مكافحة الإرهاب

كنوز المعلومات المتنقلة .. من “عشماوي” لـ “محمد السيد” والواجهة الأخيرة مصر

وفرت ميادين الصراع في الشرق الأوسط وشبكة تحالفاتها المعقدة، وتشظي ظاهرة الإرهاب العابر للحدود، ووصول عدد التنظيمات المسلحة التي تنشط في المنطقة الممتدة من سوريا شمالاً لليبيا غربًا قرابة الألفي تنظيم وجماعة؛ البيئة المثلي للارتقاء بالمستوى التخطيطي والتدريبي وأخيرًا القتالي للعناصر الإرهابية وخاصة ذات التراتبية القيادية الوسطى التي تنخرط بصورة مباشرة في المواجهات الميدانية وتنفيذ العمليات النوعية التي ترمي لإحداث تغيير في ميزان القوى مع الدول المستهدفة وإرغامها على تبني مواقف وسياسات تتطابق مع أهداف الدول التي توظف أداة الإرهاب لتحقيق مكاسب سياسية ضمن مشاريعها الأممية التوسعية.

ولطالما عُرِف العنصر المصري في تلك التنظيمات الإرهابية والمسلحة بالنباهة وحُسن التخطيط، وتبوء مناصب قيادية رفيعة في شبكة الجيل الجديد من الإرهاب، منذ تأسيس تنظيم القاعدة في ثمانينات القرن المنصرم، إذ يقود حاليًا تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، الطبيب المصري صاحب الـ 68 عامًا والذي ينحدر من أسرة ميسورة الحال تعمل في مجال الطب، تولى القيادة بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن مطلع مايو 2011، كما تجدر الإشارة للإرهابي المصري محمد عطا، مهندس تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، حيث يُعد أولي إرهابيي الجيل الجديد، من تعلم قيادة الطائرات متعددة المحركات بمدرسة “هوفمان” بولاية فلوريدا.

 تلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر تحولات أمنية كبيرة علي دور الفواعل العنيفة من غير الدول، برزت في ضوء “الحرب علي الإرهاب” بقيادة الولايات المتحدة إبان غزو أفغانستان والعراق، إلي أن بدأت شرارة ما يُسمي بالربيع العربي في أواخر العام 2010، وتشظي ظاهرة الإرهاب العابر للحدود من بعدها علي وقع الانكشافات الأمنية والمؤسساتية بالدول العربية ولاسيما سوريا وليبيا، مما وفر بيئة مثالية لعناصر النخبة من السلفية الجهادية لرفع مستوى نشاطها وخاصة بعد وصول تنظيم الإخوان المسلمين للحكم في مصر في عام 2012، وتحول سوريا لأكبر ساحة لحرب العصابات في العالم ذات الطابع الطائفي والعرقي.

في هذه الأثناء سافر الكثير من أقطاب الفكر السلفي الجهادي في مصر لبؤرتي سوريا وليبيا، وتولوا مناصب “ميدانية – شرعية” كبري، أبرزهم؛ أبو الفتح الفرغلي، الذي شغل منصب مفتي هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة”، توجه لسوريا بعد أن أفرج عنه الرئيس المعزول محمد مرسي في العام 2012.

 وأفرز ذلك تحديًا جسيماً للأمن القومي المصري ولاسيما بعد اكتساب تلك العناصر خبرات ميدانية كبيرة في ساحات المعارك ومن ثم بدأ تسللها للأراضي المصرية وانضمامها للتنظيمات الإرهابية ذات الارتباطات “القاعدية – الداعشية”، وقد قدم الإرهابي هشام عشماوي نموذجًا لهذا التحدي حين عاد من سوريا في 2013، وشارك في اعتصامي “رابعة – النهضة” ليتسلل بعدها إلي سيناء للانضمام لتنظيم “بيت المقدس”، ويؤسس لمرحلة جديدة لعمليات التنظيم اتسمت بالعنف والتخطيط المتقن نظرًا لخبرته العسكرية السابقة، إلى أن انشق “عشماوي” عن عباءة “داعش”، واتجه للبوتقة القاعدية أيديولوجيًا وعسكريًا في أواخر عام 2014، ليؤسس بعدها بعام واحد، تنظيم “المرابطون” الموالي للقاعدة ورجلها في بلاد المغرب العربي “مختار بلمختار”. 

المرابطون .. إدارة التوحش في شمال وغرب أفريقيا وسقوط مدوي في قبضة الجيشين المصري والليبي”

أتسمت عمليات تنظيم المرابطون فور بدء “هشام عشماوي” العمل واتخاذه من مدينة “درنة” الليبية غرفة عمليات متقدمة، بالإقليمية، حيث طالت هجمات “المرابطون” دولة مالي، فنفذت الهجوم علي فندق “راديسون” في 2015، وهجوم آخر انتحاري في مدينة “غاو” شمال مالي أسفر عن مقتل العشرات من أفراد الجيش المالي وإصابة نحو مائة آخرين، أما العمليات في مصر فقد أدارها “عشماوي” باحترافية شديدة فاتسمت بالآتي:

  • الاستهداف الطائفي الموسع، من خلال تفجير الكنائس والهجوم علي قوافل الأقباط المتجهة للأديرة.
https://www.youtube.com/watch?v=qPIu54fxFdU
  • استهداف كبار مسؤولي الدولة المصرية في وادي النيل، حيث شارك عشماوي في التخطيط لاغتيال وزير الداخلية الأسبق اللواء محمد إبراهيم،
  • شن الهجمات النوعية علي الكمائن والارتكازات الأمنية، ومنها هجوم الفرافرة بالجبهة الجنوبية الغربية، وكرم القواديس بالعريش، ومعركة الواحات التي قادها ميدانيًا أحد تلامتذة عشماوي “عماد الدين عبدالحميد” المكني بالشيخ “حاتم”، فضلاً عن تفجير المنشآت المدنية الحيوية كمديريات الأمن في القليوبية والقاهرة. 

اللافت أن الهجمات النوعية التي خطط لها وشارك في تنفيذ بعضها “عشماوي”  ضد الارتكازات الأمنية للجيش المصري، جاءت بنفس نسق هجمات التنظيمات الإرهابية في سوريا. قصف كثيف بالهاون، يتبعه انطلاق سيارة مفخخة بسرعة نحو الحواجز الأمنية، لتخترق الدفاعات وتنفجر وسط الهدف موقعة أكبر قدر من الصدمة والخسائر في صفوف القوات، يتبع الموجة التفجيرية انطلاق عناصر “الانغماسيين” وباقي العناصر الإرهابية الأخرى لتصفية من بقي علي قيد الحياة، وهو نفس أسلوب اقتحام مطار الطبقة العسكري السوري ومستشفي الكندي في حلب.

https://www.youtube.com/watch?v=z_686pCqCg0

 وإجمالاً كان “عشماوي” النقطة المشتركة في أكثر من 54 جريمة، علي قدر ما اتاحت له الخبرة الميدانية الكبرى التي جعلته من أخطر الإرهابيين في منطقة شمال إفريقيا، أضافت حوله مجموعة من الأشخاص الذين تولوا مناصب قيادية رفيعة في التنظيم، وشكلوا مع عشماوي “كنوز معلومات” متنقلة، ولاسيما بعد توظيفهم من قوي إقليمية بعينها لتحقيق أجندات سياسية، ما شابك بين هؤلاء الأشخاص وطرق تمويلهم والدعم اللوجيستي الفائق الذي جعل مجموعة “عشماوي” تحكم سيطرتها علي مثلث السلفادور ومن ثم تهديدهم الخاصرة الجنوبية الغربية للدول المصرية.

إلا أن نجاح الجيش الوطني الليبي في تحرير مدينة “درنة” مطلع يونيو من العام 2018، ضيّق الدائرة علي عشماوي وأقرب مساعديه الذين لم يتمكنوا من الهرب للغرب الليبي، وباتو محصورين في جيوب عسكرية ضيقة بالمدينة التي كانت طيلة عامين 2015-2017 غرفة عمليات متقدمة لإدارة التوحش في شمال إفريقيا ومالي، وتنفيذ كبريات العمليات الإرهابية بالداخل المصري.

في الثامن من أكتوبر 2018، تم القبض على “هشام عشماوي” ومساعديه المصريين ” بهاء علي” و “صفوت زيدان”، وزوجة الإرهابي عمر رفاعي سرور وابنيه، في عملية نوعية وصِفت بالأكبر في الميدان الليبي.

 حيث تمت في سياق توارد معلومات استخباراتية تفيد بوجود “عشماوي” مع خليته في حي المغار في درنة. فباغتته وحدة خاصة فجر يوم الإثنين الموافق 8 أكتوبر، لم يتمكن علي إثرها من تفجير حزامه الناسف، كعادة العناصر الإرهابية عالية القيمة، وتسلمته المخابرات العامة المصرية نهاية مايو الماضي، مع مساعديه. وبعد قضاءه 274 يوماً في البلاد المصرية، تم تنفيذ حكم الإعدام.

شهد النشاط الإرهابي بعد القبض علي “عشماوي”، انخفاضًا ملحوظًا، بل انطلقت الأجهزة الأمنية بالتزامن مع القبض عليه بتطهير بؤر في الظهير الصحراوي لمحافظة أسيوط، إلا أن أهم مساعديه قد فلت من التطويق والاعتقال في درنة، وهو الإرهابي المصري ” محمد محمد السيد “، حتي تم اعتقاله قبل خمسة أيام بواسطة وحدات الجيش الوطني الليبي خلال مواجهات ضد ميليشيات حكومة الوفاق غرب العاصمة الليبية طرابلس. 

وطبقاً لما أعلنه الناطق الرسمي باسم الجيش الليبي اللواء أحمد المسماري، فإن المعتقل جري نقله لمدينة بنغازي شرق ليبيا لاستكمال تحقيقات الاستخبارات العسكرية معه، وأشار “المسماري”، أن الإرهابي المصري المعتقل شديد الخطورة وتورط في تفجير الكنائس المصرية، كما أفادت مصادر أمنية للشرق الأوسط اللندنية أن عملية الاعتقال تمت بالتنسيق مع الجانب المصري، ويتوقع أن يتم تسليمه للسلطات المصرية قريبا لمحاكمته. 

الضربة للدائرة الضيقة التي رافقت عشماوي في رحلته للهرب إلي ليبيا وتأسيس تنظيم “المرابطون” في حلته الجديدة؛ طالت إيضاً أحد أهم مساعديه، حيث قُتِل قبل يومين في محور عين زاره خلال معاك ضد الميليشيات المسلحة، وعُرِف باسم “تكتكه” حيث وصفه الجيش الليبي بالذراع اليمني لـ “عشماوي”، على خلفية خبرته الإرهابية في عمليات التفخيخ وإعداد المتفجرات.

خاتمة

تمثل معركة طرابلس ومصراته حجز الزاوية في مواجهة النشاط الإرهابي بشمال وغرب إفريقيا ولاسيما بعد الارتباطات المعدة والكثيرة التي كشفت عنها خلية تنظيم المرابطون مع الميليشيات التشادية وعصابات التهريب في غرب السودان، والجماعات المسلحة في مالي، هذا فضلاً عن ميليشيات طرابلس التي تقاد من أفراد مدرجين علي قوائم الإرهاب، وباتت ملاذاً آمناً لعناصر إرهابية فرت من الشرق الليبي، مع تعزيز الجيش الوطني سيطرته علي أكثر من 90% من أراضي البلاد.

 ما يدفع ببزوغ نمط التصفية علي الطريقة الروسية للعناصر الإرهابية شديدة الخطورة، ضمن جولات المعارك الدائرة حول التخوم الغربية والجنوبية للعاصمة، تلك المفارقة التي أعادت للروس الواجهة ضمن أنماط التصفية الأخيرة، تزامنت مع نشاط روسي متزايد في بنغازي التي وصلتها بالأمس حاويات بمعدات وسيارات مدرعة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى