دول المغرب العربي

المشهد الجزائري…متغيرات جديدة

دخلت الجزائر مرحلة جديدة، بانتخاب رئيسًا لها، في انتخابات أجريت في الثاني عشر من الشهر الجاري، بعد فترة شغور لمنصب الرئاسة دامت نحوعشرة أشهر، عقب تنحية بوتفليقة عن الحكم، وإلغاء الانتخابات . كانت الاحتجاجات الإسبوعية الرافضة لعقد الانتخابات قبل التخلص من كافة رموز النظام السابق وإطلاق سراح سجناء الرأي، وإجراء التعديلات الدستورية والقانونية، وخاصة القانون الانتخابي، السمة الرئيسية التي غلفت الفترة المنصرمة. غير أن رئيس أركان الجيش الجزائري ” أحمد قايد صالح”  أصرّعلى ضرورة اتباع المسار الدستوري للخروج بالبلاد من الأزمة، وذلك بعقد الانتخابات في موعدها وتجنيب البلاد خطر الانزلاق إلى الفوضى.

وبالفعل أجريت الانتخابات في موعدها رغم استمرار الاحتجاجات الرافضة لها، كأحد إجراءات نقل السلطة، وفقًا لمخرجات الحوار الوطني، الذي كان مرفوضًا من قبل البعض هو الآخر.  وتنافس في تلك الانتخابات خمسة مرشحون، من بينهم عبد المجيد تبون، المرشح المستقل، والذي فاز بأغلبية مطلقة، وصلت إلى 58.13%، بـإجمالي 4 ملايين و45 ألفا و116 صوتا. فيما وصلت نسبة المشاركة الإجمالية في هذه الانتخابات 39.83%، شارك فيها 9 ملايين و774 ألفاً و804 ناخبين من أصل 24 مليوناً و741 ألفاً و161 ناخباً، فيما ألغي مليون و243 صوتاً.

عهد جديد

 دخلت الجزائر عهدًا جديدًا، بانتخاب أول رئيس يلي حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي دام نحو عقدين من الزمان، إذ أسفرت انتخابات الرئاسة المنعقدة عن صعود عبد المجيد تبون المستقل، رئيسًا للجزائر، بعد خلافًا على خلافة بوتفليقة دام نحو العام أو أكثر.

وجاء تعيين رئيس وزراء حكومة تصريف أعمال، أول خطوة اتخذها الرئيس بعد أدائه اليمين الدستوري، وذلك وفقًا للمادة 91 من الدستور، القاضية بتعيين رئيس الجمهورية لرئيس الوزراء بعد استشارة الأغلبية البرلمانية. وتفاديًا للأغلبية البرلمانية المتمثلة في حزبي جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، حزبي الموالاة سابقًا، اللذين دعما عز الدين مهيوبي في الانتخابات السابقة، فضلًا عن الأحزاب المرفوضة من الشارع منذ بداية الحراك، تم اختيار شخصية مستقلة لرئاسة حكومة تصريف الأعمال، صبري بوقادوم. وجاء هذا الإجراء على خلفية استقالة رئيس الوزراء نور الدين بدوي، الذي كان من بين من طالبت الاحتجاجات كثيرًا برحيلهم، وربما تعد ذلك خطوة إيجابية أولى على طريق تهدئة غضب الجماهير. إذ أن الحراك الشعبي يعد أول تحدي يواجه الرئيس الجديد، خاصة وأن الكثير كان رافضًا لاجراء الانتخابات الرئاسية ومخرجاتها قبل رحيل كافة رموز السابق، باعتبار أن القائمين على إجراء العملية الانتخابية أنفسهم كانوا محل اتهام بتزوير انتخابات سابقة في عهد بوتفليقة،  فكان بدوي من الوجوه المرفوضة، على سبيل المثال، إذارتبط اسمه سابقًا بتزوير الانتخابات حينما كان وزيرًا للداخلية.

ومع ذلك تبقى الاحتجاجات مصدر لإثارة القلاقل، وإن تراجعت حدتها وأعداد المشاركين فيها، إلا أنها لا تزال أحد المحددات الحاكمة للمشهد العام، إذ لا تزال المسيرات الاحتجاجية مستمرة؛ فخرج يوم الجمعة الماضية بضعة آلاف من الجزائريين يحملون نفس المطالب السابقة، من بينها إطلاق سراح سجناء الرأي، معتبرين أن كثيرًا من مطالبهم تحققت، ويأتي في مقدمتها رحيل الكثير من نظام السابق، بداية من استقالة رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، مرورًا باستقالة رئيس الوزراء ” نور الدين بدوي”، وتكليف رئيس حكومة تصريف أعمال جديد، وهي الخطوة الجديدة في وجود الرئيس الحالي التي من شأنها تهدئة غضب المحتجين، الذين كانوا رافضين للمسار الدستوري. وتعد دعوة الرئيس إلى حوارًا وطنيًا، النافذة التي من خلالها يمكن تحقيق توافق وطني والوصول إلى صيغ توافقية حول إدارة المرحلة المقبلة. وبدورها، عبّرت الاحتجاجات الأخيرة عن قبولها إياه، لكنه مشروطًا بتحقيق بعض الوعود والضمانات.

ملفات عالقة

اعتمد الرئيس استراتيجية جديدة عمادها ” الحوار والتشاور” وفق ما أعلنه، كان تعديل الدستور الجزائري أول الوعود التي دعا إليها الرئيس ” تبون”، ضمن خطته في المرحلة الأولى من رئاسته، إذ حوّل برنامجه الانتخابي إلى برنامج دولة، وصفه البعض بأنه ” برنامج أزمة”، استند في جوهره على حل ومعالجة الأزمات التي تشهدها البلاد، خاصة وأنه أتى يحمل إرثًا ثقيلًا من الحقبة البوتفليقية، يظل أثرها ممتدًا حتى وقتنا الراهن. ويتقدم الاحتجاج الشعبي أحد هذه التحديات، التي يعد الدعوة إلى الحوار، والشروع في إجراء العديد من الاصلاحات، وفي مقدمتها الاصلاحات الدستورية والقانونية، أحد سبل تهدئته.

ففي خطابه الأول، أشار تبون إلى أن التعديل الجذري للدستور يجب أن تكون أولى خطوات الإصلاح، مشيرًا إلى عِظم المهمة التي يتولاها، وتقع استعادة المشروعية الدستورية والشرعية الشعبية في مقدمتها. وتعهد بالفعل بإجراء التعديلات الدستورية في الشهور الأولى من حكمه، ويعد تقليص صلاحيات الرئيس وتقييدها بمدتين فقط أولى المستهدفات المرجوة من هذا التعديل، فضلًا عن تعديل قانوني الأحزاب والانتخابات الذي أثار الكثير من الجدل والشكوك في الفترة الماضية.

كما أكد على ضرورة ترتيب الأولويات في الفترة القادمة،  وإعادة إحياء التنمية الاقتصادية وتشجيع الاستثمار وتنويع المجالات الصناعية والاقتصادية، وتشجيع المنتج الجزائري والبحث عن أسواق خارجية جديدة. بجانب الوضع الاقتصادي، تأتي جهود مكافحة الإرهاب في مقدمة أولويات الرئيس الجزائري، وخاصة الأوضاع في كل من ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء. 

علاوة على ماسبق أولى الرئيس الجزائري أهمية لقضايا الشباب باعتبار الجزائر مجتمع شاب يمثل الشباب فيه النسبة الأكبر، وأنهم الفئة التي كانت نواة الاحتجاجات في الفترة الماضية، فأعلن تبون عن إنشاء ” بنك خاص بالشباب”،  وتعهد ليس فقط بدعمهم وإنما بتجسيد برامجهم، معتبرًا أن مشاكلهم هي مشاكل المجتمع برمته.

والجدير بالذكر أن الحوار الوطني يقع على رأس هذه الملفات؛ إذ أنه ربما يكون الآلية التي من خلالها يتم التوافق على كيفية حسم هذه الملفات والمضي قدمًا في سبيل انجاحها، بما يمكن اعتباره أحد آليات ” لم شمل الجزائريين”، بحسب ما أكد عليه الرئيس في خطابه الأول. ولدى الجزائريين تجربة حديثة العهد بالحوار، على الرغم من أنها لم تحظى باجماع الغالبة على منطق عقدها بالأساس، إلا أن ذلك لا ينفي أهمية النظر الموضوعي لكافة جوانب الحوار للوقوف على جوانب القوة وأوجه القصور، من حيث الجوانب الموضوعية والأبعاد التنظيمية، باعتبارها آلية يمكن من خلالها تحقيق التوافق وإتاحة مساحة للتواصل من أجل حسم الكثير من القضايا العالقة والحاسمة، ويقع تعديل الدستور والقانون في مقدمتها، فضلًا عن كيفية تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والتوافق المجتمعي، في ظل ضعف المشاركة في منطقة بجاية وزو، التي يقطنها الأمازيغ، إذ وصلت نسبة المشاركة فيها نحو 1 % فقط من إجمالي الناخبين، فضلًا عن المحاولات برفع العلم الأمازيغي وتم وأدها أثناء الاحتجاجات، ما يجعل ضرورة إيلاء هذه المنطقة والأمازيغ أولولية، والعمل على حل قضاياهم وإعطائهم حقوقهم في التنمية ورسم سياسات اقتصادية واجتماعية تعزز شعورهم بالدمج والمساواة، علاوة على كيفية التعامل مع رموز النظام السابق، والذين بدأت المحاكمة معهم بالفعل، منذ أن تم القبض على الكثير منهم مع بداية الاحتجاج كأحد خطوات تهدئة المحتجين، فأصدر القضاء الإسبوع الماضي أحكامًا نهائية بحق 17 شخصية من رموز نظام الرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة تراوحت بين 3 سنوات إلى 15 سنة سجناً نافذاً، كان أبرزهم رئيسا الوزراء السابقان أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال. 

رحيل قايد صالح

أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية صباح يوم الاتنين، الثالث والعشرون من ديسمبر، وفاة رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح جراء أزمة قلبية، وهو ما تبعه مباشرة تكليف من الرئيس الجزائري الجديد تكليف اللواء سعيد شنقريحة قائد القوات البرية بقيادة أركان الجيش.

وبرحيل صالح تُثار التساؤلات حول تداعيات ما يسببه من فراغ، وذلك باعتباره الرجل الأقوى لقيادة المرحلة، ومهندس عملية الانتقال السلمي للسلطة، والضامن لاستقرار البلاد، في ظل استمرار التحديات الداخلية وما يشهده الرئيس الجديد من تحدي تثبيت أركان حكمه، فضلًا عن التحديات الخارجية التي تحيط بالجزائر، وتقع الأوضاع الليبية في مقدمتها، فضلًا عن الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء.

بجانب ما سبق، تشير تقاليد السياسة في الجزائر أن الجيش دائمًا من يقود ويحرك المشهد السياسي من الخلف، وأنه لا بد من توافقات بين أجنحة النظام الجزائري، واتضح ذلك في دور أحمد قايد صالح الفترة الماضية، بداية من تنحية بوتفليقة، وتعقب ومحاكمة رموز النظام السابق، وصولًا إلى عقد انتخابات الرئاسة وتجنب حالة الشغور التي ظلت بها البلاد نحو ثمانية أشهر.

 وبينما كان انتخاب رئيسًا جديدًا للبلاد إيذانًا بنهاية أزمة وبدء أخرى. كان تفكيك الدولة العميقة وأجنحة النظام السابق أعقد وأصعب الأزمات والمهام التي تنتظر الرئيس الجديد، فضلًا عن القوانين والسياسات، التي أسَّست لاستئثار أقلية على حساب الأغلبية بمقدرات البلاد. وكان لوجود قايد صالح دورًا محوريًا في هذا الصدد، إذ أنه عقب تولي تبون، وجه رسائل قوية لمن يعتبرهم أعداء البلاد، وذلك بالتأكيد على دعمه للرئيس عبد المجيد تبون، فإن رحيله حتمًا سيلقي بصداه على السير قدمًا في ملف مواجهة “العصابة” بحسب تعبيره.

ومن جانبه، دعا صالح، المواطنين الجزائريين للالتفاف حول الرئيس المنتخب ودعم مسعاه وأهدافه التي نادى بها في حملته الانتخابية، مؤكدًا أن التطلعات التي نادت بها الجماهير السلمية ستجد العناية المطلوبة من الرئيس المنتخب، وذلك في خطابه بعد نتائج انتخابات الرئاسة، الذي هنأ فيه “تبون” بفوزه.

وبالتالي تتقاطع وفاة صالح مع ملف محاربة الفساد ورموز النظام السابق، باعتبار أنه الرجل الأقوى لاقتلاع جذور الفساد وتثبيت أركان الحكم، وتجلى ذلك منذ بداية الأزمة، بسجن كل من شقيق الرئيس بوتفليقة ورئيس وزرائه والكثير من الوزراء المتورطين في تهم فساد.

ومع ذلك، ومع عظم المهمة الواقعة على الرئيس في مواجهة الفساد، إلا أنه يمكن تفادي غياب صالح، بتحقيق التوافق الوطني حول المرحلة القادمة، وتحييد الخلافات من خلال حوار شامل مع الطبقة السياسية والحراك الشعبي “دون إقصاء أو انتقام” كما أكد تبون.

كما أنه جدد تعهده بمحاربة الفساد و“متابعة العصابة أينما كانت”، وفق تعبيره، وعدم منحها أي عفو رئاسي، واستعادة الأموال المنهوبة في الداخل والخارج وفصل المال عن السياسة، ويبقى المضي قدمًا في هذا الملف، فضلًا عن ملفات التنمية الاقتصادية والعدالية الاجتماعية، بتوافق وإرادة وطنية، يمكن لآلية الحوار تحقيقها، الملاذ الذي يمكن من خلالها تجنب أية تدعيات أو أحداث من شأنها عرقلة المرحلة المقبلة، الأولوية الأهم عن الانشغال بمحاكمة وتعقب النظام السابق، وضرورة الموازنة بين الالتفات إلى الوراء والانطلاق قدمًا لإصلاح ما مضى، خاصة وأن للجزائر تجربة مع المصالحة والوئام الوطني، التي في أحيانًا كثيرة تجنب الدول الوقوع في فخ الانتقام واستمرار مسلسل الانتقام، اللاهي عن تحقيق أي إنجاز فيما هو قادم.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى