
كيف سيؤثر “كورونا” على شكل الاقتصاد العالمي
ترك الأزمات ندوبًا على جسد الاقتصاد العالمي، لا تتلاشى مع تقدمه وتطور بنيته، وخصوصًا تلك التي تتفشى على النطاق الدولي أو تطال القواعد الأساسية المُنظمة للسوق ذاتها. فعقب أزمة الكساد الكبير في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، انتهى بغير رجعة ما عُرف تقليديًا لقرونٍ بـ “الدولة الحارسة” التي تكتفي بالمُشاهدة دنما تدخُل، لتترك “اليد الخفية” تُنظم السوق وتُرتبه، فتحل بدلًا منها دولة كينز “المُتداخلة”، التي تمارس تأثيرًا مُتفاوتًا على السوق يبدأ من تقديم إعانات البطالة وحتى تنظيم المواصلات العامة في الدول الرأسمالية. كذلك أسفرت الأزمة المالية العالمية في العقد الأول من القرن الحالي عن انتهاء عصر السيادة المُطلقة للبنوك التجارية، لتُلجمها مُقررات بازل 3، بلجامٍ حديديٍ، وتُخضعها الدول لطبقات داخل طبقات من التفتيش والرقابة، بحيث لا تسمح بخلق أزمة “رهن” تقتلع النظام المصرفي من جذوره مُجددًا.
وبينما يتعرض الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي لضغوطٍ قاسية على مركزه وأطرافه طوليًا، وعلى قطاعاته الاقتصادية بكاملها تقريبًا عرضيًا، بسبب عدم اليقين الناتج من الحروب التجارية والبركسيت والتغيرات المُناخية. يأتي الانتشار الوبائي لكورونا ليُفاقم هذا الضغط، ويُحوله إلى كارثة عالمية تشل القطاعات الاقتصادية المضغوطة فعلًا كما أوضحنا الأسبوع الماضي، ليخلق جرحًا غائرًا بالتأكيد سيترك ندبًا من العيار الذي لا يتلاشى في المُستقبل، ذلك أن الأزمة الراهنة تسير في عكس اتجاه الأزمات السابقة التي بدأت مُعظمها من القطاعين المالي والنقدي لتنتقل إلى القطاعات الحقيقية. إذ تضرب الأزمة الحالية قطاعات الاقتصاد الحقيقي السلعية والخدمية من تصنيع وسياحة ونقل وتعليم وصحة، لتنقل تأثيرها إلى القطاعين المالي والنقدي، وهو ما سيعقبه بالتأكيد تغيرات جذرية على مستوى بنية هذه القطاعات، لتفادي ذات الحجم من الخسائر في المُستقبل حال تعرض العالم لجائحة فيروسية جديدة على ذات النطاق.
فعلى مُستوى التصنيع
- سيزيد الاعتماد على الألة بدلًا من الإنسان، هدف الفيروس وأداة انتشاره في ذات الوقت، وذلك بما يُحقق عدم توقف النشاط كما حدث في ووهان الصينية بسبب الحجر الصحي، وفي ذات الوقت يضمن سيطرة لأصحاب الأعمال تُقلل نسبيًا من حدة انخفاض المعروض من قوى العمل وقت انتشار العدوى الفيروسية.
- ستلجئ الشركات إلى توزيع أكبر لاستثماراتها في الخارج جُغرافيًا بين قارات العالم المُختلفة، بدلًا من تركيزها في جنوب/شرق أسيا، بحيثُ تُقلل المخاطر وتتفادى توقف إنتاجها بالكامل دُفعة واحدة، وتُحافظ على عملائها وعقودها حتى في ظل القوة القاهرة. فعلى سبيل المثال تمتلك نيسان 13 مُنشأة إنتاج في جنوب شرق أسيا تعرضت أو مازالت مُعرضة للإغلاق الكامل في الوقت الحالي، منها خمسة في الصين وحدها، والباقي ينتشر في دول تتصل وثيقًا بالاقتصاد الصيني كتايوان هونج كونج وماليزيا، بينما يقتصر تواجدها في الشرق الأوسط على مقر إداري واحد في دُبي، وثلاث مُنشآت إنتاجية في كامل إفريقيا واحدة في كُلًا من مصر، نيجريا وجنوب إفريقيا، مازالت تعمل جميعها بكامل طاقتها في الوقت الحالي.
- ستتجه الشركات العالمية إلى تنويع سلاسل الإمداد بحيث لا تعتمد صناعتها على مُدخلات إنتاج من الصين وحدها، خاصة في ظل اتجاه الشركات العالمية إلى خفض المخزون لأدنى درجة تحت تأثير ما يُعرف بنظام “الإنتاج اللحظي” أو “just-in-time manufacturing” والذي يربط الطلب بالإنتاج، بحيث يُصنع فعليًا انتاج يساوي تقريبًا حجم الطلب، بهدف خفض تكلفة تخزين المُنتج، وفي ذات الوقت يسمح بدخول الموديلات الجديدة السوق بسلاسة لانخفاض المعروض من المُوديلات القديمة وهو ما يرفع أرباح الشركات، لكن هذا النظام يأتي مع عيب واحد فقط، وهو انخفاض المخزون من مُدخلات الإنتاج بشدة ليكون قادر على تحقيق الميزتين السابقتين، بالتالي فإن أي تعطل في سلاسل الإمداد يؤدي لحظيًا إلى توقف الإنتاج بسبب عدم كفاية المخزون، وهو ما تعرضت له صناعة الإلكترونيات حيث أعلن تقرير لشركة “Trend Force” المُتخصصة في تحليل سلاسل الإمداد خفض توقعاتها للإمداد من الحواسب المحمولة إلى 27.5 مليون وحدة بدلًا من 35 مليون وحدة في الرُبع الأول من 2020، وخصوصًا في فبراير الذي خفضت توقعاتها فيه من 10.8 إلى 5.7 مليون وحدة فقط بما يُكافئ 47.6%. يفرض “الإنتاج اللحظي” إذًا توزيع تصنيع المُدخلات بين عدد أكبر من المُنتجين بحيث إذا تعطل أحدهم لأي سبب يعوضه الأخر.
نتوقع ايضًا أن يتأثر قطاعي السفر والسياحة بحيث ستوسع شركات السياحة الدولية من قائمة مقاصدها لتضم عدد أكبر من المقاصد مُوزعة جغرافيًا على عدد كبير من الدول، وخاصة في أسيا وإفريقيا. كما ستنخفض مُعدلات السياحة الترفيهية في المدى المنظور، وارتفاع مُعدلات الطلب على أنماط أخرى من السياحة كالعلاجية خاصة للدول التي أثبتت نُظمها الصحية قُدرة على التصدي للفيروس، بالإضافة تعزز إلى أنماط أخرى جديدة كالسياحة للجزر المُنعزلة والسياحة الفضائية للأغنياء، وهو ما بدأ يُشكل اتجاهًا بعدما بدأت شركات مثل “Virgin Galactic”، “Space X”، و “Blue Origin” الرائدة في هذا المجال تلفت النظر في أسواق الأسهم المُتدهورة. كما سيرتفع الطلب على الطائرات الخاصة والصغيرة التي تحمل عدد أقل من المُسافرين، مع مساحات واسعة وفراغات كبيرة، وبالتالي بروز قادة جُدد في سوق صناعة الطائرات المدنية بجانب Boeing الأمريكية Airbus الأوربية، مثل Bombardier الكندية وEmbraer البرازيلية وغيرها.
كذلك قد يتغير شكل العمل نفسه حيث ستتوسع الشركات في إتاحة العمل لموظفيها من المنازل بعدما اثبتت الجائحة جدوى هذا النوع من العمل للموظفين أنفسهم الذين ارتفعت انتاجيتهم مُقارنة بتواجدهم في الشركات بالإضافة إلى خفض الضغوط المرورية، وتقليل استهلاك البنزين، يُضاف إلى ذلك ان الفيروس سيُخلف مزيدًا من التمييز ضد المرأة التي اضطرت إلى التزام المنزل وترك العمل قبل الرجل بسبب الغاء الدراسة وذلك لرعاية أطفالها في عدد كبير من دول العالم.
تُعطي هذه التغيرات في مُعظمها فُرصًا للاقتصادات النامية ومن بينها مصر، للاستفادة من هذه التغيرات سواء باجتذاب بعضًا من المُنشآت الصناعية التي سيجري نشرها في العالم وخاصة إفريقيا التي تضررت بشكل أقل من الفيروس، أو الدخول في سلاسل التوريد العالمية الجديدة التي سيجري تأسيسها، وهي فرص لن تتكرر مُجددًا في المُستقبل، يجب على الحكومة رغم انشغالها في الوقت الحالي بمواجهة الفيروس ونتائجه الاقتصادية، أن تخصص لها جهودًا كافية، خاصة وأن الاقتصاد العالمي سيتسارع بشدة ويبدأ في تحقيق مُعدلات نمو عالية عند اكتشاف مصل أو لقاح للفيروس.