
الخيل المصري.. أصالة يحفظها التطوير
ارتبط تطور ونمو الدولة المصرية لزمن طويل بعملية تربية واستخدام الخيل؛ فمنذ عهد الدولة الوسطى بمصر القديمة وحتى مطلع القرن العشرين، حملت الخيول على ظهورها قادة مصر وفرسانها سواء كانوا فاتحين أو مدافعين. وكانت الخيول ركيزة للنهضة الاقتصادية في عصور مختلفة، حيث أسهمت إلى جوار بقية الدواب المستخدمة في أعمال الزراعة والنقل من الجمال والحمير والثيران، في تسهيل مهمة الفلاح أثناء حراثة ودراسة أرضه، بالإضافة إلى نقل الغلال لمناطق التشوين وإلى الأسواق، وحتى الموانئ سواء النهرية أو البحرية.
وتميزت مصر عن باقي دول المنطقة بمحاولاتها التاريخية والمستمرة لحفظ أفضل أنواع الخيول، وهو ما أدى إلى امتلاك الدولة المصرية لأنقى وأجود سلالات الخيل العربي التي تشتهر عالميًا باسم الخيل المصري، ليدفع ذلك بدوره كافة مربي الخيول حول العالم إلى طلب الخيول المصرية لاستخدامها في عملية تحسين نسل السلالات المحلية، حيث توصف الخيول المصرية بإمكاناتها الطبيعية المتعددة، من السرعة وخفة الحركة وقوة التحمل البدني العالية، وأيضًا سهولة التعلم والتكيف مع تعليمات مدربيها.
علاقة ممتدة
ظهرت الخيول في مصر مع غزو قبائل الهكسوس الآسيوية في منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد، وانتبه المصريون إلى أهمية ذلك الحيوان في عملية مقاومتهم لهذا الغزو، حيث استخدموه في جر العجلات الحربية- انظر الصورة التالية رقم 1-، ولذلك حرص المصريون في عهود لاحقة علي جلب قطعان الأحصنة من بلاد الشام والهلال الخصيب وتنمية أعدادها محليًا، ولقد حظي الحصان في مصر القديمة بمكانة كبيرة دونًا عن باقي الحيوانات، فدائمًا ما ظهر على جدران المقابر والمعابد القديمة وهو مزين بالريش والأغطية الملونة، وربما كان السبب في ذلك هو استئثار الملوك وكبار رجال الدولة باقتناء ورعاية هذا الحيوان.
صورة رقم 1: رسم منقوش على جدران معبد الرامسيوم للملك رمسيس الثاني يقود العجلة الحربية
المصدر: الموقع الإلكتروني The Egyptian Museum Mississauga
استمر الاهتمام بالخيول على حاله خلال العصرين اليوناني والروماني، وإن شاب تاريخهما بعض فترات الإهمال، لكن الاهتمام بالحصان عاد للازدهار بعد الفتح العربي لمصر، فالفاتحون الجدد كانوا من بدو الجزيرة العربية الذين ألفوا واعتادوا تربية وركوب الخيول، بالإضافة إلى توصية الدين الإسلامي بضرورة رعاية الحصان والاعتناء به، وكان في تاريخ مصر الإسلامي العديد من الصفحات المضيئة حول عمليات تنمية سلالات الخيول المصرية، ومنها على سبيل المثال عهد الناصر محمد ابن قلاوون تاسع سلاطين الدولة المملوكية البحرية، الذي سعى إلى جلب أفضل الفحول والأفراس من بوادي الشام والجزيرة، ليقوم بدمجها مع الخيل المحلية مما ساهم بدوره في تقوية الإنتاج المحلي.
وشهد العصر الحديث أكبر طفرة في مجال إنتاج الخيول المصرية، فمع بداية انطلاق مشروع محمد علي باشا التوسعي، ازدادت الحاجة إلى الأحصنة لجر المدافع وعربات المؤون وتوفير ركائب قوات الفرسان، لذلك نشطت أسواق الخيول في عموم البلاد وعلى رأسها سوق ميدان الرميلة – ميدان القلعة حاليًا-، كما اهتم الوالي وكبار رجال دولته بتشييد إسطبلات الخيول، ولقد سار عباس باشا الأول – انظر الصورة التالية رقم2- على خطى جده، حيث زاد في اهتمامه بالخيول العربية عن طريق جلب أفضلها من الجزيرة العربية، فضلًا عن تعيين عدد من الكتبة المتخصصين لتسجيل وتوثيق نسبها، وعمل أيضًا على إعادة إعمار مرابط الخيل التي شيدها جده الوالي محمد علي باشا.
صورة رقم 2: بورتريه زيتي لعباس باشا الأول وهو يمتطي إحدى الخيول العربية الأصيلة
المصدر: تصوير الباحث أثناء زيارة ميدانية لمتحف المركبات الملكية المصري
تبع عباس باشا في اهتمامه بالخيول الأصيلة عدد من رجال الأسرة العلوية وفي مقدمتهم علي باشا الشريف، الذي اشترى أغلب خيول عباس باشا بعد وفاته وأولاها رعايته الخاصة حتى تمكنت من إنتاج 400 حصان جديد، كذلك سار على نفس الخطى كل من الأمير محمد علي توفيق والأمير كمال الدين حسين، الذين نجحا في إنتاج المزيد من الخيول المصرية الأصيلة بالمجهود الذاتي، – انظر الصورة التالية رقم 3-، ودون الحاجة لاستيراد أية أمهات أو فحول من الخارج بهدف التزاوج.
صورة رقم 3: صورة لإحدى الخيول العربية الأصيلة من نوع كحيلان المولودة بإسطبلات الأمير محمد علي
المصدر: الموقع الالكتروني egarabianhorse.bibalex.org
وكان لإنشاء محطة الزهراء الحكومية للخيول الأصيلة في عام 1928، دور أساسي في حفظ أفضل سلالات الخيل المصري، والتي يعود نسب بعضها إلى اسطبلات الخديوي عباس حلمي الأول ذاته. وعلى مدار العقود الماضية تصاعدت عمليات إنتاج وتربية الخيول وظهر على الساحة المزيد من المُربين والمزارع المحلية وصل عددها في عام 2016 إلى حوالي 640 مزرعة تمتلك أكثر من عشرة ألاف حصان مصري أصيل.
لكن على الرغم من هذا التاريخ الطويل، وعلى الرغم من امتلاك مصر لأفضل أنواع الأحصنة العربية، إلا أنها لم تستطع تحقيق أكبر فائدة اقتصادية ممكنة من عمليات إنتاج وتجارة الخيول الأصيلة حتى الآن، حيث لا تصدر في العام الواحد سوى عشرات أو بضعة مئات من الأحصنة في أفضل الأحوال، ليؤدي ذلك بدوره إلى محدودية عائدات التصدير والتي لا يتجاوز متوسطها السنوي أكثر من 500 ألف دولار أمريكي.
تجارب عالمية
توجد في عالمنا اليوم العشرات من الدول التي تهتم بتربية وإكثار الخيول على اختلاف أنواعها، ويعتبر الحصان العربي ذو الشهرة الدولية الواسعة واحدًا من أهم الأنواع التي يتم إنتاجها وتطوير نسلها، وذلك لوجود طلب كبير عليها من قبل محبي اقتنائها وتربيتها، وهم في الغالب من ذوي الثروة الذين لديهم استعداد لدفع أموال طائلة في سبيل امتلاك أي حصان عربي أصيل.
وتعتبر بولندا واحدة من أنشط الدول في مجال إنتاج وتجارة الخيول العربية، حيث تمتلك الدولة البولندية ثماني محطات حكومية لإنتاج الخيول الأصيلة، فيما يمتلك القطاع الخاص عددًا آخر من المحطات والمزارع الإنتاجية، وتحرص جميعها على المشاركة بمختلف المزادات الدولية المختصة ببيع الأحصنة العربية، وفي طليعتها المزاد السنوي المعروف باسم فخر بولندا Pride of Polan، حيث تشارك المحطات الإنتاجية بأفضل ما لديها من خيول في هذا المزاد العالمي الشهير، والذي يحرص علي حضوره ومتابعة فاعلياته كل المهتمين باقتناء الأحصنة العربية الاصيلة، ويتضح لنا قوة هذا المزاد من خلال متابعة حجم مبيعاته السنوي على مدار السنوات الماضية وهو ما يتضح في الشكل التالي -رقم 3-.

المصدر: منصة Statista الإحصائية.
وتعتبر دولة الإمارات العربية كذلك من النماذج الدولية الناجحة في إطار الاستفادة الاقتصادية من الأحصنة العربية، فإلى جانب الاهتمام ببيع وشراء الأحصنة الأصيلة، تقوم الإمارات بعمل أنشطة ترفيهية ورياضية متعلقة بسباقات واستعراضات الخيول العربية، وهو ما يساهم في تعزيز العوائد الإجمالية للسياحة، والتي تُقدر سنويًا بأكثر من 180 مليار درهم إماراتي، لذلك حرصت أبو ظبي خلال العقود الماضية على ضخ استثمارات ضخمة بصناعة رياضات الخيول لتكوين مجتمع متكامل خادم لهذه الصناعة.
حيث وجهت جزءًا من تلك الاستثمارات إلى تشييد عدد من حلبات منافسات الخيول، فيما تم توجيه جزء آخر لتشييد قاعات استعراض جمال الخيول العربية سواء كانت مغلقة أو مفتوحة، بالإضافة إلى أندية ومعاهد تدريب على رياضة الفروسية، وكذلك دفعت الدولة الإماراتية المستثمرين المحليين والأجانب إلى توفير ميزانيات لتدريب الخيول الوطنية المشاركة في مختلف الأحداث الرياضية، خاصة السباقات سواء كانت على المستوى المحلي أو الدولي، وقدرت أحد التصريحات الرسمية تلك الميزانيات بحوالي 2.1 مليار درهم إماراتي.
خطى حثيثة
أعلنت الدولة المصرية في عام 2010 عن نيتها تشييد مركز دولي للخيول العربية بمدينة السادس من أكتوبر تحت اسم مرابط، ولقد كانت الفكرة المحورية لهذا المشروع هي أن يكون مركز حديث ومتقدم لتنمية صناعة إنتاج الخيول العربية عامة والمصرية خاصة، لكن المشروع لم يكتب له التنفيذ نظرًا لاندلاع حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي مع بداية عام 2011، لكن الدولة المصرية أعادت طرح الفكرة في 2020 عندما أعلنت عن نيتها تأسيس مشروع باسم مرابط مصر.
ولقد استهدفت الدولة أن يكون هذا المشروع متخصصًا في تربية وإنتاج الخيل العربي المصري الأصيل، كما خططت لأن يتضمن جميع الرياضات والأنشطة المتعلقة بالخيول، مثل الأماكن المخصصة للمسابقات والفروسية وتريض الخيول، والمنطقة الحجرية للخيول المعدة للتصدير. بالإضافة إلى مبنى خدمة بيطري وصيدليات عالية التقنية لتوفير علاج وأدوية الخيول، ومعمل دولي لتنسيب سلالات الخيول الأصيلة بهدف الحفاظ عليها، علاوة علي أكاديمية للتدريب على الفروسية وصناعة الخيول. وأخيرًا منتجعات سياحية فاخرة ومنشآت فندقية لخدمة الزوار طبقًا للمعايير الدولية.
لكن مشروع مرابط مصر ليس كل شيء، حيث ينتظر مختلف العاملين في صناعة إنتاج الخيول المصرية العربية الأصيلة، أن يتم النظر إلى تلك الصناعة بصورة أشمل من خلال تدشين برنامج أو آلية وطنية تجمع تحت لوائها مختلف الكيانات الإنتاجية من المرابط والمحطات ومزارع تربية الخيول من القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى أن يشمل هذا البرنامج كافة حلقات سلسلة الإنتاج الخادمة والداعمة لعملية إكثار وتربية الخيول الأصلية، بداية من مراكز الأبحاث والتطوير الأكاديمية، مرورًا بمصانع ومزارع إنتاج الأعلاف ومستلزمات خدمة الحيوانات، وصولًا إلى الجهات التشريعية والتنفيذية المنظمة للأنشطة الاستثمارية بتلك الصناعة، وكذلك الأنشطة العملياتية والفنية المتخصصة مثل الاستيلاد والتربية والتسجيل والتداول والتصدير للخيول المصرية الأصلية.
وفي الختام، يمكننا الإيجاز بأن الدولة المصرية انتبهت لكنز وطني آخر من كنوزها، والذي كان مهملًا من قبل وعلى مدار عقود بسبب ظروف متعددة، لكن الاستفادة الكبرى من هذا الكنز لا يمكن أن تكتمل دون إشراك أكبر قدر ممكن من أصحاب المصلحة، سواء كانوا من المربين أو مصنعي المنتجات والخدمات المكملة لتربية الخيول، بالإضافة لصناعي سياحة رياضات الفروسية، وصانعي الإعلام الرياضي، وشركات تسويق وتصدير الخيول إلى الخارج، لذلك لا بد لأجهزة الحكومة المصرية أن تنظر لهذا الملف بصورة أوسع وأشمل، لتحقق بذلك خطوة تاريخية أخرى على طريق المحافظة على إرث مصر العريق من الخيول المصرية الأصيلة.
باحث ببرنامج السياسات العامة