وانهيار قيمة الليرة وتراجع الاحتياطي النقدي، كما سنذكر بالتفصيل لاحقًا، تراجعت ثقة المستهلكين في الاقتصاد التركي وقدرته على التعافي، وهو ما يوضحه الشكل التالي:

الشكل (2): مؤشر ثقة المستهلك خلال 2020

Source: Trading Economics, Turkey Consumer Confidence.

بالانتقال إلى مؤشر ثقة المستهلك، نلاحظ تراجع قيمة المؤشر بنحو 2.19% على أساس شهري من 81.9 نقطة في أكتوبر 2020 إلى 80.1 نقطة خلال نوفمبر الماضي. كما يتضح أن المؤشر سجل أدنى مستوياته خلال العام الجاري في أبريل عند مستوى 78.1 نقطة، وذلك بضغطٍ من انتشار جائحة كورونا في جميع أنحاء العالم.

وبناء على ما سبق، شهدت تركيا نحو 1370 حالة انتحار بسبب الفقر منذ عام 2015، مع حدوث 566 حالة انتحار خلال العامين الماضيين فقط، كما وصل إجمالي عدد حالات الانتحار بسبب الفقر منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم إلى 4801 شخصًا.

ووفقًا لمجموعة المناصرة لمجلس الصحة والسلامة في مكان العمل (İSİG)، يُعد الفقر السبب الرئيسي لنحو 7.3% من حالات الانتحار خلال 2018، و9.4% من إجمالي حالات الانتحار خلال عام 2019، وهو ما يشير إلى إمكانية ارتفاع النسبة خلال 2020؛ إذ أنهى 54 شخصًا حياته خلال أول ثمانية أشهر من عام 2020. وتشير جميع التوقعات إلى إمكانية زيادة حالات انتحار العمال هذا العام بسبب ظروف العمل السيئة الناتجة عن جائحة “كوفيد -19”.

وجاءت حالات الانتحار تلك كما سبق القول نظرًا لتردي مستوى المعيشة وارتفاع معدلات الفقر؛ إذ كشف أحد التقارير عن تضاعف حد الجوع في تركيا خلال فترة حكم فيها حزب العدالة والتنمية أكثر من خمس مرات، حيث قفز حد الجوع من 15.3 ليرة في عام 2003 إلى 79.50 ليرة، أي أن الأسرة المكونة من 4 أشخاص تحتاج 79.5 ليرة يوميًا لتتغذى بشكل صحي.

لمحة سريعة عن الأزمات الاقتصادية بتركيا

كما ذكرنا سلفًا، تعاني تركيا من أزمة اقتصادية خانقة على جميع المستويات بداية من ارتفاع التضخم وانهيار الليرة وتراجع معدل النمو وتسجيل مستويات مرتفعة من عجز الموازنة إلى تفاقم أزمة الديون الخارجية التي تشير البيانات الرسمية إنها في طريقها إلى المزيد من السوء. ويُمكن الاستناد إلى المؤشرات التالية للاستدلال على مدى سوء الأوضاع في تركيا. 

1- الاحتياطي النقدي وسعر الصرف

سجلت تركيا انخفاضات متتالية في حجم الاحتياطي النقدي –متضمنًا الذهب- منذ بداية العام الجاري وهو ما انعكس مباشرة على سعر صرف الليرة مقابل الدولار كما يتضح من الرسم البياني الآتي:

الشكل (3): الاحتياطي النقدي (مليار دولار)

https://lh5.googleusercontent.com/npn9F0Id058dEiDmRrTR0FlBDfTy5z6tuAPKUDKQXTBAnqiFeG28yAz4lqaTmbxTG7LfaUlMPDs20rJBUOE8Oe35o0CRx737UCs7AE3oOcKnpDyih59-AhsIs_TdPNk90SYA11eq3-5S39j_Og

يوضح الشكل السابق تراجع الاحتياطي النقدي التركي –متضمنًا الذهب- بنحو 15.75% من 102.5 مليار دولار في يناير 2020 إلى 86.35 مليار دولار بحلول أغسطس الماضي. ونتيجة لهذا، تراجعت قيمة الليرة التركية -التي شهدت انهيارًا في قيمتها منذ عام 2018- وهو ما يوضحه الشكل التالي:

الشكل (4): سعر صرف الليرة مقابل الدولار اليومي خلال 2020

يتبين من الرسم السابق تسجيل الليرة التركية مستويات منخفضة للغاية مقابل الدولار خلال شهر أكتوبر وبداية شهر نوفمبر لتبدأ في التعافي عقب ذلك حتى أوائل ديسمبر، ومن ثم بدأت في التراجع مرة أخرى؛ إذ سجلت 7.9 ليرة مقابل الدولار حتى الحادي عشر من ديسمبر الماضي.

مع إلقاء نظرة أكثر شمولية على معدل التضخم الشهري في تركيا بدلًا من مؤشر أسعار المستهلكين سنجد أنه سجل ارتفاعًا شهريًا أيضًا خلال العام الجاري، وهو ما يتضح من الشكل التالي:

2 – معدل التضخم

يتضح من الشكل السابق ارتفاع معدل التضخم خلال نوفمبر إلى 14.03% مقابل 11.89% سجلها في أكتوبر، بزيادة قدرها 2.14%، ومقارنة مع 12.5% سجلها في أوائل العام بزيادة تبلغ 1.53%.وفي الختام، يُمكننا القول إن أزمة تراجع الحد الأدنى للأجور إلى مستوى منخفض للغاية لم تشهده البلاد منذ 10 سنوات، لا تعتبر الأزمة الأخيرة التي سيشهدها المواطن التركي؛ إذ إنه من المتوقع تردي أحوال المعيشة بشكل أعمق خلال الفترة المقبلة وفي ظل استمرار اتخاذ سياسات اقتصادية على نفس النهج.


+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

بسنت جمال

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى