أوروبا

“جورجيا – القرم – سوريا”.. ما ربحته موسكو وما خسرتِه

في أواخر 1991، عرف العالم بتفكك الاتحاد السوفيتي واحدا من أكبر الأحداث السياسية التي لم تؤثر فقط على الساحة الدولية في ذلك الوقت ولكن تأثيرها الواسع امتد على كافة المستويات، وصولاً إلى يومنا هذا. 

منذ ذلك الوقت انسلخت الجمهوريات السوفيتية السابقة سياسيًا عن الدولة الأم وعاصمتها موسكو، وبدأت كل جمهورية على حدا تمضي فيما تراه الطريق الأمثل لنفسها ولشعبها نحو عملية البناء. ولكن مع توالي السنوات والأحداث، التي قد تحمل معها العديد من التغيرات. يمكن القول إن موسكو لم تتخل يومًا عن الاعتقاد بأنها الكل، وبأن سائر الجمهوريات لاتزال عبارة عن أجزاء من هذا الكل الذي ينبغي عليهم الإبقاء على الانتماءات اليه حتى بعد الانفصال. 

وعلى نفس المنوال، هناك سؤال يطرح نفسه، كيف تعاملت موسكو مع أي جزء حاول الخروج بشكل كامل وتام عن الكُل؟! 

أوسيتيا الجنوبية.. تحرك جورجي جريء ورد روسي كبير

C:\Users\DELL\Desktop\112815_1630_71.png

بالنسبة للشرق الأوسط وشعوبه، فإن مفهوم الثورات الملونة قد يكون وليد السنوات التي تلت العام 2011. ولكن في الحقيقة قد تكون جورجيا من أوائل الدول التي طبقت مفهوم الثورات الملونة بالشكل الذي سبق الدول العربية بسنوات.

 الحديث هنا يدور حول ثورة الورود 2003 في جورجيا، وهي الثورة التي ترتب عليها الإطاحة بنظام إدوارد شيفرنادزه الرئيس الجورجي الموالي لموسكو. تلى ذلك أن   اتجهت جورجيا نحو عملية اصلاح داخلي، نتج عنها اكتساب ثقة كبيرة في النفس سمحت لها بالاعتقاد بأن موسكو سوف تغض الطرف عن أي خطوات حقيقية تمضي بها جورجيا نحو تحقيق تكامل مع الغرب على حساب المصالح الروسية. 

في خطوة جريئة أو بالأحرى خطوة قد يقال عنها جنونية، اتخذت تابليسي في أغسطس 2008 قرارا بالتحرك صوب احتلال مقاطعة أوسيتيا الجنوبية، التي تتمتع بحق الحكم الذاتي منذ انفصالها عن الاتحاد السوفيتي.

 لم تكتف جورجيا بمجرد احتلال المقاطعة، ولكنها فتحت النيران الكثيفة على العاصمة وألحقت بها دمارا كبيرًا أدى إلى فرار عشرات الآلاف نحو الحدود الروسية. وبالإضافة الى ذلك، هاجمت القوات الجورجية قوات حفظ السلام الروسية الموجودة في اوسيتيا الجنوبية وخلفت ورائها عددًا من القتلى. 

لم يفت الكثير من الوقت قبل أن ترد موسكو على هذا الهجوم بعنف، إذ طرد الجيش الروسي القوات الجورجية من أوسيتيا، وألحق أضرارا بالغة في صفوف الجيش الجورجي بالكامل. كما أرسلت  موسكو  تعزيزات عسكرية الى مقاطعة “أبخازيا”، وهي المقاطعة التي تتمتع بدورها بالحكم الذاتي، وقد نجحت المقاطعة بفعل هذه التعزيزات في طرد القوات الجورجية بالكامل. 

كييف على خُطى تابليسي.. رد فعل روسي مختلف 

قد تتكرر السيناريوهات على المسرح الدولي بشكل مدهش. بحيث يكون هناك رئيس موال لموسكو، تثور ضده الجموع، تتصاعد وتيرة الاحتجاجات، ثم يسقط النظام ويحل محله نظام جديد معادي للسياسات الروسية وأكثر ميولاً للغرب. بهذه الطريقة سارت كييف على نفس خُطى تابليسي، وفي 2014 سقط الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش. وأصبح الكرملين أمام تحدي جديد لا مفر منه، يقتضي بأن تحافظ موسكو على مصالحها المتمثلة في الأسطول الروسي المرابط على البحر الأسود في سيفاستابول بشبه جزيرة القرم. وفقا لمقتضيات الموقف، والاحتمالات الواسعة لدخول حلف الناتو عبر أوكرانيا الى نطاق النفوذ الروسي الاستراتيجي. لم تتردد موسكو في اتخاذ قرار التحرك نحو ضم شبه جزيرة القرم بشكل واضح. في خطوة تعيد إلى الأذهان، استعداد موسكو التام للتحرك العسكري عند الشعور بأي تهديدات قادمة إليها من حلف الناتو. 

جورجيا.. أوكرانيا.. سوريا.. عناصر مشتركة ودلالات استراتيجية

بدأ الأمر عند نقطة جورجيا، التي شهدت بفعلها أوسيتيا الجنوبية أول مواجهة عسكرية بين روسيا وجورجيا على الأرض. كانت موسكو تهدف من ورائها الدفاع عن مصالحها في نطاق نفوذها الجيوسياسي أمام الغرب، الذي يبدو أنه لم يع الدرس الجورجي بشكل كامل أو من المحتمل أنه يكون قد نسي بشأنه. إذ أنه لم يفت الكثير من الوقت قبل أن تنجرف الجارة التي تتشابه في الكثير من العوامل مع جورجيا نحو مصير مماثل، وتحاول أن تعلن بشكل واضح أنها تفضل الغرب عن روسيا الأم.  إلا أن أوكرانيا في الحقيقة ليست جورجيا، وروسيا لم تواجه جورجيا أول مرة على أراضيها. ولكن الفارق الكبير بين الحالة الأوكرانية والجورجية، لا يمكن النظر اليه في منأى عن القاعدة البحرية الروسية على البحر الأسود. 

بحيث يمكن القول إن شبه جزيرة القرم تكتسب أهميتها القصوى لدى الدولة الروسية، وفقًا لأسباب عسكرية واستراتيجية. ترجع إلى أن المنطقة تحتل موقع فريد وسط البحر الأسود، أي أن من يفرض سيطرته على هذه الأرض يتمتع بميزات استراتيجية لا يمكن إنكارها على مساحة ممتدة في المنطقة برمتها. كما يستقر الأسطول البحري الروسي بشكل رئيسي في خليج سيفاستابول، الذي يحتوي على أرصفة بحرية مجهزة ومُعدة بشكل فريد من نوعه، بالفعل منذ زمن الاتحاد السوفيتي. كما أن المنطقة تتميز بمرتفعات يمكن استخدامها بمثابة نقاط دفاعية موثوقة للقاعدة العسكرية الروسية هناك.

ومن هذا المنطلق، وفي ضوء القاعدة التكتيكية التي تنص على “أن الغلبة لم يبسط السيطرة على البحار”. يمكن أن نفهم الحاجة الروسية الماسة للإبقاء على نفوذها القوي في سوريا. وبالنظر الى طبيعة التدخل الروسي في سوريا خلال السنوات الأخيرة، يمكن القول إن الوجود الروسي في سوريا سمح لها بالسيطرة على قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية. وانطلاقا من هذه القواعد تستطيع روسيا لا أن تحمي مصالحها على طول خط أعالي البحار من البحر الأسود الى مياه شرق البحر المتوسط فحسب، وإنما أن تقوم كذلك بالتنقيب عن الطاقة، ونقلها الى الشرق الأوسط، ومنطقة البلقان وإلى أقصى الغرب على طول البحر المتوسط. وفي حالة تصاعد النزاعات واحتدمت الخلافات، فإن روسيا وانطلاقا من هذا الموقع المتميز تستطيع أن تقوم بتنفيذ عمليات ضد الولايات المتحدة بالمنطقة.

والدليل على ما سبق، يتدلى بوضوح في ضوء الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الجانبان في ذات السياق. ففي ديسمبر 2013، وقعت دمشق اتفاقًا ضخما مع روسيا لأجل التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية، بحيث يشمل العقد عقد عمليات تنقيب في مساحة 2190 كلم مربع. وفي سبتمبر 2019، وقعت وزارة النفط والثروة المعدنية السورية ثلاثة عقود مع شركات روسية في مجال النقط والغاز، وتشتمل هذه العقود على مجالات المسح والحفر والإنتاج في القطاعين النفطي والغازي، كما تُعد هذه العقود ثمرة للتعاون السوري الروسي المشترك في المجال الاقتصادي ، وتعد كذلك نتيجة لبروتوكول التعاون المشترك بين البلدين وخارطة الطريق الموقعة بين وزارة النقط والثروة المعدنية ووزارة الطاقة الروسية عام 2018.  

ختامًا، 

يمكن القول إن حرب الخمسة أيام لم تعد على موسكو بالكثير من الخسائر العسكرية. إذ أن إجمالي ما خسرته روسيا كان لا يتعدى ست طائرات حربية وثلاث دبابات وعدد 20 مدرعة، كما أن خسائرها في الأرواح كانت لا تتعدى 70 عسكري روسي، في مقابل 170 من الجانب الجورجي. في المقابل، نجحت روسيا في تحقيق أبرز أرباحها من وراء حرب الخمسة أيام، والتي كانت تتمثل في الظهور بهيئة الكيان الدولي القوي الذي يستطيع بكل وضوح أن يهب للحفاظ على نفوذه الجيوسياسي مهما تكلف الأمر.

أما في أوكرانيا، نجحت موسكو بالتأكيد في حماية مصالحها العسكرية في البحر الأسود، إلا أن هذا لا يعني أنها نجحت بشكل كامل وتام في مسألة ضمها لشبه جزيرة القرم. إذ أن الاقتصاد الروسي لا يزال يتعرض لنزيف حاد ليس فقط بفعل التقلبات في أسعار مواد الطاقة فحسب، ولكن كذلك بفعل العقوبات الاقتصادية الشديدة المفروضة عليه منذ توقيت ضم شبه جزيرة القرم. وتحاول موسكو حتى هذه اللحظة الحفاظ على ثباتها واستقرارها الاقتصادي أمام هذا النزيف الحاد وهو أمرًا بات شديد الصعوبة في ظل ما يشهده العالم من تقلبات اقتصادية وركود حاد بفعل أزمة كورونا. 

وفيما يتعلق بالساحة السورية، تظل موسكو هي الدولة صاحبة النفوذ الأول والأكثر قوى وفاعلية على المشهد السوري. المعضلة الرئيسية تكمن في مدى قدرتها على الاستمرارية؟! إذ أن الحرب والعمليات العسكرية بالشكل المتعارف عليه، عادة ما لا تتعلق فقط بمدى التفوق العسكري لدولة ما. ولكنها تتعلق في المقام الأول بمدى التفوق الاقتصادي لهذه الدولة، وبمعنى آخر إلى أي مدى يستطيع الاقتصاد الروسي أن يساعد موسكو على الاستمرار في دعم أنشطتها العسكرية على الجبهة السورية. 

والسؤال الآخر، إلى أي مدى سوف تواصل موسكو عملياتها العسكرية في سوريا، وتعميق مصالحها وتواجدها هناك، خاصة مع تعقد المشهد الاقتصادي الروسي  بفعل تطورات جائحة كورونا وانعكاساتها، وتراجع أسعار النفط. 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى