
الالتزام بعدم ملء السد قبل الوصول لاتفاق.. الموقف الإثيوبي “تحت الاختبار”
ساهمت التحركات المصرية والضغوط الإقليمية والدولية التي مارستها الدبلوماسية المصرية على إثيوبيا خلال الشهور الأخيرة، بداية من تدويل أزمة سد النهضة في خطاب الرئيس “عبد الفتاح السيسي” أمام الأمم المتحدة سبتمبر 2019، مرورًا بمفاوضات واشنطن التي توقفت في فبراير2020، وما تلاها من مفاوضات ثلاثية بمراقبة جنوب افريقيا والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي تأزمت في 18يوينو 2020، وما تخلل ذلك من خطابات إلى مجلس الأمن للاضطلاع بدوره تجاه القضية، وجولات مكوكية بين الدول العربية والافريقية والأوروبية لدعم الموقف المصري في المفاوضات، كل ذلك ساهم في تحريك المياه الراكدة، وظهور شفا انفراجه لأزمة سد النهضة في الأفق، بعد القمة المصغرة للاتحاد الافريقي أمس الجمعة 26 يونيو 2020، وجلسة مجلس الأمن المرتقبة يوم الإثنين 29يونيو 2020.
الاتحاد الافريقي يتدخل لحل أزمة سد النهضة
إستكمالًا لسعي مصر الدائم لسلوك كل المسارات السياسية السلمية لحل أزمة سد النهضة، ومن منطلق مبدأ “الحلول الإفريقية للقضايا الإفريقية”، شارك الرئيس “عبد الفتاح السيسي” يوم الجمعة 26 يونيو 2020 في قمة إفريقية مصغرة لرؤساء الدول الأعضاء بهيئة مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي عبر الفيديو كونفرانس بدعوه من الرئيس الجنوب افريقي “سيريال رامافوسا” رئيس الإتحاد الإفريقي، لمناقشة قضية سد النهضة، في إطار الاتحاد الافريقي، وذلك قبل اجتماع مجلس الأمن بشأن الملف ذاته الاثنين المقبل، وانعقدت القمة الإفريقية بحضور كلٍ من أعضاء المكتب (الرئيس الكيني “أوهورو كينياتا”، والرئيس المالي “إبراهيم أبو بكر كيتا”، والرئيس “فيلكس تشيسيكيدي” رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية)، بالإضافة إلى مشاركة رئيس الوزراء السوداني “عبد الله الحمدوك”، و “آبي أحمد” رئيس وزراء إثيوبيا.
توصل الاجتماع الذي سادته روح إيجابية بين كل الرؤساء الذين تحدثوا عن ضرورة الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف وبإرادة ودعم من القادة الأفارقة، إلى عدد من نتائج أبرزها:
- تشكيل لجنة فنية وقانونية:
نجحت القمة المصغرة في التوافق على تشكيل لجنة حكومية من الخبراء القانونيين والفنيين من الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا، إلى جانب الدول الأفريقية الأعضاء بهيئة مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي، وممثلي الجهات الدولية المراقبة للعملية التفاوضية، بهدف الانتهاء من بلورة اتفاق قانوني نهائي ملزم لجميع الأطراف بخصوص قواعد ملء وتشغيل سد النهضة. على أن يتم بدء المفاوضات على مستوى اللجان الفنية فورا بغية الوصول إلى اتفاق في غضون أسبوعين.
- لا ملء بدون التوصل لإتفاق:
أكد قادة الدول الثلاث على أن المفاوضات السابقه قد حلت بالفعل ما بين ٩٠ % الي ٩٥ % من القضايا ولم يتبقى الا القليل الذي سيتحقق فقط في حالة توفر الارادة والعزيمة السياسية، ووفقًا لما طالبت به كل من مصر والسودان خلال الجلسة، وبموافقة إثيوبيا تم الإتفاق على تأجيل ملء خزان السد لحين التوصل إلى اتفاق ملزم يحفظ مصالح الدول الثلاث. مع الامتناع عن القيام بأي إجراءات أحادية، بما في ذلك ملء السد، قبل التوصل إلى هذا الاتفاق.
- إرسال خطاب لمجلس الأمن بنتيجة القمة:
اتفق القادة الأفارقة الحاضرون للقمة على إرسال خطاب يتضمن ما توصلت إليه القمة المصغرة من نتائج مرضية للأطراف الثلاث، إلى مجلس الأمن باعتباره جهة الاختصاص لأخذه في الاعتبار عند انعقاد جلسته لمناقشة قضية سد النهضة يوم الاثنين المقبل.
وبالرغم من دخول الاتحاد الإفريقي متأخرًا للمفاوضات، إلا أن توقيت دخوله الآن أنسب من أي وقت مضى، وبالنظر إلى المخرجات الثلاث للقمة الإفريقية المصغرة، نجد أنها نتيجة مرضية لدولتي المصب والمجرى (مصر السودان) اللتان طالبتا إثيوبيا مرارًا وتكرارًا خلال جولات المفاوضات المطولة، بتحقيق هذه المطالب ولكنها كانت دائما ما تمتنع عن إعطائهم أي كلمة ملزمة فيما سبق، إلا انها اليوم وبعد الجهود المصرية المضنية للضغط على إثيوبيا استطعنا انتزاع هذا التعهد من الجانب الإثيوبي بعدم الملء قبل الوصول لإتفاق، غير أن نجاح تلك العملية يتطلب العودة الفورية إلى مائدة المفاوضات من أجل التوصل إلى الاتفاق العادل الذي نصبو إليه.
وعلى جانب آخر، فإن تلبية مصر لدعوة رئيس الاتحاد الافريقي، للجلوس على مائدة تفاوض افريقية كما طالبت إثيوبيا، هو تأكيد مرة أخرى على إرادة ونية مصر الصادقة في التوصل إلى اتفاق، وعدم تركها بابًا للوصول إلى حل سلمي دون طرقه، مما يدعم موقفها فيما بعد إذا ما تأزمت الأمور مرة أخرى.
إثيوبيا.. غضب داخلي ضد آبي احمد بعد القمة الإفريقية
في الوقت الذي أعلنت فيه مصر والسودان رسميًا، تعهد إثيوبيا بوقف ملء سد النهضة لحين التوصل إلى اتفاق ملزم، إكتفى رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي احمد” بالتغريد على “تويتر” واصفًا المحادثات بأنها “مُثمرة”، وأن الاتحاد الإفريقي هو الساحة المناسبة للحوار بشأن القضايا الإفريقية الهامة.
دون التصريح بوقف ملء السد لحين التوصل لإتفاق، فيما يبدو وكأنه تعتيم من آبي احمد للنتيجة التي توصلت إليها القمة حتى لا يتم إثارة الرأي العام الداخلي لإثيوبيا ضده وحكومته، في ظل الأوضاع السياسية المتوترة في الداخل، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن حيث تناولت العديد من المواقع الإخبارية خبر وقف الملء لتظهر موجة عارمة من الغضب بين الإثيوبيين ضد آبي احمد لموافقتة على هذا البند، وهو نتيجة طبيعية لإستخدام الحكومات الإثيوبية المتلاحقة لقضية السد بإعتبارها قضية قومية لتحقيق مصالح سياسية شخصية للحكام الإثيوبيين.
الأمر الذي يضع آبي احمد في مأزق حقيقي أمام شعبه، ويثير الكثير من علامات الإستفهام عن نواياه في المرحلة القادمة، وهل سيكون “الضغط الشعبي” حُجة جديدة لتغيير الموقف الإثيوبي فيما بعد، أو التلكأ في الوصول لإتفاق، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والدولية التي حشدتها مصر لإجبار إثيوبيا على وقف الملء قبل الوصول لإتفاق، أم ستنصاع إثيوبيا لتنفيذ الاتفاق بإستخدام كارت الوساطة الإفريقية، هذا ما ستظهره الأيام القادمة.
جدير بالذكر، انه عند تقييم الموقف الإثيوبي الأخير من قضية سد النهضة، فهناك متغير يجب أخذه في الحسبان، حيث ان الضغوط التي مارستها مصر على إثيوبيا للوصول إلى اتفاق، لم تكن سياسية فقط، بل شملت شقًا إقتصاديًا، فقد أعلن رئيس مجموعة البنك الدولي، ديفيد مالباس، أثناء اجتماعه بـ “آبي احمد”، يوم الخميس 18 يونيو تعليق تمويل سد النهضة الإثيوبي، لحين الوصول لإتفاق، ونشر تغريدة عبر حسابة الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، يقول فيها: “تحدثت مع رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد على في الآونة الأخيرة بشأن موافقات التمويل، قائلًا من المهم توحيد سعر الصرف ، أن إثيوبيا وجيرانها يحافظون على حوار بناء وتعاون بشأن تقاسم المياه”.
تأثير نتائج القمة الافريقية على اجتماع مجلس الأمن
تأتي القمة الافريقية المصغرة في الوقت الذي أعلنت فيه الرئاسة الفرنسية عن قيام مجلس الأمن بالنظر في موضوع (سد النهضة)، في جلسة مفتوحة يوم الاثنين 29يونيو 2020، تُعقد خصيصاً لهذا الغرض، بمشاركة الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، استجابة للطلب المصري، الذي تقدمت به لرئاسة المجلس في 19 يونيو. بعد أن فشلت المحادثات الثلاثية في التوصل لإتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، وبعد إصرار إثيوبيا على الملء في بداية يوليو دون التوصل لإتفاق، هو وضع غير مقبول، ويؤدي إلى حالة يترتب على استمرارها تهديد للسلم والأمن الدوليين.
في سياق متصل، شهدت الأيام الأخيرة تحركات مصرية مكثفة داخل أروقة مجلس الأمن على أكثر من مستوى لشرح موقفها بشأن بسد النهضة، وبالتنسيق مع فرنسا كونها دولة رئاسة المجلس خلال شهر يونيو، وفي ظل دعم الرئيس “ماكرون” للموقف المصري، أسفرت التحركات المصرية عن رأي عام داخل المجلس مؤيد لوجاهة الطلب المصري، مما أدى إلى تحديد جلسة للنقاش العلني المفتوح بمشاركة الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا.
وكان المجلس قد استقبل خطابين من إثيوبيا والسودان توضحان فيهما موقفهما من سد النهضة، فيما دعت السودان في خطابها مجلس الأمن لثني الأطراف عن اتخاذ أي اجراءات أحادية، مع حثهم على التوصل لإتفاق ملزم قبل البدء في الملء، كما عرضت مسودة لإتفاق ترى انه يصلح كأساس للتفاوض.
بينما كان الموقف الإثيوبي، متمسك برفض الطلب المصري لمجلس الأمن بالتدخل لأنه يرى أنها قضية خارج اختصاص المجلس وليس بها أي تهديد للسلم والأمن، وهو ما ينبئ عن سوء تقدير للموقف من الجانب الإثيوبي.
فحين تنقطع السبل أمام الحلول الدبلوماسية، لا يكون أمام الدول سوى خيارين: إما الإستسلام وهو خيار لن تقبل به الشعوب، أو المواجهة وهو الخيار الأرجح بما تضمنه من خيارات متعددة أحدها هو الخيار العسكري بلا شك، ومن هنا برز دور مجلس الأمن في منع نشوب أي نزاع محتمل بين الدول الثلاث.
ويظل الوقت متغير هام في المعادلة، حيث ان توقيت وجود “فرنسا” تحديدًا على رأس مجلس الأمن لشهر يونيو ومع وضوح الموقف الأمريكي والداعم للوصل لاتفاق، ربما كان عاملًا مساعدًا على قبول الطلب المصري بمناقشة المجلس لقضية سد النهضة، كما ان تأزم المفاوضان في يونيو مع إعلان إثيوبيا بدء الملء في يوليو قبل الوصول لإتفاق، ساهم أيضًا في دعم الموقف المصري أمام مجلس الأمن.
وكان من المقرر لهذا الجلسة ان تُعقد في وقت سابق ولكن تم تأجيلها بطلب من جنوب أفريقيا، حتى يتثنى للإتحاد الإفريقي أن يشارك في حل الأزمة الافريقية بآليات إفريقية، وبالرغم من تحقيق النتائج المرجوه لمصر والسودان أثناء القمة المصغرة للاتحاد الإفريقي، إلا ان مخرجات هذه القمة لن يكون لها أي تأثير على مجريات الأحداث في اجتماع مجلس الأمن يوم الاثنين، فكل منهما يعد مسارًا منفرد تسلكه الدبلوماسية المصرية للوصول إلى حل، فالعمل من خلال الإطار الأفريقي هو أمر هام وضروري، ولكن مجلس الأمن هو الجهاز الرئيسي في منظومة الأمم المتحدة المعني بالأمن والسلم الدوليين وله صلاحيات ومسؤوليات، كما انه يمتلك ادوات مؤثر وقادرة على في فرض قراراته لحفظ السلم والأمن الدوليين.
السيناريو المحتمل لجلسة مجلس الأمن
لدى مجلس الأمن خيارات متعدده لحل قضية سد النهضة، منها على سبيل المثال، تشكيل لجنة لبحث القضايا الخلافية، أو إحالة الملف للتحكيم الدولي، وهي أمور مستبعده في جلسة الإثنين، وانما من المرجح أن يحث اجتماع مجلس الأمن، الدول الثلاث للعودة إلى مائدة التفاوض، للوصول إلى حل سلمي لقضية سد النهضة، مع عدم البدء في الملء قبل الوصول إلى اتفاق مُرضي للأطراف الثلاثة، وهو ما يتماشى مع نتائج القمة الأفريقية المصغرة، حيث أن اجتماع مجلس الأمن هذه المرة هو اجتماع للتشاور حول القضية وليس اجتماعًا لإتخاذ قرارات نهائية، ولكنه يضع الدول الثلاث أمام خيارات يمكنها التحرك ضمنها.
بالإضافة لذلك، يُعد اجتماع مجلس الأمن ورقة رابحة جديدة، تستطيع مصر استخدامها فيما بعد إذا لم تلتزم إثيوبيا بتوصيات مجلس الأمن بشأن قضية سد النهضة، حيث تستطيع مصر حينها العودة للمجلس ومطالبته بإصدار قرارات إلزامية لكل الأطراف. وسيكون لمصر وقتذاك سببا قويا ودعما دوليا لأي تحرك قد تلجأ إليه.
وختامًا، فإن النتائج التي خرجت بها القمة الإفريقية المصغرة اليوم، تعيد مفاوضات سد النهضة على مسارها الصحيح، وتكلل الدبلوماسية المصرية بنجاح جديد، وتمثل ورقة رابحة جديدة لمصر أمام مجلس الأمن، ولكن يبقي صدق النوايا الإثيوبية في الإلتزام بهذه القرارات تحت الإختبار، كما أن عملية الوصول لإتفاق ملزم لآبد ان تتم في أسرع وقت ممكن، للخروج من مأزق تكرار أو تفاقم الأزمة، مع ضرورة التأكيد على أن نجاح المفاوضات يتوقف على الرغبة والإرادة السياسية الصادقة في الوصول لإتفاق.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية