
انتخابات إقليم تيجراي وتهديد الفيدرالية الإثيوبية الإثنية
في تمام الساعة السادسة صباح يوم الأربعاء الموافق 9 سبتمبر 2020، في إقليم التيجراي شمالي إثيوبيا، أجريت الانتخابات بالإقليم في تحدٍ واضح لقرار الحكومة الإثيوبية بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد علي، بتأجيل الانتخابات التي كان مقررًا لها 29 أغسطس الماضي، بسبب انتشار فيروس كورونا، مما سمح بتمديد فترة الحكومة التي كان من المقرر أن تنتهي صلاحيتها الدستورية في أكتوبر المقبل إلى عامًا آخر.
لم يكن هذا هو الخلاف الأول من نوعه مع قومية التيجراي الأقل سكانًا فتمثل 6.1% من سكان إثيوبيا والأكثر تأثيرًا، بل عمَد آبي أحمد منذ قدومه للسلطة إلى اتباع سياسة تقوم على تقليص الأقلية الأكثر تأثيرًا وخلق جبهات لتعميق النزاعات الداخلية على السلطة بدلًا من إفشاء السلام والوحدة بحسب سياساته الإصلاحية المعلنة.
ويدعم قرار الانتخابات الذي وصفه آبي أحمد بأنه انتهاك واضح للدستور من فكرة الانفصالية التي دعمها الدستور الإثيوبي 1994، والذي وضعه ميليس زيناوي، وتم وصف الفيدرالية الإثيوبية بأنها تتبع النموذج السوفيتي واليوغسلافي، القائم على نظام التمثيل النسبي والذي يعطي المجلس التشريعي للقومية الحق في طلب الانفصال.
ربما التهديد بالانفصال سيدعم حلم “إقليم تيجراي الكبرى” ويهدد فكرة “التآزر” التي ابتدعها آبي أحمد خاصة مع مطالبات شعوب الجنوب “وولايتا” وانفصال سيداما، والاحتجاجات الأورومية الإقليم الأكبر في إثيوبيا على خلفية مقتل المطرب المناضل هاشالو هونديسا وحملة الاعتقالات الموسعة ضد قيادات الإقليم، وحملات الدعايا المضادة التي يطلقها الشتات الإثيوبي بالخارج وهو الأكبر ضد حكومة آبي والمدعومة بأعضاء من الكونجرس الأمريكي.
سلسلة من الإجراءات اتخذها إقليم التيجراي منذ الإعلان عن تأجيل الانتخابات الإثيوبية
ظهرت الخلافات بين الجبهة وحكومة آبي أحمد إلى العلن عقب الانسحاب من ائتلاف “الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية” عقب إعلان آبي أحمد تحويل الجبهة لحزب الازدهار الموحد 2019، واعتبرته أمرًا غير دستوريًا.
ثم جاء الرفض الثاني على قرار المجلس الانتخابي الوطني الإثيوبي بتأجيل الانتخابات لمدة عام، مما اعتبرته المعارضة تمديدًا لحكم آبي أحمد؛ فيما اتخذت جبهة تحرير التيجراي الخطوة الأكثر تأثيرًا والتي كانت مسيطرة على الائتلاف الحاكم قبل الاحتجاجات الأورومية ووصول آبي للحكم في أبريل 2018، معلنة الاستمرار في العملية الانتخابية داخل الإقليم.
ووصف آبي أحمد الأمر بأنه غير دستوري، فيما لن تستخدم الحكومة القوة، على عكس الرسالة السابقة لمجلس الاتحاد الإثيوبي باعتبار إجراء الانتخابات في الإقليم بمعزل عن الانتخابات العامة بمثابة انتهاك لدستور البلاد، والتلويح بأن الدستور الإثيوبي يتضمن استخدام القوة حال تهديد الحياة الدستورية الإثيوبية وإمكانية ايقاف مجلس الاتحاد الميزانية الفيدرالية لتيجراي إذا رفض الحزب الحاكم قراراته بتمديد الانتخابات، وصرحت حكومة تيجراي بأنها واجهت ضغوطًا من كل من الحكومة الفيدرالية والقوى الخارجية بما في ذلك من إريتريا المجاورة بعد أن قررت إجراء انتخابات إقليمية هذا الشهر.
كما جاء رد الجبهة على هذه التصريحات ببعض الاستعراضات العسكرية، والتي وصفتها الجبهة آنذاك بأنها مسيرات لتعزيز الوعي بشأن “جائحة كورونا”، وهو ما يعد تصريحًا ضمنيًا ونفس أسلوب آبي أحمد في إنكار الحقائق.
وعلى ذكر التنظيمات العسكرية، فإنها لم تكن التلويح الأول والأخير لقومية التيجراي، بل تميز خطاب “ديبرصيون جبريميكيل”، رئيس جبهة تحرير التيجراي في الذكرى 45 لتأسيس جبهته بالاحتفالات التي تميزت بعسكرة واضحة وغاب عنها الفيدراليون، وهدد بانفصال الإقليم عن إثيوبيا.
وحاول آبي أحمد دخول الوسطاء لردع الجبهة عن قرارها لكن دون جدوى، كالاتحاد الإفريقي ورجال الدين في إثيوبيا، فيما طلبت الجبهة إجراء حوار معلن بين المعارضة والحكومة للوقوف على الحل الأمثل للأزمة الدستورية التي نتجت من تأجيل الانتخابات بعد اختيار بديل التفسير الدستوري لحزب “الازدهار” الموحد الذي دشنه آبي أحمد من الائتلاف الحاكم.
حكومة آبي أحمد وتاريخ من تقويض الحريات مقابل قوى الضغط الخارجي
استمرت حكومة آبي أحمد في تقويض المعارضة والتي بدأت منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه آبي أحمد عن سياساته الإصلاحية والتي كانت تهدف لتجريد التيجراي من قوتها تدريجيًا، وهو ما ظهر جليًا في إقالة العديد من أصحاب المناصب العليا في الجيش الإثيوبي، واعلان رئيس الوزراء الإثيوبي عن حزمة تغييرات شملت قادة أركان الجيش والأمن والمخابرات.
فقد قام بتعيين “سيري مكونن” خلفًا لرئيس أركان الجيش الجنرال “سامورا يونس” الذي أحاله للتقاعد، والذي بدوره لعب دورًا منذ فجر الثورة الأولى لجبهة تحرير شعب تيجراي التي بدأت نضالها ضد الحكم العسكري في منتصف الستينيات من القرن الماضي.
كما تمت إقالة” جيتاتشوا أسفا” مدير عام الأمن والمخابرات والمنحدر من قومية تيجراي، وتعيين الجنرال “آدم محمد” خلفًا له، وايقافه بعد ذلك، ولم تتعاون الجبهة في تسليمه.
وهو ما قابله محاولة للوقوف ضد مساعي آبي أحمد للاستئثار بالحكم، فتم اتهام الجبهة في محاولة التفجير الذي استهدف أبي أحمد في أديس أبابا في يونيو 2018، ومؤخرًا قادت السلطات الإثيوبية حملة اعتقالات ممنهجة لقادة المعارضة وأطلقت اتهامات لجبهة تحرير تيجراي بجانب جبهة تحرير الأورومو في التورط في قضية اغتيال المطرب الإثيوبي الأورومي “هاشالو هونديسا”، في محاولة لعكس جبهة المعارضة الداخلية من مواجهة حكومة آبي أحمد على خلفية تأجيل الانتخابات إلى نزاعات داخلية.
عقب مقتل هاشالو هونديسا شهد إقليم أوروميا الإقليم الأكبر احتجاجات موسعة وشهدت حملة اعتقالات موسعة للمعارضة والإعلاميين، وأشهرهم جوهر محمد، وهو ما قابله حملات احتجاجات واسعة للشتات الإثيوبي الأكبر في الخارج والذي يصل إلى 2.5 مليون إثيوبي بالخارج، وتوجد النسبة الأكبر في الولايات المتحدة.
وبالتالي فإنه يوصف بالقوى المؤثرة في القرار الخارجي، فعقب سلسلة الاحتجاجات أمام السفارات للتنديد بانتهاك حكومة آبي أحمد للحريات طالب أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بحقوق قانونية لرجال أورومو المحتجزين في إثيوبيا، حيث طلبت عضوات مجلس الشيوخ عن ولاية مينيسوتا الأمريكية، تينا سميث وإيمي كلوبوشار، من وزارة الخارجية الأمريكية ممارسة الضغط على حكومة إثيوبيا للإفراج عن جوهر محمد.
وخلصت الرسالة إلى أنه “الاضطرابات السياسية الأخيرة والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإثيوبية قد هددت التقدم نحو الديمقراطية”.
الانتهاكات ضد الديمقراطية تهدد المساعدات الإثيوبية
وهو السبب الآخر الذي قال البعض إنه يقف وراء إعلان الولايات المتحدة عن تعليق جزئي من مساعداتها المالية لإثيوبيا ردًا على قرار البدء بملء السد قبل التوصّل لاتفاق مع مصر والسودان بشأن هذا المشروع، وذلك في ظل حملة إثيوبيا الأخيرة ضد قادة المعارضة وأنصارها، خاصة في ظل الانتقادات التى وجهت للدعم المالي الأوروبي والأمريكي لإثيوبيا على مدى السنوات القليلة الماضية للإصلاحات الاقتصادية والإصلاحية والتى أخرجها آبي أحمد عن مسارها لضمان بقائه في السلطة.
كما كتب بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي عريضة تدعو وزير الخارجية الأمريكية إلى تشجيع الحكومة الإثيوبية على الدخول في حوار مفتوح مع المعارضة من أجل انتقال سلمي للسلطة.
وأصبحت هذه المساعدات مشبوهة في ظل إعلان تلك الحكومات عن دعم الديمقراطيات للدول؛ فيما جاءت حكومة آبي بالعديد من الانتهاكات التي تسببت في تزايد النزاعات التي لا تظهر بوادر على الانحسار، وعلى رأسها أعمال الشغب المستمرة في أوروميا وولايتا التي تطالب بالانفصال، مما أدى لتجزئة الدولة في منطقة أمهرة، والمواجهة بين الحكومة الفيدرالية وإقليم تيجراي إلى وضع بقاء الحكومة موضع تساؤل.
ففي السنوات الثلاث الماضية، تعرضت إثيوبيا لموجات من العنف العرقي على نطاق واسع، وأخرها منع قوات الأمن الإثيوبية لنحو 12 منهم أربعة صحفيين ومحلل بارز من مركز للدراسات من السفر جوا إلى تيجراي لتغطية الانتخابات.
وبالتالي انتهج آبي أحمد عدة إجراءات تنتهك سياسته الإصلاحية التي أعلن عنها، والتي أوصلته للحصول على جائزة نوبل للسلام عقب توقيع اتفاقية السلام مع إريتريا، والتي أصبحت مهددة الآن عقب مزيد من المطالب بالانفصال عن الفيدرالية الإثنية الإثيوبية، والتي تطالب بها ولاية “ولايتا” الجنوبية عقب انفصال سيداما لتصبح الإقليم الإثيوبي العاشر، إلا أنها لن تكون الوحيدة.
النزاعات الداخلية وتهديد حكومة آبي أحمد والتفكك الإثيوبي
مازال إقليم تيجراي نفسه الذي يواجه ضغوطًا من قوميين عرقيين والتي تدعو صراحة ليس للانفصال والانفراد بالحكم الذاتي، ولكن يدعو “للاستقلال” عن إثيوبيا.
هذا إلى جانب تهديد اتفاقية السلام الإثيوبية مع إريتريا رفضًا من قومية التيجراي، والذي أعاد فكرة تنفيذ اتفاقية الجزائر لترسيم الحدود الموقعة عام 2000، والتي كانت تقتضي بتسليم قرية بادمي إلى الجانب الإريتري، مما سيفقد إقليم التيجراي بعض من أراضيه، والتي رفضها التيجراي رغبةً منه في تشكيل “إقليم تيجراي الكبرى” والذي يقوم على “إعادة توسيع حدود منطقة تيجراي في الداخل، والحصول على الأراضي الساحلية على منفذ البحر الأحمر داخل إريتريا وتحقيق الانفصال”، والذي ظهر في السيطرة على الأراضي الخصبة في إقليم ” ولو ” الجنوبي وتوسعت في الغرب نحو إقليم ” والقايت ” وفي الشمال في “القاش” في إقليم “بادمي” الإريتري.
وبالتالي فإن إجراء الانتخابات في إقليم التيجراي، قد تعيد للأذهان حلم التيجراي الذي ظهر منذ عام 1976، والذي يوضح الخطة المفصلة للتحرير، وبدأ بدستور انفصالي صاغته الجبهة، في ظل معارضة إريترية قد تظهر نوعًا من التعاون مع الجبهة، لتكوين معارضة بديلة في حال اتخاذ الأمور منحى يقود لانفصال التيجراي بالتعاون مع المعارضة الإريترية التي دلل عليها وجود قادة المعارضة في “مقلي” عاصمة الإقليم.
ومما سبق، فإن الأزمة الحالية في إثيوبيا ليست صراعًا بين الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا والحكومة الإقليمية في تيجراي، بينما هي إحياء لرغبة قديمة للسيطرة على الحكم من الأقلية الأكثر تأثيرًا في الدولة الإثيوبية.
فتظهر الأزمة الإثيوبية بأنها صراعًا على السلطة، يتجلى في رغبة إنفصالية لإقليم التيجراي، وما يقابله في ولاية ولايتا الجنوبية، والاحتجاجات الأورومية في ظل دعم غربي يقوده الشتات الإثيوبي في الخارج، ربما يقود ذلك إلى مزيد من السيطرة على الحكومة الحالية للانسحاب من المشهد الذي تزايدت فيه الصراعات على الموارد والسلطة، وجاءت الانتخابات في إقليم التيجراي لتدلل على صعوبة سيطرة الحكومة على الوضع الحالي، الذي قوده أيضًا بداية تعليق المساعدات الخارجية، مما سيضطر حكومة آبي إلى محاولة إيجاد صيغة توافقية والعمل على تشكيل حكومة انتقالية توافقية لتمكنه من عبور الأزمة الحالية ومحاولة إلمام أطراف الدولة الفيدرالية المفككة، والتي لم تظهر أية بوادر على الانحسار بل على العكس قد تتفاقم
باحثة بالمرصد المصري