
كيف يمكن أن تنعكس التطورات في مالي على الظاهرة الإرهابية؟
شهدت مالي مؤخرًا حركة تمرد أسفرت عن إعلان الرئيس “إبراهيم بوبكر كيتا”، استقالته رسميًا من منصبه بعد احتجازه على يد جنود متمردين. كذلك أعلن العسكريون الذين استولوا على الحكم في مالي تشكيل ما أطلقوا عليه اسم “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب”، ودعوا إلى “انتقال سياسي مدني” يؤدي إلى انتخابات عامة. ومن ثَمّ، يُثير هذا المشهد عدد من التساؤلات المهمة حول انعكاس تلك المتغيرات على التنظيمات الإرهابية النشطة هناك.
المشهد الحالي
هناك جُملة من المعطيات تُشير إلى المشهد الحالي في منطقة الساحل عمومًا وفي مالي على وجه الخصوص، ويمكن إجمالها على النحو التالي:
- تصاعد النشاط الداعشى: إذ يسعى “داعش الصحراء الكبرى” إلى تعزيز صورته الجهادية عبر التمدد الاستراتيجي والعملياتي في منطقة الساحل. ويمكن ملاحظة ذلك عبر ثلاثة تحركات رئيسية للتنظيم؛ يتعلق أولها بالاستفادة من الخلافات الداخلية بين جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، و”جبهة تحرير مآسينا”، وتجنيد أعضاء من الأخيرة. ويتصل ثانيها بتنفيذ عدد من الهجمات الكبيرة على مواقع عسكرية في منطقة الساحل، بهدف اغتنام الأسلحة والمركبات. وينصرف ثالثها إلى الرغبة في السيطرة على المناطق الاستراتيجية الغنية بالمواد الطبيعية، كمناجم الدهب، والمراعي.
- التنافس الجهادي: حيث تشهد منطقة الساحل حالة من تصاعد التنافس الجهادي بين تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، ولا سيما في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو. فمنذ بداية عام 2020 بدأ “داعش” في التمدد في مناطق نفوذ “القاعدة” بهدف التوسع وضم المزيد من الأراضي في منطقة غرب أفريقيا. وأسفرت المواجهات بين الطرفيين عن مقتل حوالي 300 إرهابيًا في منطقة الساحل.
- الإرهاب في الساحل: إذ إن منطقة الساحل تشهد اتساع نطاق الظاهرة الإرهابية؛ ففي النيجر تفرض التنظيمات الإرهابية النظام في شمال نيجيريا بالقرب من حدود النيجر. أما توجو -فهي مثل البلدان الساحلية المجاورة لها كساحل العاج وغانا وبينين- لديها مشكلة مزدوجة مع الإرهابيين. تتعلق الأولى بكون المناطق الحدودية هي المكان المفضل لنشاط تنظيم “داعش”. أما الثانية، فهي وجود أئمة في المنطقة ينشرون خطابًا إرهابيًا يساعد على التجنيد والاستقطاب. كذلك شرعت السنغال، في 14 يوليو بتشييد مخيم عسكري جديد في “غوديري”، بهدف التكيف مع الظروف الجديدة المتمثلة في التهديد الإرهابي القادم من مالي.
- تغييرات سياسية: هناك جُملة من التغييرات السياسية التي تشهدها منطقة الساحل؛ ففي 31 أكتوبر المقبل، ستجرى انتخابات رئاسية في ساحل العاج، وفي 22 نوفمبر المقبل، ستنظم الانتخابات الرئاسية في بوركينا فاسو أيضًا، بينما ستكون الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية النيجيرية في 27 ديسمبر 2020، في حين ستكون الجولة الثانية في 21 فبراير 2021. ومن ثم سنشهد في أوائل عام 2021 إدارة جديدة في أربعة بلدان على الأقل في غرب أفريقيا. وبالتالي هناك احتمالية لاستهداف تلك الاستحقاقات السياسية من قبل التنظيمات الإرهابية في البلدان سالفة الذكر.
احتمالات قائمة
في ضوء المشهد الحالي، قد تشهد الساحة الماليّة عدد من الاحتمالات التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
- الإرهاب كفاعل سياسي: أعلنت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” عن استعدادها للتفاوض مع الحكومة المالية في وقت سابق. وفي عام 2013 أطلق “محمود ديكو” تصريحات مفادها أنه “يتعين على السلطات المالية أن تحاول التفاوض مع الإسلاميين الماليين”، مع “طرد الأجانب الذين جاؤوا لفرض الشريعة علينا” على حد وصفه. وإذا كان “ديكو” لازال يملك نفس القناعات، فإن ذلك يعني أنه يؤيد المحادثات مع “القاعدة” بينما يرفض وجود “داعش”. وبالتالي من المُحتمل استمرار المفاوضات بين جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” والحكومة المالية الجديدة. ومن ثَمّ صعود الإرهاب كفاعل سياسي.
- تعزيز النشاط الداعشى: من المُرجح استمرار تصاعد النشاط الداعشي في المنطقة، وذلك في ضوء توجه القيادة المركزية الجديدة إلى تعزيز نفوذ التنظيم في الساحل، ناهيك عن أن حالة الفوضى التي تشهدها مالي توفر بيئة حاضنه لتصاعد النشاط الإرهابي هذا من جهة. من جهة أخرى، قد يسعى التنظيم إلى القيام بعدد من الهجمات في ضوء رفضه لتفاوض جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” مع الحكومة المالية. وخير مثال على ذلك التوجه ما قامت به “ولاية خراسان” من شن هجمات جماعية بهدف تقويض المفاوضات بين طالبان والولايات المتحدة في أفغانستان.
- استمرار التنافس الجهادي: من المُرجح استمرار الصراع القاعدي الداعشي، وانتهاء ما يعرف “باستثنائية الساحل”، حيث لا يُستغرب وصول التنظيمين الإرهابيين في غرب أفريقيا إلى حالة الصراع. فقد اعتاد “داعش” و”القاعدة” على مواجهة بعضهما في سوريا واليمن. غير أن ذلك التوجه تأخر حدوثه في مالي وبوركينا فاسو وذلك في ضوء توجه الرعيل الأول من قادة التنظيمات الإرهابية باتباع استراتيجية “التعايش المشترك” في منطقة الساحل.
- الفراغ الأمني: في حالة استمرار تدهور الأوضاع في مالي، مع ضعف القبضة الأمنية للمؤسسات هناك، من المُرجح خلق حالة من الفراغ الأمني، وبالتالي تصاعد النشاط الإرهابي. ومن ثَمّ، قد تشهد مالي تعزيزًا للوجود الفرنسي لسد حالة الفراغ الأمني المحتمل. الأمر الذي تنصرف تداعياته إلى تصاعد استهداف القوات الفرنسية من قبل تنظيمي” القاعدة” و”داعش” في إطار استخدام التغلغل الأجنبي كذريعة لإضفاء شرعية على العمليات الإرهابية.
- التمدد الافقي والرأسي للظاهرة الإرهابية: من المُحتمل حدوث تمدد أفقي ورأسي للظاهرة الإرهابية في ضوء تطور الأوضاع في منطقة الساحل على وجه الخصوص ومالي على وجه العموم. حيث يتسع نشاط الظاهرة أفقيًا لتمتد إلى موريتانيا. كذلك تنطلق رأسيًا لتهدد شمال أفريقيا ولا سيما في ضوء ارتباط منطقة الساحل والصحراء بالتفاعلات السياسية والمعادلات القائمة في شمال إفريقيا خاصة في ليبيا، وضلوع تلك التنظيمات كفاعل رئيسي في الصراع الليبي، الأمر الذي ينذر بإن الإرهاب سيكون مؤثرًا على مستقبل القارة كلها.
مجمل القول، توفّر الاضطرابات حالة من الفوضى تستغلها التنظيمات الإرهابية لتعزيز نشاطها وتقديم نفسها كبديل للمؤسسات الوطنية. وبالنظر إلى وضع مالي نجد أن كافة الظروف مواتية للتمدد الإرهابي هناك؛ حيث الصراعات الطائفية، وتفشى الفساد، والمظالم الاجتماعية. وبالنظر إلى العقل الاستراتيجي للتنظيمات الإرهابية سواء “القاعدة” و”داعش” وغيرهما، ليس هناك أفضل من تلك الظروف لتمدد نفوذها وتعزيز نشاطها.
باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع