
الخطوط الحمراء.. المشهد العراقي بين توظيف الميليشيات وأهداف المقاتلات الأمريكية
أعاد مشهد محاولة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، مشاهد اقتحام السفارة ذاتها ولكن في محطتين مختلفتين، الأولي كانت في طهران عام 1979 بعد ثورة الملالي، والثانية في بنغازي، حين قامت عناصر متطرفة بهجوم علي القنصلية الأمريكية خلّف أربعة قتلي منهم السفير الأمريكي “كريس ستيفنز”، ليلة الحادي عشر من سبتمبر من العام 2012.
انطلاقاً من العام 1979 ومروراً بواقعة قنصلية بنغازي، ووصولاً للحظة الراهنة وما يحدث في الساحة الخضراء ببغداد، تباينت ردّات الفعل وأشكال الاستجابات الأمريكية لمثل هذه الخروقات والتهديدات غير النمطية، على مستويات القيادة المختلفة من البيت الأبيض للخارجية والبنتاغون. فالضربات الأمريكية الأخيرة على 5 مواقع اللواءين 45 و46، التابعين لميلشيا كتائب حزب الله العراقي، الأحد الماضي، في مسرح عملياتي يمتد من شرق سوريا لغرب العراق، جاءت رداً على هجوم صاروخي نفذته هذه الميليشيا على قاعدة عسكرية عراقية بكركوك أدى إلى مقتل متعاقد أمريكي.
هجمات كتائب حزب الله العراقي طيلة الشهور الفائتة لم تستهدف التواجد الأمريكي الملحق بالقواعد العراقية فقط، وانما شملت أيضاً عدة مواقع لقوات التحالف الدولي حسبما أوردت وكالة بلومبرغ للأنباء. كما أسفرت عن سقوط عشرات القتلى من بينهم ضباط إيرانيون.
سياقات الضربات الاستباقية في بيئة استراتيجية معقدة
يتسم التعاطي الأمريكي عبر إدارة ترامب مع الصعود الإيراني في المنطقة بالحدّة والنزعة الهجومية، بدلاً من سياسات الاحتواء المتبعة سابقاً ولاسيما من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ما جعل الموقف الأمريكي يصبح أقل تردداً في استخدام القوة العسكرية وخاصة بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران في مايو من العام 2018. واحتدام التنافس الإقليمي علي الدولة المركز بين كل من تركيا وإسرائيل وإيران، واتجاه الأخيرة للتموضع حول مناطق الاختناقات المرورية من مضيق هرمز لباب المندب. ما وسع من رقعة واحتمالات الاشتباك المباشر والغير مباشر بين إيران ووكلائها في المنطقة والقوات الأمريكية. فكان التركيز الأمريكي على لجم النشاطات الإيرانية ومراقبة مكاسبها الاستراتيجية إثر ملئها لفراغ كبير ممتد من أبعد نقطة في شرق العراق وصولاً للسواحل السورية عبر تواجد مباشر ووكلاء، واستغلالها ذلك لإيجاد موقع أفضل في مواجهة العقوبات الأمريكية وخاصة المتعلقة بصناعة النفط ومسارات تصديره.
المشهد الداخلي العراقي بدوّره قد يضاهي تعقيد البيئة الاستراتيجية الإقليمية، إذ تختبر البلاد ربما أكبر موجة احتجاج شعبية قوامها شريحة شبابية تطمح لتعزيز بيئة حكم مدنية وسط مناخ سياسي ضاغط بات يتسم بالتحزب الديني والطائفي علي نحو خانق وممنهج بفعل التدخلات الإيرانية التي أحكمت سيطرة طهران علي مفاصل الدولة العراقية.
فالميليشيات العسكرية باتت دولة داخل الدولة، تم تقنين أوضاعها ودمجها بالمؤسسات العسكرية للدولة وصرف رواتبها حكومياً وخضوعها هيكلياً تحت إمرة رئيس الوزراء، بعد أن وفر صعود تنظيم داعش الدوافع اللازمة لذلك، تحت فكر وأيديولوجية، ترتبط بعقيدة تستلم أوامرها من مُوجِّه ديني معلن أو مستتر، ولها وظيفة محددة هي خدمة مصالح إيران، ولا تأخذ أوامرها ومسوغات وجودها التنظيمية والعقائدية من الدولة العراقية.
المارينز والاستجابة من المسافة صفر
السفارة الأمريكية في العراق هي أكبر سفارة أمريكية بالعالم، مساحتها أكبر عشر مرات من أي سفارة أمريكية في أي دولة، وتقع في الساحة الخضراء، شديدة التحصين.
قبل شهرين تعرضت السفارة لمحاولات ضربها بصواريخ الكاتيوشة، فانتقل غالبية موظفيها إلى أربيل قُبيل وصول متظاهري الحشد الشعبي وقيادته أمام السفارة وبدء محاولة اقتحامها.
دفع البنتاجون بعناصر المارينز من أقرب نقطة، كما انطلقت مروحيات الأباتشي في الأجواء لأعمال المراقبة والرصد، يأتي ذلك بالتزامن مع قرار وزير الدفاع الأمريكي “مارك إسبر” إرسال نحو 750 جندي من الفرقة 82 المحمولة جواً، والمُعدّة خصيصاً للاستجابة للتهديدات والعدائيات في أي مكان بالعالم في ظرف 18 ساعة فقط.
كما أرسلت العديد من طائرات الشحن العسكرية المخصصة لمهام تزويد المقاتلات بالوقود، وعبرت من شرق المتوسط قاصدة عدة نقاط أبرزها دولة الكويت.
تراشق وتبادل الاتهامات والتحذيرات
حمّل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إيران مسؤولية تدبير الاعتداء على السفارة الأميركية في بغداد، كما دعا العراقيين إلى “التحرر” من هيمنة طهران. وقال ترامب في تغريدة إن “إيران قتلت مقاولاً أميركياً، وأصابت الكثير. نحن رددنا بقوة، وسنقوم بذلك دائماً. الآن إيران تدبر الهجوم على السفارة الأميركية في العراق، وسيتحملون المسؤولية الكاملة، ونحن نتوقع من العراق استخدام قواته لحماية السفارة. وقد أبلغناهم بذلك“
تغريدات ترامب شكلت تحولاً في الموقف الأميركي من رأس الإدارة الأميركية مباشرة، وليس من أي مسؤول آخر، حول مستقبل التعامل مع ملف العراق والدور الذي تلعبه إيران فيه. وجاءت تغريدته بعد تصريحات مماثلة من عدد من المسؤولين الأميركيين، بأن السياسة التي كانت متّبعة من إدارة باراك أوباما قد انتهت، وبأن سياسة الابتزاز التي دأبت على اعتمادها طهران مع واشنطن، لم تعد تجدي.
وفي وقت لاحق، قالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مورغان أورتاغوس، إن الوزير مايك بومبيو أجرى اتصالين هاتفيين منفصلين بكل من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي والرئيس برهم صالح من مكتبه في واشنطن. وأضافت أورتاغوس في بيان أن بومبيو أوضح أن الولايات المتحدة ستواصل الدفاع عن الأميركيين الموجودين هناك أصلاً لدعم عراق مستقل وذي سيادة. وأضاف البيان أن عبد المهدي وصالح أكدا للوزير أنهما يتحملان مسؤولية جدية وسيضمنان سلامة وأمن الأفراد والممتلكات الأميركية.
وقال بومبيو في تغريدة: “لقد رددنا بشكل دفاعي على الهجوم الإيراني بالوكالة الذي أسفر عن مقتل مواطن أميركي وجرح جنوداً أميركيين وعراقيين. الآن جماعات مدعومة من إيران تهدد سفارتنا في بغداد”. وأضاف أنه تحدث مع صالح وعبد المهدي من أجل التأكيد على التزامهما بحماية المواطنين والمباني الأميركية.
فيما استنكر “علي خامنئي”، المرشد الأعلي الإيراني، اتهام الولايات المتحدة لإيران بتدبير الهجوم على السفارة الإيرانية، وقال اليوم الأربعاء، إنّ الولايات المتحدة “تنتقم” من الحشد الشعبي بالعراق، لهزيمته تنظيم “داعش” الإرهابي.
جاء ذلك في كلمة لخامنئي بفعالية محلية في العاصمة طهران، تعليقا على اتهام الإدارة الأمريكية، إيران، بالوقوف وراء الاعتداء على سفارة واشنطن بالعاصمة العراقية بغداد.
وأضاف خامنئي: “انظروا ماذا تفعل الولايات المتحدة في العراق وسوريا، هي تنتقم من الحشد الشعبي لهزيمته داعش. الحشد دمر داعش الذي أوجدته الولايات المتحدة، وهم (الأمريكيون) الآن ينتقمون”.
وتعليقا على موقف ترامب، شدد خامنئي على أن بلاده “ستواجه كل من يهددها دون تردد”.
الخطوط الحمراء.. والتراجع الإيراني
فيما وصلت التعزيزات الدفاعية الأمريكية للمنطقة، اختبرت القيادة الإيرانية جدية التعاطي الأمريكي مع الاعتداء علي المنشآت الأمريكية ولاسيما الدبلوماسية، فهي من ناحية تضع العراق رهن التجاذبات الإيرانية الأمريكية، وقد تدفع بتعرضه للعزلة والعقوبات نتيجة عجزه عن حماية تلك المهام الدبلوماسية. ومن جهة أخري قد توفر بيئة أمنية جديدة للمكون الأمريكي العسكري بالمنطقة من المحتمل أن يعاظم الفارق بين قدرات الردع الأمريكية على نحو قد يلجم الإنخراط الإيراني في المنطقة والعراق.
حيث صدر بيان عن ميليشيا الحشد الشعبي ظهر اليوم تطالب فيه أنصارها المتواجدين قرب السفارة الأمريكية الانسحاب احتراماً لقرار الحكومة العراقية.
مستقبل مسارات التصعيد في العراق
عبرت الإدارة الأمريكية مراراً عن عدم سعيها للدخول في حرب مباشرة مع إيران، وكان آخر هذه المؤشرات، ما صرح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل يوم. حيث قال يوم الثلاثاء إنه لا يتوقع الحرب مع طهران.
وقال ترامب في مقرّ عطلته في فلوريدا عندما سأله أحد المراسلين عن احتمال الحرب مع الجمهورية الإسلامية “انا لا أرى ذلك يحدث”. وأضاف ترامب قبيل مشاركته باحتفالات العام الجديد “أنا أحبّ السلام”.
بدّورها تراجعت إيران عن مسارات التصعيد وخاصة بعد اختبار الجدية الأمريكية في عدم التردد في استخدام القوة العسكرية لمعالجة التهديدات. وعليه فإن مستقبل الضربات الأمريكية المماثلة للضربة الأخيرة يأتي للحفاظ على ثلاثة ركائز:
- إحكام السيطرة علي التدفقات القادمة من إيران للميادين السورية والعراقية عبر طريقها البري الذي أنجزته في خضم الحرب السورية والواصل من طهران لبيروت مروراً ببغداد ودمشق، وقد عبرت الغارات الامريكية في معبر التنف عام 2017، وعدم انسحاب القوات الامريكية من المعبر مؤشر لذلك.
- منع إيران من انشاء بنى تحتية عسكرية ولاسيما الصاروخية في المنطقة الممتدة من صحراء الأنبار حتى الجنوب السوري عبر وكلاء محليين.
- فصل ربط القدرات الهجومية للميلشيات الشيعية الموالية لإيران عن قدراتها العسكرية في التعاطي مع أزمتي مضيق هرمز والعقوبات علي صناعة النفط.
ختاما:
يظل المشهد العراقي يتموضع تحت وقع التجاذبات الأمريكية الإيرانية إلى أن تنجح الجهود الرامية للوصول لتسوية سياسية، أو أن تعي طهران خطوطها الحمراء جيداً، بجانب استيعاب المنظمات المسلحة في العراق خطورة انتهاكها لسيادة الدولة واحتكارها لقرارها السيادي، وتطويعه حسب الانتماءات فوق الوطنية لصالح قوة غير عربية لا يعنيها سوى إحكام السيطرة على الدول الرخوة في الإقليم العربي.



