مكافحة الإرهاب

إلى أين يصل التحريض والتوظيف التركي للإسلام الحركي في فرنسا وأوروبا؟

استيقظت فرنسا الخميس ٢٩ أكتوبر، على صباح دموي،  حيث لقي 3 أشخاص مصرعهم من بينهم امرأة قُطِع رأسها داخل كنيسة نوتردام بمدينة نيس الفرنسية، إثر هجوم شخص بسلاح أبيض، ويشبه بكونه مهاجر تونسي الأصل قادم من إيطاليا، حسبما أفادت وسائل إعلام فرنسية. إذ قال عمدة نيس أن منفذ الهجوم ظل يردد “الله أكبر” أثناء تنفيذه لهجومه وبعد أن أردته أعيرة الشرطة جريحاً.

فيما قتلت الشرطة الفرنسية رجلاً أشهر سلاحه أمام المارة في مونتفافيه بالقرب من مدينة أفينيون بعد أن هدد الشرطة بمسدس. وتعرض حارس لهجوم خارج القنصلية الفرنسية بجدة بالسعودية. وقبض على المشتبه به ونقل الحارس إلى المستشفى.

وتوجه الرئيس الفرنسي لموقع الحادث، فيما فتحت النيابة العامة لمكافحة الإرهاب تحقيقا في جريمة القتل ورفعت فرنسا نظام تنبيه الأمن القومي إلى أعلى مستوياته.

أثارت حادثة كنيسة نوتردام بمدينة نيس المطلة علي البحر المتوسط الجدل والانتباه مجدداً لإشكالية الإسلام السياسي وتوظيفه من قبل الأطراف الإقليمية لتحقيق مكاسب خاصة، فضلاً عن وضع قضية المواطنة والهوية وقيم الجمهورية الفرنسية أمام تحدِ ومقاربة جديدة في سياق توفير هذه القيم العلمانية البيئة المثلي لإنماء المزاج الإسلاموي الراديكالي في فرنسا تحديداً من بوابة الحريات الدينية.

إلا أن ثمة معالجة لظاهرة الهجمات الدموية التي عادة ما يرتكبها أشخاص غير منضويين تحت لواء التنظيمات الإرهابية، يجب أن تأتي في سياق تطور الظاهرة الإرهابية وكذا الخطاب الإسلاموي الشعبوي – الأممي – المغذي لنزعات الانعزالية وتباعاً العنف الطائفي.

أولاً: تكتيكات منهج داعش للتأقلم .. والرعاية الإقليمية

في ديسمبر من العام 2016، بث تنظيم داعش الإرهابي اصداراً مرئياً شرح من خلاله طريقة استخدام السكاكين ومختلف قطع السلاح الأبيض في القتل، والمواضع التي يجب تركيز الطعن فيها، وأفضل أنواع السكاكين ومواصفاتها. ولاقي الإصدار رواجاً ملحوظاً لدي قطاعات من المتلقين والمتحمسين المراهقين وخاصة أولئك القاطنين في أوروبا. بيد أن نشر التنظيم الإرهابي للإصدار المرئي تزامن مع بداية تلقيه خسائر استراتيجية وطرده من المدن التي كان يسيطر عليها في الأراضي العراقية والسورية. فكان رهان التنظيم على تكتيكات مغايرة تساهم في تأقلمه مع البيئة الأمنية الجديدة له، ومن هذه التكتيكات كان نمط “الذئاب المنفردة” أو “الانفراديون” كما تطلق عليه الدراسات الأكاديمية الغربية المعنية بدراسة الظاهرة الإرهابية.

“الذئاب المنفردة” الرهان الأبرز لتنظيم داعش بعد انزواء سيطرته الميدانية جراء تضافر عمليات التحالف الدولي والحملة الروسية العسكرية في سوريا مع القوات المسلحة لكل من سوريا والعراق. ففي تكتيك “الذئاب المنفردة” يمكن للأشخاص المتطرفين القيام بعمليات إرهابية من دون أن يرتبطوا تنظيميا، بالتنظيمات الإرهابية وخلاياها النائمة. وهنا باتت المعادلة (شخص يتشبع بفكر متطرف + أيديولوجيا الحاكمية الإسلامية + محفز ديني)، لتصبح لدينا حادثة إرهابية. فعلى هذا النمط وطبقاً لهذه المعادلة نُفِذَت في أوروبا أكثر من 30 عملية طعن ودهس، نفذها مواطنون ولاجئون غير مرتبطين رسمياً بأي من التنظيمات الإرهابية، ما شكل تحدي إضافي للأجهزة الأمنية الأوروبية المعنية بالداخل الأوروبي، كما شكّل أيضاً فرصة للقوي الراعية للنشاط الإرهابي، لتوظيف واقع تشظي الظاهرة الإرهابية بصورة لا تتحمل معها أي مسؤولية عن مخرجاتها، فالمنفذ لعملية الطعن والدهس غالباً لا ينتظر أمراً شفهياً بالتحرك.

هذا فضلاً عن حرص تركي على ترحيل أكثر من 100 من مقاتلي “داعش” إلى ألمانيا وأوروبا. من دون الالتفات لمخاطر الترحيل. كما أفادت عدة تقارير أمريكية تفيد بأن تركيا مازالت مستمرة كنقطة ارتكاز لنقل مقاتلي تنظيم داعش.

الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلي اتهام تركيا بالعمل مع مقاتلين مرتبطين بتنظيم داعش الإرهابي، وذلك في ديسمبر من العام الماضي.

ثانياً: من التحريض إلي التحريك:

وبالنظر لقوائم منفذي عمليات الطعن والدهس في أوروبا، يتضح أن الغالبية الساحقة منهم كانت تحت سن الـ 35، ومرت على المراكز والمنظمات الإسلامية التي تعمل وفق قوانين وأجندة الحريات للدول الأوروبية. الأمر الذي دفع بالعديد من الحكومات إلى إعادة النظر لمقاربة الحريات لديها، وكذا نشاط هذه المنظمات والمراكز ووضعها تحت المراقبة الصارمة ولاسيما بعد أن اتضح ارتباط غالبيتها بأطراف وقوي إقليمية ترعى ظاهرة الإسلام السياسي بنسختيه. ففي الحالة الألمانية، أُنيطت بأجهزة الاستخبارات الداخلية متابعة نشاط المراكز والمنظمات الإسلامية. وقد نجحت جهود الاستخبارات الداخلية في تتبع نشاط ميليشيا حزب الله اللبناني وكشف نشاطه الإجرامي، ومن ثم حظرت برلين جميع أنشطة الحزب وشنت حملة أمنية ضد أذرعه، وصنفته كتنظيم إرهابي في إبريل ٢٠٢٠. فيما لم تضيق السلطات الألمانية الخناق على المنظمات الإسلامية ذات الارتباطات التركية، حيث نجحت الحكومة التركية في تثبيت وضع أكثر من 3 مليون ألماني من أصل تركي كفاعل ومحدد للعلاقة بين أنقرة وبرلين. حيث يتحكم الرئيس التركي في أصوات 3 ملايين ناخب داخل ألمانيا.

أما في الحالة الفرنسية، فقد نظر صانعوا السياسة في الإليزيه ومجتمع الاستخبارات للحالة الألمانية، كونها باعثة على القلق، ولا ينبغي لباريس أن تصل لهذه المرحلة، والتسليم باستحواذ وسيطرة تركيا على الكتلة الإسلامية ومزاجها ونمط معيشتها في فرنسا. حيث تضم فرنسا أكبر جالية مسلمة في غرب أوروبا، بإجمالي 6 ملايين نسمة. كما يشكل المسلمون نحو 10% من سكان البلاد. وعليه، بدأت الحكومة الفرنسية في تدشين وإطلاق مشروع ضد ما أسماه الرئيس الفرنسي “الانفصال الشعوري”، لمعالجة انتشار ظاهرة الانعزالية لدي قطاعات وشرائح كبري من المواطنين الفرنسيين المسلمين، وظهور مدارس ومناهج تعليمية موازية للمناهج الحكومية الفرنسية، حيث يدرس أكثر من 50 ألف طفل في المنزل ضمن مناهج أعدتها خصيصاً المراكز والمنظمات الإسلامية في فرنسا والتي يبلغ عددها بالمئات. فضلاً عن تورط مواطنين فرنسيين مسلمين في الأعمال الإرهابية التي حدثت في قلب مدن فرنسا منذ حادثة باريس في نوفمبر 2015. تجدر الإشارة أن مشروع القانوني الفرنسي اشتمل على وقف انتداب الأئمة من الخارج ومنهم أتراك، والذين وصلت أعدادهم حتي اللحظة نحو 300 إمام يسيطرون على مساجد هامة بالدولة الفرنسية وتراهم الحكومة الفرنسية مروجي للتوجه الإسلاموي للسياسة الخارجية التركية.

وعليه أثارت خطوات الحكومة الفرنسية غضب أنقرة، التي سرعان ما أعلنت عن امتعاضها من مشروع القانون الفرنسي، ووصف الرئيس التركي نظيره الفرنسي بأنه يعتدي على الإسلام، في مناسبات عدة منذ مطلع الشهر الجاري. بيد أن مشروع القانون الفرنسي يضع في بنوده:

  1. إنهاء نظام الأئمة المبتعثين من الخارج في غضون أربعة سنوات والذين تصل أعدادهم إلى 300 إمام قادمين من تركيا.
  2. تحسين الرقابة على تمويل المساجد.
  3. تقييد التعليم في المنزل.
  4. مراقبة أكثر صرامة للمنظمات الرياضية والجمعيات الأخرى والمساجد الخاضعة للتدخل الأجنبي حتى لا تصبح واجهة لتعاليم متطرفة.
  5. منع الممارسات التي تهدد المساواة بين الجنسين.

تجدر الإشارة أن الحكومة الفرنسية أغلقت قرابة 250 مؤسسة ومدرسة تبشر بأيديولوجيا متطرفة خلال الثلاث سنوات الماضية، كما أن القيادة المركزية للمؤسسات والمراكز الإسلامية في فرنسا تخضع لـ “اتحاد المنظمات الإسلامية” التابع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. حيث أفادت تقارير بتمويل قطر لأكثر من 20 منظمة إسلامية في فرنسا، حيث دعت عضوة مجلس الشيوخ الفرنسي “ناتالي جوليه” في مقال لصحيفة “لوفيجارو” الفرنسية، إلى ضرورة تحلي السلطات الفرنسية باليقظة تجاه المنظمات الإخوانية التي تسهم في نشر التطرف في فرنسا، بدعم وتمويل من قطر.

وكانت “جوليه” قد ترأست لجنة تحقيق بشأن التنظيم ووسائل مكافحة الشبكات الإرهابية في فرنسا وأوروبا، بمجلس الشيوخ. واتصالًا بهذا السياق، فتحت الحكومة الفرنسية تحقيقًا بشأن تمويل المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية التابع لتنظيم الإخوان المسلمين. 

بالإضافة لتوجه الحكومة الفرنسية لتحجيم نشاط الإسلام السياسي بالبلاد، أشعلت أزمة الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص)، الأجواء المسمومة بين الدولة الفرنسية وشرائح مسلمي البلاد، ومن جهة بين باريس وأنقرة. حيث مثل حادث قطع رأس أستاذ التاريخ الفرنسي “صامويل باتي” على يد مراهق شيشاني الأصل “عبدالله أنزوروف”، فرصة لظهور الرئيس التركي بصورة المدافع عن الإسلام. ونقل مستوي المواجهة من التحريض المستمر عبر الأذرع المؤسساتية للمنظمات الإسلامية الممولة تركيا وقطرياً، إلى تحريك السخط الشعبي الإسلامي من أزمة الرسوم المسيئة نحو سياسات تنفيذية منها مقاطعة البضائع الفرنسية علي سبيل المثال، واستمرار توفير الأجواء المشحونة لعناصر “الذئاب المنفردة” التي باتت تعمل بمعزلِ عن قيادة التنظيمات الإرهابية لكنها مشبعة بفكرها، رغم تقاسم بعض الأجهزة الاستخباراتية السيطرة علي عدد من هذه العناصر لتقوم بتوظيفها حسب أجندتها.

 حيث اتهم الرئيس التركي نظيره الفرنسي بالعداء الصريح للإسلام والمسلمين، كما نعته بالاختلال العقلي. ورسخ مع منظومة المؤسسات الإعلامية المروجة للسياسات التركية صورة أزمة الصور المسيئة لتوظيفها في العداء الشخصي ما بين الرجلين “ماكرون – اردوغان” من دون اعتبارات تأزم مشاعر المسلمين وخاصة الأقليات الموجودة في أوروبا وتعاني من أزمات الهوية والمواطنة. هذا ومن جهة أخري أدانت الخارجية التركية الحادثة وأرسلت وفداً من معلمين أتراك ليضعوا زهوراً على قبر المدرس الفرنسي. وفي هذه الأثناء واصل الرئيس التركي تصريحاته التي تؤجج المشاعر الساخطة، بالقول إن الدول الغربية التي تسخر من الإسلام تريد إعادة “الحملات الصليبية”.

كما جاء تعليق رئيس الوزراء الماليزي السابق “مهاتير محمد” ليس ببعيداً عن تعليقات الرئيس التركي. بل تجاوزته في التحريض الصريح بارتكاب اعمال قتل ضد الفرنسيين. ما دفع إدارة موقع تويتر بحذف تغريدته علي الفور.

تجدر الإشارة أن الثلاثة عقود الماضية والتي نشطت فيها المنظمات والمراكز الإسلامية في فرنسا وفقاً لأجندة الحريات، قد نجحت في تطويع شرائح بالآلاف من الأقلية المسلمة في فرنسا وصقلها بأدبيات الحاكمية الإسلامية، مع جعل هذه الشرائح تنظر للرئيس التركي كونه محامِ ومدافع عن الإسلام، ما يدفع بتحكم الرئيس اردوغان بالمزاج الساخط والشعوبي للكتلة الإسلامية ليوجهها كيفما يشاء. ويغذي المعادلة القائمة (شخص يتشبع بفكر متطرف + أيديولوجيا الحاكمية الإسلامية + محفز ديني)، لتصل إلى عملية وحادثة إرهابية لا ترتبط بقرار يجيئ من قيادة التنظيمات الإرهابية مع الأخذ في الاعتبار عدم استبعاد إمكانية تفعيل قنوات الاستخبارات للدول الراعية للوصول لنتيجة تنفيذ حادث إرهابي.

 فيما تولت المنصات الإعلامية ذات النطاق الإقليمي والعالمي المروجة للسياسات التركية، تسويق تصريحات الرئيس التركي والمسؤولين الأتراك حيال الأحداث في فرنسا، ما ساهم في تغذية التوتر القائم، وانعكاساته على الصراع الاستراتيجي بين الدولة الفرنسية ونظيرتها التركية في أكثر من دائرة هامة. بالرغم من إعلان رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق مانويل فالس أن معركة فرنسا الحقيقية مع الإسلام السياسي للإخوان المسلمين والسلفيين. كما قال وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درامانين وهو حفيد مهاجر مسلم، لا يوجد تعارض بين أن تكون مسلماً ومواطناً فرنسياً. إلا أن أزمة المواطنة في أوروبا باتت تخدم التطلعات التوسعية التركية إذ توفر لها الظرف المناسب للتدخل وتخليق حالة من عدم الاستقرار وتأليب المشاعر الدينية على مفاهيم المواطنة والاندماج المجتمعي، وصولاً لامتلاك أوراق ضغط داخلية كما الحال في النموذج الألماني. حيث عبر حادث “هاناو” في ألمانيا، فبراير الماضي عما قد يصل إليه التطويع التركي للكتلة الإسلاموية. حيث هاجم شخص يميني متطرف مقهيين في مدينة هاناو وقتل نحو 9 أشخاص من بينهم خمسة أتراك، إلا أن الشرطة الألمانية عثرت على المنفذ ووالدته مقتولين بعد الحادث مباشرة وفي شقتهما، حيث أشارت تقارير لضلوع الاستخبارات التركية في عملية التصفية. ليظل التحدِ الأبرز أمام باريس وأنقرة، عما قد تصل إليه الأخيرة من قدرات للتحريك الفعلي لقطاعات إسلاموية ضمن مصالحها بطرق مختلفة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى