أفريقيا

حراك مستمر: المساعي السياسية والدبلوماسية لاستعادة سلام السودان

في ضوء المساعي السياسية والدبلوماسية المستمرة التي تبذلها القوى السياسية وأطراف السلام، تشهد الأوضاع السودانية حالة من الحراك الرامي إلى إعادة تشكيل جبهة مدنية موحدة، لديها القدرة على فرض رؤيتها للسلام وهندسة سياسة ما بعد الصراع، علاوة على استمرار جهود وسطاء السلام لجمع الفرقاء مرة أخرى لطاولة الحوار، وهو ما تجلى في مساعٍ دول الجوار (القاهرة – جوبا – أديس أبابا)، وكذلك دعوات استئناف مباحثات جدة من جديد، التي انطلقت (الخميس 26 أكتوبر) بعد تعليقها لنحو ثلاثة أشهر. 

ويمكن تسليط الضوء على أبرز مستجدات الأوضاع السودانية على النحو التالي: 

تشكيل جبهة مدنية

بدأت مساعٍ تشكيل جبهة مدنية سودانية موحدة عقب اندلاع الصراع، واستشعار القوى المدنية مسؤوليتها تجاه ما يجرى في البلاد ورغبتها في استعادة دورها في العملية السياسية المستقبلية بالبلاد، بعد أن فرضت القوى العسكرية بأطيافها المختلفة نفسها على المعادلة وفق معادلات وأوزان القوة. وبدأت هذه المساعي تحديدًا بعد أن تعالت الأصوات المنادية بضرورة إشراك القوى المدنية في مباحثات جدة وما يعقبها من أية جهود للسلام. 

اجتماعات أديس أبابا 

استضافت أديس أبابا في الثامن من أغسطس الماضي وفدًا للكتلة الديمقراطية، تلاه في الرابع عشر من ذات الشهر اجتماع لكل من الحرية والتغيير والجبهة الثورية بهدف توحيد صفّ القوى المدنية. وجاءت هذه الاجتماعات بعد أقل من شهر على استضافة إثيوبيا لاجتماعات منظمة الإيجاد (10 يوليو 2023)، والتي رفضت الحكومة السودانية مخرجات بيان اللجنة الرباعية المتمثل في مطالبة إثيوبيا بفرض حظر جوي ونزع المدفعية الثقيلة ورئاسة كينيا للاجتماعات بدلًا من جنوب السودان، والدعوة لعقد اجتماع قمة لدول شرق أفريقيا للطوارئ للنظر في إمكانية نشر قوات لحماية المدنيين.

وقد سبقت تلك الجولة زيارة لوفد الحرية والتغيير في مطلع يوليو الماضي، إذ توجهت إلى أوغندا (3 يوليو)، مرورًا بإثيوبيا في (8 يوليو)، بالتزامن مع إعلان الإيجاد عن ترتيب لقاء مباشر بين كلٍ من “البرهان” و “حميدتي”، تلاه زيارة إلى كينيا (15 يوليو)، وعد خلالها الرئيس الكيني وليام روتو باستمرار جهود بلاده في دعم السلام. 

وعُقدت اجتماعات في أديس أبابا يومي 17 و18 سبتمبر الماضي، لمناقشة قضايا توحيد صوت القوى السياسية والمدنية من بينها لجان مقاومة لإنهاء الحرب وتشكيل جبهة مدنية موحدة، ومحاولة توحيد منابر السلام ومناقشة القضايا الإنسانية، بالتزامن مع اجتماع الكتلة الديمقراطية في إريتريا، والخروج بإعلان أسمرا الذي دعا لفترة انتقالية مدتها عامين، في إطار جولة إقليمية للكتلة الديمقراطية شملت جنوب السودان.  

وعادت القوى المدنية للاجتماع مرة أخرى في أديس أبابا في اجتماعات عقدت خلال الفترة من 21 – 24 أكتوبر الجاري تحت شعار “وحدة القوى الديمقراطية المدنية من أجل وقف الحرب واستعادة الديمقراطية”، للتحضير للمؤتمر العام للجبهة المدنية لوقف الحرب، إذ شارك حوالي 60 ممثلًا للقوى المدنية المختلفة بحضور رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، والحديث عن محاولات ضم حركة تحرير السودان “عبد الواحد نور” والحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال “عبد العزيز الحلو”. 

وشارك عدد من لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية برئاسة الهادي إدريس وحركة العدل والمساواة برئاسة سليمان صندل والحزب الجمهوري وتحالف القوى السياسية والمدنية في شرق السودان. وتزامنت تلك الاجتماعات مع توجيه جنوب السودان دعوة إلى أطراف السلام لعقد اجتماعات بجوبا لمناقشة سبل إنهاء الحرب.

اجتماعات القاهرة

استكملت القوى المدنية جولتها الإقليمية التي بدأت من أوغندا مرورًا بإثيوبيا وكينيا والسعودية وتشاد لتصل إلى المحطة الأخيرة في مصر، التي استضافت وفدي الحرية والتغيير المركزي والكتلة الديمقراطية في يومي 24 و25 يوليو الماضي. وقد خرجت اجتماعات الحرية والتغيير بالقاهرة بتوصيات منها توحيد جهود القوى المدنية والانفتاح على كافة القوى المدنية. وأعقب تلك الجولة توجه وفد الحرية والتغيير إلى العاصمة البلجيكية بروكسل في السابع والعشرين من يوليو بدعوة من مفوضية الاتحاد الأوروبي، لمناقشة سبل إنهاء الحرب.

وجاءت تلك الاجتماعات مكملة لاستضافة مصر “قمة دول الجوار السوداني” في 13 يوليو المنصرم، كمسعى لحشد رؤى دول الجوار باعتبارها أكثر الدول انخراطًا في الأزمة. وأعقب تلك القمة الاجتماع الأول لوزراء خارجية دول الجوار في تشاد في 7 أغسطس لمتابعة مخرجات القمة، وتجددت الاجتماعات مرة أخرى على هامش لقاءات الجمعية العامة للأمم المتحدة، تمهيدًا لعقد قمة ثانية. 

وهناك لقاءات استضافتها القاهرة تزامنًا مع لقاءات القوى المدنية في أديس أبابا وقبيل استئناف مباحثات جدة، شملت وفودًا ممثلة للاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيجاد وقوى مدنية سودانية، تداولت بعدها أنباء عن رفض القوى المدنية لمقترحات صادرة عن الاتحاد الأفريقي بضم ممثلين عن حزب المؤتمر الوطني المحلول. 

وانضم للحوار وفد من الاتحاد الأوروبي يوم الخميس 19 أكتوبر2023، حيث التقى بوفد للكتلة الديمقراطية وتجمع قوى تحرير السودان وعدد من زعماء العشائر ورجال الدين والطرق الصوفية، فضلًا عن عدد من الأحزاب السياسية منها حزب الأمة مبارك الفاضل وحزب الأمة الصادق المهدي وحزب التحرير والعدالة بقيادة التجاني السيسي، وذلك في إطار المساعي الإقليمية لوضع حدّ للحرب الدائرة في البلاد وجمع كافة القوى للحوار. 

وخرجت اجتماعات القاهرة الأخيرة بدعوة أطرافها إلى وقف إطلاق النار، وضرورة توحيد المنابر المختلفة، وتكوين آلية جديدة تضم (الاتحاد الأفريقي– الإيجاد- جامعة الدول العربية- الأمم المتحدة)، وضرورة توحيد جهود القوى المدنية وإطلاق حوار سوداني سوداني دون إقصاء. ومن القاهرة اتجه الوفد (من رئيس حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي الهادي إدريس ورئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي بجانب رئيس الحركة الشعبية – الجبهة الثورية مالك عقار وزعيم حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم) إلى جنوب السودان لعقد مباحثات حول السلام، تزامنًا مع تواجد وفد القوى المدنية بأديس أبابا. 

وفد الجيش الى جدة يكشف تفاصيل دقيقة عن أهم بنود التفاوض - اخبار السودان

استئناف مباحثات جدة

منذ انسحاب وفد القوات المسلحة السودانية من جدة في 27 يوليو، رفضًا لعدم التزام قوات الدعم السريع بالبنود المتفق عليها في منبر جدة، وخاصة الانسحاب من منازل المواطنين والأحياء السكنية والأحياء المدنية ومؤسسات الدولة، علاوة على إخفاق كافة الهدن التي تمت الدعوة إليها، وعدم تيسر وصول المساعدات الإنسانية.

وقد توصل الطرفان لإعلان مبادئ تضمن حماية المدنيين والابتعاد عن المنشآت الخدمية وتيسير وصول المساعدات (11 مايو 2023)، بعد أن بدأت السعودية والولايات المتحدة محادثات بين الجيش والدعم السريع، لكنها انتهت بتعليق المفاوضات بعد انتهاك متكرر من جانب الطرفين.

وخلال أعمال الدورة 78 للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، أكدّ وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان حرص بلاده على استئناف المفاوضات، في الوقت الذي تحرص فيه القوى المدنية على إعادة إحياء منبر جدة. وكانت هناك مساع أمريكية لإشراك القوى المدنية السودانية في الحوار ضمن عملية سياسية أوسع لا تقتصر على توازنات المعادلة الصراعية، مما فتح الباب أمام قوى الحرية والتغيير لاستئناف مساعيها للانخراط في المشهد وتوحيد الصف حتى يتسنى إعلاء صوت مدني موحد قادر على طرح خيارات السلام، وفتح الباب كذلك لإعادة طرح الاتفاق الإطاري كمرجعية تفاوضية يمكن الانطلاق منها مع ضم القوى السياسية التي تمّ تهميشها في السابق. 

وقد أعلن نائب قائد الجيش السوداني “شمس الدين كباشي” يوم الأحد 22 أكتوبر، عن تلقي السودان دعوة لاستئناف التفاوض يوم الخميس (26 أكتوبر)، بما يتسق مع إبداء البرهان على هامش لقاءاته خلال حضور اجتماعات الأمم المتحدة الاستعداد للانفتاح على أية مبادرات للوساطة. وكشفت عدة تقارير عن لقاء جمع بين مدير المخابرات العامة السوداني، الفريق أحمد إبراهيم مفضل، والمستشار القانوني لقوات الدعم السريع، محمد المختار بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا مطلع الشهر الحالي. وكشفت تلك التقارير عن الرغبة في فتح قنوات اتصال بين الجيش والدعم السريع، في الوقت الذي تطفوا فيه الخلافات على السطح. 

ومع إخفاق محادثات جدة ومواصلة الصراع اتجهت الولايات المتحدة لآلية العقوبات من خلال فرض عقوبات مطلع يونيو الماضي على أربع شركات وهي: “الجنيد للأنشطة المتعددة” و”تراديف للتجارة العامة” المرتبطتين بقوات الدعم السريع، وشركتي “منظومة الصناعة الدفاعية” و”سودان ماستر تكنولوجي” المرتبطتين بالجيش.

وفي سبتمبر الماضي أعلنت ليندا توماس غرينفيلد، المبعوثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، يوم الأربعاء الماضي، أن بلادها قررت فرض عقوبات على عبد الرحيم دقلو، نائب قائد قوات الدعم السريع؛ وصرّح السفير الأمريكي في الخرطوم، جون غودفري، أن المتحاربين في السودان «أثبتوا عدم أهليتهم للحكم» وأن عليهم إنهاء الصراع و«نقل السلطة» للمدنيين. وتتسق تلك التوجهات الأمريكية مع رغبتها في إشراك المدنيين في المشاورات، وتعكس في الوقت ذاته المدى المتوقع تحققه من اختراقات في الحوار عقب استئناف مباحثات جدة. 

وبعد محاولات وسطاء الحوار لاستئناف المباحثات، انطلقت جولة جديدة من مباحثات جدة (الخميس 26 أكتوبر 2023)، والتي من المفترض أن تبني على ما توصلت إليه مسبقًا من إعلان مبادئ (11 مايو 2023)، كانت أهم بنوده إخلاء الدعم السريع المباني والمستشفيات وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وتلاه التوصل إلى إعلان جدة (20 مايو 2023) الذي نص على وقف إطلاق النار، وحددت الأفعال المحظورة التي تم انتهاكها مع تدمير البنية التحتية واتخاذ المدنيين دروعًا بشرية. وربما تكون تلك البنود والالتزامات هي محور النقاشات المستأنفة لحمل الطرفين على الالتزام بها. 

ومن المفترض أن ينضم الاتحاد الإفريقي والإيجاد لاحقًا للمباحثات، للبناء على التفاهمات التي تضمن وقف إطلاق النار وتيسير المساعدات الإنسانية، ومن ثم الانطلاق نحو عملية سياسية، إذ حددت الوساطة فصل القضايا الإنسانية عن العسكرية والسياسية. لكن لا تزال الآمال محدودة حول إمكانية تحقيق اختراق نظرًا للضغوط الإقليمية التي فرضت على الطرفين العودة للتفاوض بدافع الضغط لا عن قناعة، رغم ضعف آمال الحسم العسكري. 

استمرار تناقض المواقف

ولا يزال الطرفان على النقيض وهناك غياب لأرضية مشتركة يمكن من خلالها انطلاق المباحثات الدبلوماسية، وقد تجلت تلك التناقضات في تصريحات متواصلة ورفض متبادل للحوار، بداية من رفض وفود الطرفين الالتقاء ببعضهما البعض خلال مباحثات جدة وصولًا إلى تعليق المباحثات، وكذلك رفض الطرفين خروج مبادرة الإيجاد بالدعوة لتمهيد لقاء مباشر بين كلٍ من ” البرهان” وحميدتي”.

ويضاف إلى ذلك تناقض الخطابات والحجج المصاغة لكليهما في تبرير بدء الحرب والرغبة في مواصلتها حتى تحقيق الحسم العسكري، وقد تجلت بوضوح في تصريحات “البرهان” في المواقع الميدانية التي زارها عقب خروجه من مقر القيادة العامة في أغسطس الماضي، حيث أكد خلال تواجده بمدينتي عطبرة وبورتسودان على مواصلة القتال حتى الحسم، في الوقت الذي ظنّ فيه المراقبون أن تلك اللحظة تؤشر على بوادر لانفراجة دبلوماسية قد يكون جرى التمهيد لها. 

وتأكدت تباينات الموقف في المبادرات التي طرحها طرفا الصراع كمرجعية للتسوية، فمن جهة خرج نائب رئيس مجلس السيادة “مالك عقار” بمبادرة لرسم ملامح المشهد ما بعد الصراع (15 أغسطس)، ارتكزت أبرز النقاط الخلافية فيها على الموقف من خريطة وقف إطلاق النار، والموقف من الترتيبات الأمنية التي كانت المحفز للصراع، وذلك حينما أشار إلى التمهيد لتحديد مواقع تجميع قوات الدعم السريع تمهيدًا لنزع السلاح وإنفاذ الترتيبات الأمنية، إذ تم تحديد شرط تجميع الدعم السريع على بعد 50 كم من العاصمة، وهي المسألة التي أدت إلى إفشال مباحثات جدة وتعليقها، حينما رفضت الدعم السريع التسليم بتلك التسوية.

في المقابل، خرج “حميدتي” بمبادرة مناظرة (27 أغسطس) حدد خلالها قضايا المستقبل والتي تتمثل في بناء جيش مهني قومي موحد وتحقيق العدالة الانتقالية، وإشراك القوى المدنية بكافة أطيافها في صياغة المستقبل، رافعًا لواء الدفاع عن الديمقراطية كمبرر للمواجهة المسلحة، وكذريعة لاستمرارها بما يضمن فرض شروطه للتسوية. 

ومؤخرًا أعلن الطرفان استعدادهما لاستئناف الحوار؛ فعلى هامش حضوره اجتماعات الأمم المتحدة، أبدى “البرهان” في لقاء له مع قناة “البي بي سي” استعدادًا مشروطًا للجلوس مع حميدتي، طالما التزم بحماية المدنيين. وأعقبه خطاب لحميدتي أبدى فيه هو الآخر استعداده لبدء محادثات سياسية والتوصل لسلام. وفي آخر تصريحات لنائب رئيس المجلس السيادي “مالك عقار”، انحاز لخيار الحوار والسلام على حساب خيار الحسم العسكري الذي سيطول أمده ويكلف البلاد ويلات الحرب. 

على الجانب الآخر من كافة الجهود الدبلوماسية وتزامنًا مع استئناف مباحثات جدة، لا تزال المواجهات الميدانية مستمرة على كافة ساحات القتال، فشهدت العاصمة الخرطوم وأم درمان ونيالا مواجهات صباح مباحثات جدة. ويتسق ذلك مع موقف القوات المسلحة التي عبرت عن موقفها من استئناف المفاوضات بدافع تسهيل المساعدات الإنسانية، لكن الانخراط في المباحثات لا يتنافى مع أهداف الحسم العسكري. وقد حدد “عقار” خلال كلمته أمام مؤتمر تقييم اتفاق جوبا للسلام، أربعة مراحل كخارطة طريق وهي: الفصل بين القوات، القضايا الإنسانية، دمج الدعم السريع، الانطلاق للقضايا السياسية.

في النهاية تتجه كافة التحركات نحو إعادة هندسة المشهد السوداني من خلال الدفع بتعزيز الحوار “العسكري – العسكري” بين الجيش والدعم السريع ومن ثم الحركات المسلحة، تمهيدًا للخروج برؤية توافقية حول ملفات الترتيبات الأمنية، وكذلك الحوار “المدني – المدني” تمهيدًا لتوحيد الجبهة المدنية، وأخيرًا الحوار “العسكري – المدني” لإعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية وإعادة رسم ملامح وشكل نظام الحكم من جديد. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى