ليبيا

حصاد عام…. ” أنقرة” بين التأزم الداخلي والرهانات الخارجية الخاسرة

شهد عام 2019 جملة من التغيرات والتحولات العالمية، ارتبط بعضها بمزيد من التوتر والاضطراب في عدد من الساحات، فيما تشكلت الأخرى على أسس تكاملية وتعاونية بين عدد من الفواعل الاقليمين والدوليين، وسط هذه الديناميات تشكل العام المُنصرم بالنسبة لتركيا والرئيس أردوغان من خلال مجموعة من الأزمات على الصعيدين الداخلي والخارجي، بحيث أصبح العام بمثابة عام الخسائر المتتالية والاخفاقات والرهانات غير المُجدية بالنسبة لأنقرة، حيث أسدل الستار على هذا العام ليجد أردوغان نفسه وحيدًا ومعزولًا عن محيطة الداخلي والخارجي الأمر الذي يمكن الإشارة إليه فيما يلي:

الداخل التركي.. تأزم واخفاقات

كان 2019 عامًا مفصليًا فيما يرتبط بالداخل التركي سواء على صعيد التحولات السياسية أو التغيرات الاقتصادية التي شهدتها الساحة بحيث أصبح الحديث عن أفول الاردوغانية متصاعدًا في الداخل بشكل غير مسبوق، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

  • تآكل القواعد الشعبية، مثلت الانتخابات المحلية التي عُقدت في مارس2019 ضربة قاسية لحزب العدالة والتنمية والرئيس التركي أردوغان، إذ شهدت هذه الانتخابات تحولات تحمل العديد من الدلالات على حجم تراجع رصيد وشعبية الرئيس التركي وحزبه الحاكم، حيث استطاعت المعارضة التركية أن تحسم السباق لصالحها في عدد من المدن التي كانت بمثابة المعقل الأساسي والرئيسي للعدالة والتنمية، فقد جاء فوز ” أكرم إمام أوغلو” في معركة الحسم حول بلدية إسطنبول على حساب مرشح الحزب الحاكم ورئيس الوزراء السابق ” بن علي يلدريم”  ليؤكد على المأزق السياسي والشعبي الذي يتعرض له اردوغان وحزبه والذي سبق له وقد أعلن بأن من يفوز بـــ ” إسطنبول” يفوز بتركيا في دلالة على قوة وتأثير إسطنبول- 15 مليون نسمة- ودورها المفصلي في حسم المحافل والسباقات الانتخابية، خاصة وأن العدالة والتنمية ظل مسيطرًا عليها لفترات طويلة، بل ومثلت في كل هذه الفترات عامل الحسم الانتخابي بالنسبة لاردوغان وحزبه، بالإضافة إلى ذلك فقد خسر الحزب عدد من المدن الرئيسية من بينها “أنقرة” و”إزمير” الأمر الذي يدل على مدى تعقد المشهد الداخلي وما يمكن أن يؤول إليه مستقبل أردوغان وحزبه في السنوات القادمة خاصة مع تصاعد بعض الأصوات التي تنادي بضرورة إجراء انتخابات رئاسية مُبكرة.
  • انقسام وتشرذم حزبي، شهد العام الفائت مزيدًا من التشرذم والانقسام داخل حزب العدالة والتنمية خاصة في اعقاب موجة شديدة من الاستقالات اعتراضًا على سياسة أردوغان في عدد من الملفات سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. وقد كانت استقالة رئيس الوزراء الأسبق والحليف المٌقرب والموثوق فيه بالنسبة لاردوغان ” أحمد داوود أوغلو” وإعلانه عن تشكيل حزبًا سياسيًا جديدًا بمثابة هزة عنيفة داخل الحزب وقد توالت بعدها الاستقالات لعدد من الأعضاء، ناهيك عن استقالة ” على باباجان” نائب رئيس وزراء تركيا السابق، وهو ما يؤكد حجم التشظي والانشقاق داخل الحزب، الأمر الذي تؤكده الأرقام الرسمية فخلال المؤتمر السادس لحزب العدالة والتنمية (اغسطس2018) تم الإعلان عن أن أعضاء الحزب وصلوا نحو 10 مليون و719 ألف و234 عضوًا، إلا أن هذه الاعداد تقلصت وتراجعت لتصل إلى نحو 9 مليون و931 ألف و 103 عضوًا حتى (يوليو 2019) وهو ما يعني أن الحزب قد خسر ما يقرب من مليون عضوًا خلال عام. وعليه تمثل موجة الاستقالات وميلاد الأحزاب الجديدة في الداخل التركي ناقوس خطر على مستقبل وشعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
  • تأزم وتفاقم اقتصادي، شكل عام 2019 تحديًا اقتصاديًا بالنسبة للداخل التركي حيث فقدت الليرة نحو 9% من قيمتها مقارنة بالدولار بحيث أصبحت ضمن أضعف العملات أداءً خلال العام، كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنحو 30% خلال الفترة من يوليو 2018 حتى يوليو 2019، في حين ارتفعت معدلات البطالة خلال (يونيو2019) بنسبة 2.8% خلال عام حيث وصلت نحو 13% مقارنة بنسبتها خلال(يونيو2018)، إذ وصل عدد العاطلين عن العمل نحو 4 ملايين و253 ألفًا وفقًا لهيئة الإحصاء التركية، كما بلغ معدل التضخم نحو 15.5%، في الوقت ذاته مثل الدين الخارجي عائقًا أمام الاقتصاد التركي حيث بلغ خلال عام 2019 نحو 453 مليار دولار وصل لنحو 130 مليار دولار قبل صعود حزب العدالة والتنمية لمقاليد السلطة.
  • انتهاك حقوقي ممنهج، دائمًا ما يتشدق اردوغان بالحقوق والحريات، إلا أن ممارساته في الداخل التركي تتنافى بشكل كبير وحاد مع ما يعلنه، خاصة وأن تركيا شهدت ولا تزال حالة من الاقصاء والانتهاك الشديد للحقوق والحريات بالتحديد في مرحلة ما بعد الانقلاب المزعوم في 2016، وقد نجم عن هذه السياسة وضع تركيا على قائمة أعلى الدول في انتهاكات حقوق الإنسان وفقًا لتقارير المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، كما أبقت “فريدوم هاوس” للحريات تركيا ضمن الدول غير الحرة وذلك في تقريرها السنوي بشأن الحريات في العالم، حيث كرس اردوغان كافة جهوده للنيل من خصومه واقصاء معارضيه بعيدًا عن المشهد، وقد أصبحت تركيا سجنًا للمعارضة  حيث وصلت عدد السجون في تركيا نحو 396 سجنًا حتى (مارس2019)، وذلك قبل أن تعلن وزارة العدل التركية في (مايو2019) عن إنشاء نحو 91 سجنًا جديدًا، ناهيك عن فصل ما يزيد عن 150 ألف موظف حكومي واحتجاز عشرات الآلاف، واغلاق مئات المؤسسات الإعلامية والصحيفة والمحاولات الدائمة من اردوغان للسيطرة على كافة مفاصل الدولة.

السياسة الخارجية.. عزلة ورهانات خاسرة

   تبني اردوغان خلال عام 2019 سياسة خارجية قائمة على افتعال الازمات واقحام أنقرة في عدة ملفات متشابكة، وقد اتخذت كافة تحركات أردوغان الخارجية مجموعة من السمات تتمثل في انتهاك القوانين والمواثيق الدولية والتدخل في شئون الدول وعدم احترام السيادة الإقليمية وحرمة الحدود، وهو النهج الذي اتبعه اردوغان في سياسته الخارجية لفترات طويلة وامتد معه الأمر خلال عام 2019، الأمر الذي يمكن تحديد ملامحه فيما يلي:

  • الاستيطان التركي والنهج التوسعي،  اعتمد اردوغان خلال العام المنصرم على مزيدٍ من التدخل في شؤون دول الجوار، وقد كانت عملية نبع السلام (أكتوبر2019) والغزو التركي للشمال السوري، وسعي اردوغان الدؤوب لاستقطاع جزء من الاراضي السورية، والعمل على إعادة هندسة المنطقة الحدودية بين البلدين خير دليل على تطلعاته التوسعية, وقد قُوبل هذا الغزو بمزيدٍ من الانتقادات الدولية، نظرًا لما تمثله هذه التحركات من تداعيات جمه، كان من أبرزها امكانية عودة داعش للمشهد مرة أخرى، خاصة بعدما تواردت أنباء عن هروب نحو 785 داعشيًا من السجون على أثر هذه العملية، ناهيك عن عمليات النزوح التي طالت آلاف المدنيين. وقد تسبب هذا الهجوم في ردة فعل أوروبية عنيفة تجاه أنقرة، حيث أعلنت حكومات الاتحاد الأوروبي عن وقف تصدير الأسلحة إلى تركيا، كما هددت الولايات المتحدة الأمريكية بفرض مزيد من العقوبات على الاقتصاد التركي.
  • دعم الميليشيات المُسلحة”، لم يكتفي اردوغان بالتدخل العسكري في دول الجوار، بل ذهب لدعم الجماعات والميليشيات المُسلحة في ساحات بعيدة عن الحدود التركية، وقد تمثل ذلك بوضوح عبر موقف أنقرة من دعم حكومة السراج والميليشيات المسلحة في طرابلس، فعلى الرغم من قرار مجلس الأمن بحظر بيع أو توريد الأسلحة لليبيا، إلا أن اردوغان ضرب بهذه القرارات عرض الحائط، وقدم كافة اشكال وسبل الدعم للميليشيات المسلحة خاصة في مصراته والتي تُعد معقلًا رئيسيًا للجماعات المتطرفة – حيث تشير التقارير إلى وجود 30 ألف مسلحًا-، من خلال تزويد هذه العناصر بعدد من الاسلحة والمعدات العسكرية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد الأمر لقيام تركيا بدور  الدولة الترانزيت في نقل إرهابيين من سوريا إلى ليبيا، وهو ما كشفته عدد من التقارير فيما يتعلق بقيام رحلات جوية مباشرة من تركيا إلى مصراتة وطرابلس، وذلك من خلال أحدى شركات الطيران التابعة لـــ “عبدالحكيم بلحاج” أكير الجماعة الإسلامية الليبية والذي يتخذ من تركيا مقرًا له، ناهيك عما كشفته الأحداث من وجود عدد من الخبراء العسكريين ضمن ما يُعرف بغرفة عمليات طرابلس بهدف تدريب هذه الميليشيات على استخدام الطائرات بدون طيار، وتحديد الأهداف بدقة وسبل تنفيذ العمليات. وقد لا يتوقف الأمر خاصة مع سعي اردوغان لتمرير قرار عبر البرلمان التركي يسمح بإرسال جنود أتراك لدعم حكومة السراج.
  • تجاوز القانون والأعراف الدولية، مثل العام الماضي تجاوزًا واضحًا من قبل تركيا للأعراف والمواثيق الدولية، حيث أعلن اردوغان في أكثر من مناسبة رفضه لاتفاقيات ترسيم وتعيين الحدود البحرية بين مصر وقبرص، كما عمل على فرض سياسة الأمر الواقع من خلال التنقيب في المياة الاقتصادية الخالصة لقبرص، واستمرار عمليات التنقيب في شرق المتوسط بشكل عام، خاصة بعد حالة العزلة التي فرضتها عليه الترتيبات الأخيرة بشأن المتوسط وفي مقدمتها تدشين مصر لمنتدى غاز شرق المتوسط(يناير2019)، وفي محاولة لمقاومة هذه العزلة سارع أردوغان لتوقيع مذكراتي تفاهم مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي “فايز السراج” تسمح له بالتنقيب عن الغاز في المنطقة، إلا أن الواقع يؤكد أن كل هذه التحركات تتعارض مع القانون الدولي للبحار، خاصة وأن تركيا ليست دولة متشاطئة مع ليبيا وان هذه الاتفاقية تتجاهل جزيرة كريت وحقوق دولة اليونان في مياهها الاقتصادية الخالصة، ناهيك عن حقوق قبرص في شرق المتوسط، وهو ما يبرر رفض وامتناع تركيا حتى الآن من التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة للبحار 1982، حيث أن بنود ونصوص الاتفاقية فيما يتعلق بعملية السماح بالتنقيب عن الغاز واستغلال الثروات الطبيعة في المناطق الاقتصادية الخالصة للدول المتشاطئة لا تنطبق على أنقرة بأي شكل من الأشكال. لذا يعمل اردوغان على فرض أمر واقع يسمح له باستغلال الثروات في شرق المتوسط دون سند قانوني.
  • علاقات متوترة مع القوى الكبرى، تحولت سياسة اردوغان وعلاقته مع الدول الكبرى إلى مزيدٍ من التوتر خلال العام الماضي، ولعل شراء تركيا لمنظومة 400-S من روسيا كانت سببًا لزيادة التوتر بين أنقرة وواشنطن من ناحية وحلف الناتو من ناحية أخرى، حيث ترى تلك الدول أن هذا النهج يتعارض مع مبادئ الحلف، إذ أن شراء هذه المنظومة قد تم من خلال دولة خارج حلف الناتو، وهو ما يثير كثيرًا من الجدل والتكهنات، خاصة وأن هذه العملية قد تساعد روسيا للحصول على بيانات ومعلومات حساسة تتعلق بالأسرار العسكرية الخاصة بحلف الناتو ونظم التسليح المتقدمة فيه، وعليه فقد شكلت هذه القضية مجالًا للتجاذب والتضاد بين الرؤية التركية ورؤية الدول الاعضاء في حلف الناتو، وعليه فمن المتوقع أن تستمر هذه القضية ضمن القضايا الشائكة والمتوترة بين تركيا والدول الأعضاء في الحلف، بما قد يزيد من عزلة تركيا الدولية وقد يتطور الأمر إلى فرض عقوبات اقتصادية ترفع من حدة الأزمة في الداخل التركي.
  • زعامة إسلامية وهمية، اختتم اردوغان عام 2019، بعدما فشل في تقديم نفسه كزعيم اسلامي في قمة ماليزيا التي عُقدت في ديسمبر2019، والتي سعى من خلالها لتشكيل تحالف وتكتل مناوئ لمصر والسعودية والإمارات، كما عمل على تهميش منظمة التعاون الإسلامي وخلق منصة بديلة يتزعمها أردوغان وحلفائه،  إلا أن تلك المحاولات لم تؤتي ثمارها، خاصة وأن الدول المشاركة تُعد من الدول الراعية للجماعات والتنظيمات الإرهابية وعلى رأسهم تركيا وقطر وايران، كما أن اشراك عدد من الفواعل كالحوثيين وحماس قد أثار مزيدًا من علامات الاستفهام حول القمة التي فشلت في نهايتها في الوصول إلى أهدافها بعدما قرر رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان عدم الحضور، وبهذا انهى اردوغان عام 2019 بقمة مشبوهة تم الترتيب له بشكل غامض.

مُجمل القول، مًثَل 2019 عامًا متأزمًا لاردوغان على المستوى الداخلي، فضلًا عن كونها عامًا للرهانات الخاسرة في عدد من الملفات والقضايا الخارجية، ويبقى مستقبل اردوغان وحزبه خلال العام 2020 محفوفًا بالمخاطر حال استمراره المتوقع في هذه السياسات والتحركات التي تُزيد من عزلته واقصاءه عن محيطه الاقليمي والدولي

+ posts

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى