هل تذيب الزيارات المتوالية الخلافات بين الصين والولايات المتحدة؟
وصلت وزيرة التجارة الأمريكية جينا رايموندو إلى الصين يوم 27 أغسطس 2023 في زيارة استمرت أربعة أيام؛ لبحث سبل تعزيز التبادل التجاري بين البلدين. وتعد هذه الزيارة هي الزيارة الرابعة لمسؤول أمريكي إلى الصين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، فما هي المساعي الأمريكية من تلك الزيارة، وهل يمكن للولايات المتحدة الأمريكية التجارة مع الصين “بعدالة” وفقًا لوصفها؟
تنافس استراتيجي
شهدت العلاقات الأمريكية الصينية عقدين من التنافس الاستراتيجي على كل المستويات الاقتصادية والسياسية، للدرجة التي هدد فيها ذلك الصراع النمو الاقتصادي العالمي. ذلك التنافس الذي تحول لدرجة الصراع ليس بجديد؛ إذ بدأ ذلك الصراع مع ظهور الصين كقوة اقتصادية تحقق نموًا متسارعًا بفعل مواردها البشرية والطبيعية الهائلة، والتي كانت سببًا في التحول التدريجي للنظام العالمي من عالم القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب.
كان لظهور تلك القوة الاقتصادية الصينية أثر كبير على الاقتصاد العالمي وخاصة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حددت الولايات المتحدة الصين كمنافس استراتيجي رئيس أول، وتنظر الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها تهديدًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. ومع ذلك، تخشى الدولتان -التي يمثل اقتصاداهما مجتمعين حوالي 40% من الاقتصاد العالمي- من الانزلاق نحو انفصال كامل بينهما؛ لتجنب العواقب التي ستكون كارثية على العالم.
وعليه، فقد تجاوب حجم التجارة بين البلدين مع مساعي الحفاظ على الاقتصاد العالمي، وانعكس ذلك على مستوى التجارة بين البلدين الذي وصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق بـ690 مليار دولار (573 مليار دولار صادرات صينية للولايات المتحدة الأمريكية، مقابل واردات صينية بمبلغ 154 مليار دولار). لكن حركة الاستثمار الأجنبي المباشر بين البلدين تأثرت بشكل كبير؛ إذ ظهر عزوف المستثمرين بكلا الدولتين عن الاستثمار ببعضهما البعض.
قضايا خلافية
مع تدهور العلاقات بين البلدين، تعددت زيارات المسؤولين الأمريكيين للصين، بداية من وزيرة الخزانة جانيت يلين في 6 يوليو 2023، ومن قبلها وزير الخارجية أنتوني بلينكن في 17 يونيو 2023؛ في خطوات تستهدف وقف تدهور العلاقات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية. وقد سبق أن أعلنت “يلين” أن زيارتها نجحت في وضع أساس عملي لتناول القضايا الخلافية بين الدولتين. لكن ما هي القضايا الخلافية بين البلدين؟
1 – يمثل التضييق الصيني على عمل الشركات الأجنبية من خلال القانون الصادر مؤخرًا بغرض مكافحة التجسس والذي يوسع التعامل مع أبحاث الشركات الروتينية التي تتم بالأسواق على أنها أعمال تجسس، فضلًا عن قيود الصين على صادرات المعادن مثل الغاليوم والجرمانيوم والتي تعد من المعادن الرئيسة لإنتاج أشباه الموصلات، وهي كلها ملفات تمثل شوكة في حلق إدارة “بايدن” التي رأتها تصعيدًا من بكين ضد واشنطن.
2- من الجانب الأمريكي، فإن اقتراب إدارة “بايدن” من وضع لوائح من شأنها إضافة حظر لاستثمارات الولايات المتحدة الأمريكية بالصين خاصة في قطاعات التكنولوجيا الصينية ذات التطبيقات في الاستخدامات العسكرية أحد الملفات الحيوية للصين. وقد سبق وأن حظر الرئيس الأمريكي في أكتوبر 2022 تصدير رقائق الحواسب الأكثر تقدمًا إلى الصين فيما يعرف بقانون “CHIPS and Science” وقانون خفض التضخم، حيث تقدم الحكومة الأمريكية إعانات مربحة للشركات التي تُنشأ في الولايات المتحدة، والتي تحتوي على أحكام لحرمان الشركات الصينية من تلك المزايا ومنع الشركات الأمريكية التي تحصل على إعانات من الاستثمار بالصين.
وبالطبع كانت “هواوي” واحدة من إحدى جولات الصراع بين البلدين؛ إذ لم يتردد “بايدن” في فرض قيود على شركة التكنولوجيا الصينية لاستبعادها من السوق الأمريكية والضغط على حلفاء الولايات المتحدة لتبني الموقف الأمريكي تجاه الصين. هذا علاوة على شركات أخرى مثل تطبيقات التواصل الاجتماعي وأشهرها على الإطلاق “تيك توك”، وتطبيق التسوق “تيمو”، ومتاجر الملابس بالتجزئة “شين”، وهي كلها تواجه المزيد من التدقيق بشأن ممارستها العمالية واستخدامها لبيانات العملاء الأمريكيين والطرق التي تورد بها المنتجات إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
3 – تمتد المواجهات الاقتصادية بين البلدين لتطال العملات المحلية؛ إذ تتهم الولايات المتحدة الصين بممارسات اقتصادية تستهدف إضعاف عملتها بشكل غير صحيح لجعل المنتجات الصينية أرخص عند بيعها بالخارج، فقد انخفضت العملة الصينية بأكثر من 7% مقابل الدولار الأمريكي في العام الماضي، وبالطبع يتبع انخفاض عملة اليوان أمام الدولار انخفاض أمام باقي العملات في العالم والتي تستخدم عملة الدولار لتسعير عملتها أمام اليوان الصيني.
تلك السياسات تجعل صادرات الصين أكثر قدرة على المنافسة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، على الرغم من أنه سبق للصين أن تعهدت منذ ثلاث سنوات للولايات المتحدة بعدم خفض عملتها بشكل مصطنع بغرض الحصول على ميزة في التجارة مع الأطراف الخارجية. ومن زاوية أخرى، يدافع الصينيون عن تلك السياسات ويفسرون ذلك الانخفاض في العملة الصينية بالممارسات الأمريكية التي رفعت أسعار الفائدة بشكل كبير ضمن محاولات الفيدرالي الأمريكي لاحتواء التضخم.
حدود الصراع
ترى الصين في تلك الممارسات الأمريكية عدوانية واستمرارًا لنفس نهج الرئيس السابق دونالد ترامب في تعامله مع الجانب الصيني، والذي وضع العديد من التعريفات الجمركية على الصادرات الصينية ولا تزال سارية إلى الآن. يمكن النظر لسياسات “بايدن” على أنها مزيد من التوسع في التضييق على الصين بحرمانها من الوصول إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات، مع وضع قيود أكبر على الاستثمارات الأجنبية بالصين. وقد كان لهذه السياسات آثار سلبية كبيرة على تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالصين بالإضافة إلى أنواع أخرى من الحوسبة المتقدمة التي يمكن أن تكون أداة لتعزيز اقتصاد كل بلد وزيادة قوة جيشه في المستقبل. لكن هل يمكن للاقتصادين الانفصال عن بعضهما البعض؟
على الرغم مما سبق الإشارة إليه ومن القلق الذي تعانيه الشركات الأمريكية العاملة بالصين والتي كان آخرها شركة “ميكرون تكنولوجي” (الشركة الأمريكية لصناعه الرقائق الالكترونية والتي فشلت في مراجعة أمنية صينية في مايو الماضي، وهو ما يمنعها من البيع للشركات الصينية)؛ فلا يمكن لأكبر اقتصادين في العالم الانفصال عن بعضهما البعض؛ إذ أن ذلك الانفصال يعد بمثابة انتحار اقتصادي لكلا الطرفين، وهو ما أكده المسؤولون الأمريكيون خلال زياراتهم المتتالية إلى الصين؛ إذ برروا الممارسات الأمريكية بأنها مساعٍ لتنويع الاقتصاد الأمريكي وليس الانفصال، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في ترسيخ لقواعد تجارة عادلة مع الصين.
لكن الصين من جانب آخر ترى أن تلك الممارسات الأمريكية المناهضة لبكين والتي تتبناها إدارة “بايدن” والكونجرس هي ممارسات عدائية، وهي إحدى القضايا النادرة التي اتفق عليها الحزبان الديمقراطي والجمهوري. لكن على الرغم من ذلك ففي أحسن الأحوال سيبقى الصراع على الهيمنة قائمًا بين الولايات المتحدة والصين، وقد ينجرف الأمر إلى حرب في منطقة تايوان في حال أن استنفد الطرفان محاولات التوافق، لكن الذكاء الدبلوماسي لكلا الدولتين قد يمنع ذلك الانجراف.