
ما هي دلالات التدابير الأولية لمحكمة العدل ضد إسرائيل؟
بعد عقد جلستين في 11 و12 يناير الجاري بخصوص الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بشأن “عمليات الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة”، أصدرت محكمة العدل الدولية يوم 26 يناير 2024 قرارها بشأن التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وهي الإجراءات المؤقتة التي لم تتطرق لمسألة وقف إطلاق النار بشكل مباشر ولكنها أقرته ضمنيًا، بالإضافة إلى إقرار جملة من التدابير الأخرى التي تُعد انتصارًا نسبيًا أوليًا في إطار المساعي الدولية لمحاكمة إسرائيل على جرائمها تجاه الشعب الفلسطيني، خصوصًا وأن المحكمة سوف تستمر في التحقيق في القضية حتى إصدار الحكم النهائي.
أولًا- إجراءات أولية ضد إسرائيل
كانت جنوب أفريقيا قد تقدمت بطلب في 29 ديسمبر 2023 لمحكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بسبب الجرائم التي ترتكبها في قطاع غزة، وأشار الطلب إلى أن أعمال إسرائيل تنافي ما جاء في اتفاقية الإبادة الجماعية، وطلبت جنوب أفريقيا إصدار تدابير مؤقتة ضد إسرائيل وفقًا للمواد 41 – 73 – 74 – 75. وبموافقة وتأييد 15 صوتًا في مقابل صوتين معارضين، أقرت المحكمة عددًا من التدابير الأولية، على النحو التالي:
1- على إسرائيل وفقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية التي وقعت عليها أن تنفذ كافة التدابير المنصوص عليها في المادة 2، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيدًا مقابل صوتين معارضين.
2- يجب أن تضمن إسرائيل بشكل عاجل أن جيشها لا يرتكب أي أعمال إبادة مذكورة في الاتفاقية، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيدًا في مقابل صوتين معارضين.
3- إلزام إسرائيل باتخاذ كافة الإجراءات التي في سلطاتها لمنع وعقاب أي تحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتصل بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد حصل هذا القرار على 16 صوتًا مؤيدًا مقابل صوت واحد معارض.
4- إلزام إسرائيل باتخاذ تدابير عاجلة وفورية لإيصال الخدمات والمساعدات الإنسانية من أجل التقليل من الظروف غير المحتملة التي يواجها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بتأييد 16 صوتًا مقابل صوت واحد معارض.
5- على إسرائيل أن تتخذ كافة التدابير لمنع الدمار والحفاظ على أي أدلة متعلقة بالمادة 2 و3 باتفاقية منع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيدًا مقابل صوتين معارضين.
6- يجب على إسرائيل تقديم تقرير للمحكمة بكل التدابير المتخذة في خلال شهر من جلسة المحكمة، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيدًا مقابل صوتين معارضين.
ثانيًا- دلالات مهمة
يمكن القول إن جلسة محكمة العدل الدولية يوم 26 يناير 2024 وما اشتملت عليه من جملة من الإجراءات والمخرجات الأولية في إطار محاكمة إسرائيل، حملت العديد من الدلالات المهمة، والتي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- القرارات الأولية الصادرة من محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل تحمل دلالات رمزية مهمة، بعيدًا عن مدى إلزاميتها أو تداعياتها الفعلية، فهذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها عن المحكمة التي تعد أعلى سلطة قضائية للأمم المتحدة، قرارات ضد الاحتلال الإسرائيلي. كذلك فإن تصريحات الرئيس الجنوب أفريقي بعد الجلسة والتي قال فيها إن “إسرائيل تقف اليوم أمام المجتمع الدولي وجرائمها ضد الفلسطينيين واضحة للعيان” تحمل دلالات ورسائل مهمة مرتبطة بوصم إسرائيل بالتمييز العنصري والإجرام أمام المجتمع الدولي وبداية إسقاط الحصانة عنها.
وكذلك فإن أهمية الدعوى إجمالًا ارتبطت بطبيعة الدولة التي تقدمت بها؛ فموقع جنوب أفريقيا كدولة غير منحازة، وكونها دولة مؤسسة في تجمع دول بريكس، فضلًا عن أنها تظل الرمز الأكبر لمواجهة التمييز العنصري في العصر الحديث، كلها اعتبارات أضفت المزيد من الأهمية الرمزية على هذه الدعوى.
2- على الرغم من عدم تطرق المخرجات الخاصة بجلسة المحكمة إلى مسألة وقف إطلاق النار في قطاع غزة فإن الإجراءات التي طالبت محكمة العدل الدولية إسرائيل بها تقتضي عمليًا وقف إطلاق النار لتنفيذها، سواءً ما يتعلق بضرورة حماية الفلسطينيين، ووقف عمليات القتل والتجويع، أو ما يتعلق بمسألة إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وتقديم تقرير للمحكمة بخصوص التقدم المُحرز في هذه الملفات.
3- أكدت المحكمة في ثنايا إصدار الإجراءات الأولية التي طالبت بها استمرارها في إجراءات البت الخاصة بهذه القضية، رافضةً بذلك المطالبات الإسرائيلية بإسقاط القضية المرفوعة بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تأسست بعد المحرقة (الهولوكوست). ويعني ذلك عمليًا احتمالية اتخاذ المزيد من الإجراءات ضد إسرائيل في الأشهر والسنوات المقبلة، وإمكانية فتح الباب أمام محاكمة الاحتلال وقادته ومسؤوليه وداعميه أمام المحاكم الأخرى، مثل المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية التي تنظر في الجرائم الدولية”.
4- عقب إصدار الإجراءات الأولية التي طالبت بها محكمة العدل الدولية، قام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بإحالة الإخطار بالتدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة إلى مجلس الأمن، وفي ذات السياق طالبت الجزائر بعقد جلسة خاصة بهذه التدابير لمجلس الأمن، وتم تحديد الأربعاء 31 يناير 2024 موعدًا لها؛ في مسعى يستهدف إعطاء قوة إلزامية لحكم محكمة العدل الدولية فيما يخص الإجراءات المؤقتة المفروضة على الاحتلال الإسرائيلي.
وحتى وإن لم يكن لهذه التحركات الأممية والدولية أي آليات تنفيذية واضحة، فإنها تسهم في ممارسة الضغوط على إسرائيل، وإعطاء غطاء قانوني شرعي دولي يُمهد لتبني العديد من الدول الغربية لتوجهات تدعم وقف إطلاق النار وتحقيق المطالب الإنسانية العادلة للشعب الفلسطيني.
5- تذهب بعض التقديرات القانونية إلى أنه حتى وإن كان البت في تهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني قد يحتاج إلى فترات طويلة قد تصل لسنوات، إلا أن تطبيق المحكمة اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها على الشعب الفلسطيني “تأكيد من أعلى هيئة قضائية دولية على شبهة ارتكاب الاحتلال لجريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، بدليل اتخاذ التدابير المؤقتة كاستنتاجات معقولة حسب تأويل المحكمة، الأمر الذي يضع الاحتلال في موضع الاتهام على جرائمه المرتكبة من خلال إصدار الأوامر المؤقتة ريثما يتم البت في الأسس الموضوعية للدعوى”.
وإجمالًا، يمكن القول إن الإجراءات العاجلة والأولية التي أقرتها محكمة العدل الدولية تأتي كاستجابة لكافة التدابير التي طالبت بها جنوب أفريقيا، باستثناء طلب وقف العملية العسكرية الإسرائيلية، لكن هذا المطلب أقرته المحكمة بصيغة وشكل ضمني، بموجب الإجراءات السابقة التي تستلزم وقف هذه العملية، إلا أن الاعتبار الأهم في هذا الصدد أن المحكمة قبلت اتهامات ضمنية قدمت من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية، وعلى المدى البعيد ومع استمرار بحث الأسس الموضوعية للدعوى ضد إسرائيل، سوف تسهم هذه الإجراءات في المزيد من العزلة الدولية لإسرائيل، ليس فقط على مستوى الدول الرافضة لإسرائيل، وإنما أيضًا بالنسبة للدول الحليفة لها نظرًا لإمكانية اتهامهم فيما بعد بتمويل نظام يقوم بالإبادة الجماعية.