
يفرض الواقع السياسي والاجتماعي الحالي في إسرائيل جراء أزمة التعديلات القضائية التي يسعى الائتلاف الحاكم إلى تمريرها بما ينتقص من سلطات وصلاحيات المحكمة العليا؛ تداعيات وتأثيرات واسعة النطاق على تل أبيب سواء على صعيد التماسك المجتمعي أو المشهد السياسي الداخلي أو تماسك قواتها المسلحة، وصولًا إلى تداعيات كبيرة على علاقات إسرائيل بمحيطها الخارجي، والتأثير على صورتها العامة أمام خصومها في المنطقة، وتوازن الردع الذي أرسته معهم خلال السنوات الماضية، وتحديدًا إيران وحزب الله اللبناني اللذين يراقبان عن كثب مختلف هذه التطورات.
مرحلة حرجة
وصلت إسرائيل حسب الأعديد من التقديرات والتحذيرات الصادرة عن شخصيات وأجهزة ومؤسسات أمنية وسياسية إلى مرحلة حرجة بفعل الأزمة الناجمة عن خطة الإصلاح القضائي التي طرحتها حكومة بنياميون نتنياهو؛ إذ تواجه إسرائيل في اللحظة الراهنة بيئة شديدة الاضطراب والارتباك على العديد من المستويات، وذلك على النحو التالي:
1 – انقسام حاد: أظهرت خطة التعديلات القضائية التي طرحتها حكومة نتنياهو الانقسام الحاد داخل المجتمع الإسرائيلي على مختلف المستويات؛ فعلى المستوى السياسي، تعد هذه الحكومة هي الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخ إسرائيل، وهي تكونت من ائتلاف هش بين ستة أحزاب لم تجمع بينها أهداف استراتيجية وإنما مصالح لكل طرف من أطرافها، وهي أحزاب لم تحصل إلا على أقل من 50% من أصوات الناخبين في الانتخابات الأخيرة، ولذلك يحرص كل طرف من الأطراف المكونة للائتلاف على تحقيق أقصى قدر ممكن من المصالح الانتخابية.
وتصبغ القرارات الصادرة عن الحكومة بصبغة يمينية تعكس بشكل واضح المعيار الأساسي الذي اجتمع على أساسه الائتلاف الحكومي الحالي وهو التوجه اليميني الاكثر تطرفا بالمقاييس الاسرائيلية ذاتها، والذي جعل الأحزاب الراديكالية المتطرفة مثل حزب القوة اليهودية الذي يترأسه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وحزب الصهيونية الدينية الذي يترأسه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش توافق على الانضمام إلى نتنياهو لتشكيل الحكومة الجديدة. وفي المقابل، يمنحها نتنياهو المزيد من مساحات الحركة لتثبيت توجهاتها بالشكل الذي يضمن استمرارها في الحكومة. وبناء على هذا الانقسام وعدم التمثيل الشعبي، يخرج الآلاف من المتظاهرين رفضًا لخطة الإصلاح القضائي التي قدمتها الحكومة، ووصفت المعارضة الأمر بأنه تهديد حقيقي لوجود الدولة العبرية التي تواجه تصدعًا دينيًا وهوياتيًا عميقًا وبدأت مظاهر العسكرة في أن تصبح سمة أساسية لمجتمعها.
2 – تراجع الجاهزية القتالية: وصلت حالة الانقسام الحاد داخل إسرائيل إلى صفوف قواتها المسلحة التي أصبح ضباط وجنود الاحتياط بها طرفًا أصيلًا من أطراف هذه الأزمة؛ بعد أن هددوا بعدم الاستجابة لأية دعوة للتطوع أو التوقف عن أداء مهامهم في حالة ما إذا تم إقرار التعديلات القضائية. ما يعني أن الجاهزية القتالية للجيش الإسرائيلي بشكل عام -وسلاح الجو بشكل خاص- سوف تتأثر من حالة التمرد الناجمة عن التعديلات القضائية. وبينما يؤكد الجيش الإسرائيلي أنه لا يزال جاهزًا لأي سيناريو محتمل وأن عدد جنود الاحتياط الذين قرروا إنهاء خدمتهم التطوعية لا يزال على ما يبدو ليس في “الكتلة الحرجة” ، فإن هذا الوضع يهز الصورة العامة للجيش واستعداده القتالي، خاصة وأن جنود أو ضباط الاحتياط الذين أعلنوا التمرد وإن كان عددهم قليلًا ومن المرجح عودتهم إلى صفوف الجيش إذا واجهت إسرائيل تحديًا حقيقيًا؛ فإن فترة التمرد تؤثر على تدريبهم واستعدادهم القتالي. وهي الحالة التي أدت إلى تحذير اللواء أهارون هاليفا مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية قبيل جلسة التصويت من أنه بالمضي قدمًا في خطة الإصلاح القضائي سيُترك الباب مفتوحًا لخطر أمني واضح وفوري وملموس. إلا أن هذه التحذيرات لم تؤثر على قرار الكنيست في النهاية بالموافقة على الجزء الأول من التعديلات التي تتعلق ببند “المعقولية” في 21 يوليو الماضي الذي وصفه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بأنه “أسوأ يوم في تاريخ الكيان الصهيوني”.
وعلاوة على الجاهزية القتالية على المستوى البشري، فإن الجيش الإسرائيلي يواجه تحديًا آخر يتعلق بالأسلحة والذخائر؛ فبالنظر إلى الاحتياج الإسرائيلي المتنامي للذخائر دقيقة التوجيه في إطار معاركها مع الفصائل الفلسطينية أو حزب الله وغيرها، طلبت إسرائيل زيادة المخزون الأمريكي من هذه الذخائر في مخزون احتياطي الحرب، وهو ما لم تجرِ تلبيته. وأشارت مصادر أمريكية إلى أن إسرائيل قد أعدت قائمة سرية في يناير 2022 بأنظمة الأسلحة التي تطلب من الولايات المتحدة إضافتها إلى مخزون احتياطي الحرب لديها كإجراء وقائي للصراعات المستقبلية. وأن هذه القائمة تتضمن ذخائر جوية تتوقع إسرائيل أنها ستكون ضرورية إذا اتخذ الجيش إجراءات ضد المنشآت النووية الإيرانية أو في صد الصواريخ التي يطلقها حزب الله. خاصة وأن مسؤولين إسرائيليين قالوا إن المخزون الحالي أصبح متقادمًا ولم يُحدّث منذ ما قبل إدارة أوباما ولم يعد يحتوي إلا على قذائف وذخائر غير موجهة. وهي ذات قيمة محدودة لاحتياجات الدفاع عن النفس لإسرائيل في وقت الحرب.
3 – توتر العلاقات الخارجية: تعد الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي الأهم لإسرائيل على المستوى الدولي، إلا أن ممارسات الحكومة اليمينية الإسرائيلية منذ توليها والمتعلقة بتوسيع الاستيطان أو زيادة التوترات في الضفة الغربية وصولًا إلى التعديلات القضائية قد أضرت نوعًا ما بهذا التحالف القائم بين واشنطن وتل أبيب، لا سيّما مع إصرار الحكومة على مخالفة تعهداتها التي التزمت بها بحضور واشنطن بشأن خفض التصعيد في الضفة الغربية، بجانب رؤية واشنطن أن التعديلات القضائية تقوض قيم الديمقراطية في إسرائيل والتي تعد أساسًا للشراكة بين البلدين. ولذلك لم يزر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واشنطن حتى الآن رغم مرور أكثر من تسعة أشهر على تشكيله الحكومة، في المقابل دعا البيت الأبيض الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج إلى زيارة واشنطن في شهر يوليو الماضي. يضاف إلى ذلك توتر علاقات إسرائيل مع الدول العربية التي وقعت معها اتفاقات إبراهيم لتطبيع العلاقات، على وقع سياسات حكومة نتنياهو تجاه القضية الفلسطينية وخاصة التوسع الاستيطاني. مما أسفر عن وأد طموح إسرائيل بتأسيس نظام دفاع مشترك ضد إيران يضم هذه الدول العربية التي لجأت في المقابل إلى تحسين علاقاتها مع إيران.
4 – تصاعد المخاطر: بناء على ممارسات الحكومة الإسرائيلية، تسارعت وتيرة العنف في الضفة الغربية، مع إقدام المستوطنين -بتشجيع من الوزراء الأكثر تطرفًا في الحكومة- على القيام بأعمال شغب ضد الفلسطينيين، واقتحام المسجد الأقصى، وغير ذلك من الممارسات الاستفزازية. وفي المقابل، كان هناك تزايد مطرد في العمليات التي ينفذها فلسطينيون داخل إسرائيل وخاصة في القدس، وخاصة بعد عملية القدس التي نفذها الشاب خيري علقم في 27 يناير 2023 والتي وُصفت بأنها عملية ملهمة شجعت الكثير من الشباب الفلسطينيين على تنفيذ عمليات على غرارها سواء عمليات طعن أو دهس أو إطلاق نار، خاصة وأن العوامل والمسببات التي دفعت خيري علقم إلى تنفيذ هذه العملية هي ذاتها التي يعاني منها آلاف الفلسطينيين.
ويتضح من الارتباط السببي بين العمليات الأمنية التي تنفذها القوات الإسرائيلية في الأحياء الفلسطينية وخاصة جنين ونابلس والعمليات التي ينفذها مستوطنون من جانب وهذه العمليات التي ينفذها الفلسطينيون من جانب آخر، أنه كلما زادت هذه العمليات الإسرائيلية زادت العمليات الفردية الفلسطينية للرد عليها بما يستدعي ردًا إسرائيليًا مقابلًا سواء بعمليات عسكرية أو بتوسيع المستوطنات أو بإجراءات عقابية ضد الفلسطينيين تحفزه مطالب الوزراء اليمينيين داخل الحكومة، وهو ما يعني الدوران في دائرة مفرغة من التصعيد المتبادل، التي لا تؤدي إلا إلى تصاعد المخاطر على الإسرائيليين، خاصة وأن هذه المخاطر لم تعد مقصورة على جهود فردية، وإنما باتت تحركها مجموعات ناظمة استطاعت أن توحد شبابًا فلسطينيين ينتمون إلى فصائل مختلفة تحت راية واحدة في المواجهة مع إسرائيل بعيدًا عن التقسيمات التقليدية للفصائل. ولم تعد هذه المخاطر على إسرائيل قاصرة على الضفة الغربية، بل امتدت لتشمل الحدود الإسرائيلية مع كل من سوريا ولبنان، وتضمنت تنسيقًا عملياتيًا كبيرًا بين الفصائل في كل من فلسطين وسوريا ولبنان.
ثقة متنامية
في المقابل من ذلك، كثفت إيران ووكلاؤها التحركات لاستغلال هذا الوضع في الداخل الإسرائيلي، بوصفه فرصة سانحة أمامهم لتغيير معادلة الردع القائمة أو إحكام الطوق على تل أبيب والإسهام في زيادة الأزمات التي تواجهها، لا سيّما أن الردع الإسرائيلي الذي تحدث عنه تقييم المؤسسات الأمنية الإسرائيلية في بداية 2023 وكان من شأنه أن يؤدي إلى سلوك حكيم وحذر من جانب حزب الله لتجنب استفزاز إسرائيل؛ قد اهتز بصورة غير مسبوقة إثر التطورات الداخلية. وتظهر هذه التحركات فيما يلي:
1 – التنسيق الشامل: في مقابل حالة التصدع الداخلي في إسرائيل، عملت إيران على تعزيز حالة التنسيق بينها وبين كافة وكلائها والفصائل المدعومة منها. ويظهر هذا التنسيق من خلال مجموعة واسعة من المظاهر، منها مبدأ وحدة الساحات في مواجهة إسرائيل الذي جرى التلويح به وتأكيده؛ لزيادة كُلفة أي تصعيد عسكري من جانب إسرائيل تجاه إيران أو أحد وكلائها، بالشكل الذي ظهر في استغلال الأراضي اللبنانية كمنطلق لضربات استهدفت إسرائيل في أبريل الماضي (رغم أن هذا المبدأ لم يتم العمل به في التصعيد الإسرائيل تجاه حركة الجهاد في مايو 2023). ومن هنا لا يمكن فصل مشاهد التصعيد المتوالي في الضفة الغربية ضد المستوطنين والقوات الإسرائيلية والتصعيد على الحدود الإسرائيلية السورية والإسرائيلية اللبنانية عن بعضهم البعض.
ويضاف إلى ذلك الاجتماعات المتواصلة بين المسؤولين الإيرانيين الدبلوماسيين والعسكريين مع قادة هذه الفصائل. ويمكن التركيز هنا على حزب الله في لبنان بوصفه ركيزة محور المقاومة الذي تتزعمه إيران، والوكيل الأهم والأقوى ضمن مجموعة الفصائل والجماعات التابعة لها أو المدعومة منها على الإطلاق؛ إذ كانت الضاحية الجنوبية لبيروت محلًا لاجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في 6 أبريل، وكذلك اجتماع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 9 أبريل.
ولم تتوقف التحركات الإيرانية المباشرة وغير المباشرة المتصلة بالساحة اللبنانية وحزب الله عند هذا الحد؛ إذ أجرى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان زيارة إلى بيروت في 26 أبريل 2023، ناقش خلالها مع “نصر الله” تفاصيل الاتفاق بين السعودية وإيران وانعكاسه على دول الإقليم، وتضمنت زيارة إلى نقطة التماس الحدودية بين لبنان وإسرائيل. ثم أجرى “عبد اللهيان” زيارة أخرى إلى بيروت في 1 سبتمبر 2023 ناقش فيها مع “نصر الله” المستجدات في لبنان والمنطقة. بما يمثل تأكيدًا على حضور لبنان القوي في معادلة المواجهة مع إسرائيل، وبرهنة على الرصيد الاستراتيجي لحزب الله وأدواره التي تعدت كونه وكيلًا لإيران داخل لبنان فقط لتصبح هذه الأدوار على اتساع منطقة الشرق الأوسط وتشمل أدوار التحكم والسيطرة والتوجيه والتدريب لبقية وكلاء إيران والجماعات المدعومة منها في المنطقة.
2 – الاستعراض العسكري: بدا خلال الفترة الأخيرة توجه لدى حزب الله لاستعراض القوة العسكرية بشكل ملحوظ ومتكرر يبدو لافتًا من حيث التواتر والتزامن مع التطورات في الداخل الإسرائيلي؛ إذ أجرى الحزب استعراضًا عسكريًا وصف بالأضخم على الإطلاق في تاريخه يوم 21 مايو 2023 قبيل الذكرى الثالثة والعشرين لعيد المقاومة والتحرير أظهر فيه قدراته التسليحية فضلًا عن محاكاة على اقتحام الشريط الحدودي مع إسرائيل وتنفيذ هجمات بالداخل. ونشر الإعلام الحربي التابع للحزب في 12 أغسطس مشاهد لمنظومة “ثار الله” للصواريخ الموجهة لأول مرة، وذلك ضمن تدريبات عناصر الحزب على السلاح المضاد للدروع. وكذا استعرض حزب الله مجموعة من الصواريخ والمدرعات والدبابات والطائرات المسيرة خلال “معرض بعلبك الجهادي” في 28 أغسطس، بمناسبة الذكرى السادسة “لتحرير الجرود الشرقية”.
ذلك علاوة على نشر مجموعات من عناصر حزب الله على طول السياج الحدودي وإثارتهم توترات هناك، بالإضافة إلى نشر بعض عناصر وحدة الرضوان التي تضم قوات النخبة بالحزب. وينطوي هذا الاستعراض العسكري متعدد المظاهر على مجموعة من الرسائل الاستراتيجية لإسرائيل، أهمها تأكيد قوة حزب الله على المستوى العسكري وجاهزيته القتالية لأي طارئ، وإظهار مدى التطور التسليحي الذي وصل إليه ببصمة إيرانية واضحة، والرد على تعزيز إسرائيل مناوراتها العسكرية المنفردة أو بالتعاون مع الولايات المتحدة.
3 – ممارسة الضغط: انعكست الثقة الكبيرة التي اكتسبها حزب الله وإيران جراء التصدع الداخلي في إسرائيل على سعي الحزب إلى ممارسة ضغوط على إسرائيل سواء لتعزيز الارتباك الداخلي أو لدفعها نحو تصعيد غير محسوب، وذلك من خلال مجموعة من التحركات على الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل، أهمها قيام عناصر تابعة للحزب في أبريل الماضي (كُشف الأمر في 21 يونيو) بتثبيت خيمتين في بلدة الغجر بمزارع شبعا قالت إسرائيل إنهما داخل الحدود الإسرائيلية، فيما أصر حزب الله الذي أزال إحداهما وأبقى الأخرى على أنهما في الجزء اللبناني من البلدة. وحذر “نصر الله” من مغبة أي محاولة إسرائيلية لنقل الخيمة، فيما وصف وزير الدفاع الإسرائيلي خلال اجتماع أمني لمناقشة ملف الخيمة بأنه “حدث صغير وغير استراتيجي”.
ويمكن قراءة تحركات حزب الله على هذا النحو بوصفها محاولة لممارسة الضغوط على إسرائيل وتعزيز انقساماتها، لاتخاذ خطوة تصعيد غير محسوب قد تفتح من خلاله إيران حربًا متعددة الجبهات على إسرائيل لاستثمار تراجع كفاءتها القتالية، خاصة مع عدم إقدامها على الرد على تحركات حزب الله وواقعة الخيمة على سبيل المثال، لتجنب تصعيد يصفه المسؤولون الأمنيون في إسرائيل بأنه سيناريو “خطير-معقول”. إلا أن ذلك يظل مستبعدًا حتى الآن بالنظر إلى أن كلا الطرفين ليس على استعداد لتحمل تبعات وتكلفة حرب أو تصعيد على هذا المستوى. فضلًا عن أن الانقسام الإسرائيلي يظل محكومًا بعوامل داخلية، وتثبت التجارب السابقة أنه يجري تجاوز هذه الانقسامات إذا ما تعرضت تل أبيب لأي مهدد خارجي.
4 – استغلال الفرصة: يطرح الواقع الإسرائيلي فرصة سانحة أمام حزب الله يعمل على استثمارها من خلال هذه التحركات العسكرية، وهي الضغط من أجل ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإٍسرائيل. وتشبه هذه التحركات إلى حد كبير تلك الضغوط التي مارسها الحزب خلال مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بوساطة أمريكية؛ إذ كانت التحركات العسكرية للحزب وخاصة بتسيير طائرات بدون طيار عند حقل كاريش والتهديدات باستهدافه حال أقدمت إسرائيل على التنقيب فيه، وهي التحركات التي كانت متناغمة تمامًا مع تحركات وتصريحات الحكومة اللبنانية وفريق التفاوض اللبناني؛ ذات أثر بالغ في التوصل إلى الاتفاق في النهاية. ويتضح من تصريحات الحكومة اللبنانية بشأن بلدة الغجر وإرسالها بيانًا إلى مجلس الأمن في 11 يوليو يتضمن شكوى من التحركات الإسرائيلية لتكريس احتلالها للجزء اللبناني من البلدة وتزامنها مع تحركات حزب الله وتهديداته، أن مسارًا متناغمًا قد صيغ بين الجانبين، للضغط من أجل ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل. تستفيد فيه الحكومة اللبنانية من تحركات حزب الله، وفي نفس الوقت يثبت حزب الله للداخل اللبناني أهمية موقعه وسلاحه للحفاظ على مقدرات الدولة وحدودها وسلامتها.
ويمكن القول إن هذه الضغوط قد بدأت تؤتي ثمارها مع تنشيط التحركات الأمريكية في هذا الملف من خلال مبعوث الرئيس الأمريكي عاموس هوكشتاين الذي أجرى زيارة إلى تل أبيب في يوليو الماضي قيل إنها ناقشت هذا الملف ضمن جملة ملفات أخرى، ثم زار “هوكشتاين” بيروت في 30 أغسطس “لمواكبة بدء أعمال التنقيب في البلوك 9، والعمل على تثبيت النقاط العالقة في الحدود البرية” حسبما صرح نائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب. فيما أكد “هوكشتاين” في ختام زيارته إن واشنطن تستكشف إمكانية حل النزاع الحدودي وأن رحلته جاءت “لفهم ومعرفة المزيد عما هو مطلوب كي يتسنى تحقيق نتيجة محتملة”.
ذلك توازيًا مع موافقة مجلس الأمن على قرار تمديد مهمة قوات حفظ السلام “يونيفيل” عامًا آخر والذي شدد على ضرورة أن تنسق “يونيفيل” في ممارسة نشاطها مع الحكومة اللبنانية، ما عُد تداركًا نسبيًا لقرار العام الماضي الذي أعطى لها حرية مطلقة في التنقل وممارسة نشاطاتها. وعلى الرغم من صعوبة تحقيق اختراق في هذا الملف في الوقت الراهن بالنظر إلى السياق الداخلي في كل من إسرائيل ولبنان، فإن وضعه على أجندة البلدين بوساطة أمريكية قد يؤذن بإمكانية تحقيق اختراق فيه مستقبلًا على غرار ملف ترسيم الحدود البحرية، وتلعب فيه تحركات وتهديدات حزب الله دورًا محوريًا.
إجمالًا، يمكن القول إن إيران لا تزال تستثمر التصدع الداخلي في إسرائيل بسبل شتى، وتعمل من خلاله على تشكيل مشهد جديد ضمن الإطار العام للصراع بينهما، يتجلى في نطاق المثلث الحدودي بين إسرائيل ولبنان وسوريا بتشكيل جبهة موحدة تمارس الضغط الميداني والعملياتي عليها ردًا على ضرباتها الجوية في سوريا. ذلك جنبًا إلى جنب مع مشهد يزداد عمقًا في الضفة الغربية -لا يستبعد كونه مدعومًا من إيران- مع توالي العمليات الفلسطينية ضد المستوطنين والجنود الإسرائيليين، سواء كانت عمليات فردية أو من خلال مجموعات تابعة لفصائل. وقد نجح حزب الله في استثمار هذا التصدع في إحداث تغيير تدريجي في معادلة الردع والانتشار التي أرساها مع إسرائيل منذ حرب 2006؛ فأسهمت تحركاته في تثبيت انتشار علني للحزب في مناطق مزارع شبعا وكفر شوبا وعلى طول الخط الحدودي، وجعلها مناطق عمليات بين الجانبين، بالعودة إلى ما قبل 2006، ليؤسس للمشهد التالي سواء كان مشهدًا تصعيديًا تندلع شرارته من أي من الطرفين، أو مشهدًا تفاوضيًا لترسيم الحدود.
باحث أول بالمرصد المصري