
اصطفاف اضطراري: هل تُجبر مبادرة “باتيلي” الأطراف الليبية على التوافق؟
دخلت الأزمة الليبية مرحلة جديدة من الجدل والتباين بين القوى الفاعلة في المشهد، وذلك على خلفية إعلان المبعوث الأممي “عبد الله باتيلي” خلال إحاطته أمام مجلس الأمن (27 فبراير) عن مبادرة تستهدف إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية نهاية العام الجاري، وعلى الرغم من المبدأ العام للمبادرة الرامي لإنهاء المرحلة الانتقالية، والمضي قدمًا تجاه الاستحقاق الانتخابي، يعتبر هدفًا رئيسًا لكافة التفاعلات والتحركات التي شهدتها ليبيا طيلة السنوات الماضية، إلا أن المبادرة فتحت النقاش أمام جملة من التعقيدات والتحديات المرتبطة بجدواها، وحدود التعاطي معها، وصولًا لمستقبل تلك المبادرة، وإمكانية صمودها.
مخرج أم أزمة!
تدور مبادرة “باتيلي” حول فكرة استحداث لجنة رفيعة المستوى للجمع بين الأطراف الليبية المعنية، وستعمل اللجنة على اعتماد إطار قانوني وجدول زمني لإجراء الانتخابات خلال العام الجاري، مشيرًا إلى أن هذه اللجنة ستصبح منصة للدفع نحو التوافق حول عدد من الأمور منها، تأمين الانتخابات، واعتماد ميثاق شرف للمرشحين. وفي هذا الإطار يمكن النظر لتلك المبادرة في ضوء عدد من الاعتبارات وذلك على النحو التالي:
أولًا) إشكالية صلاحيات واختصاصات البعثة: على الرغم من أن المبادرة تبحث عن خروج آمن للأزمة الليبية والعمل على إنهاء المرحلة الانتقالية، إلا أنها أثارت أزمة كبيرة ترتبط بطبيعة وحدود دور المبعوث الأممي واختصاصاته، حيث رأت عددًا من القوى الليبية أن المبادرة تُثير عددًا من الإشكاليات، لعل أبرزها أنها تنتزع ملكية إدارة أو رسم خارطة الطريق من الأجسام الليبية المنوط بها ذلك، وعلى الرغم من أن طرح المبادرة جاء في أعقاب انسداد الأفق السياسي وغياب التوافق بين تلك الأجسام، إلا أن ذلك لا يُعني استحداث المبعوث الأممي وظيفة أو دورًا لم يكن مخولًا له القيام به، إذ إن تفويض مجلس الأمن لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا يجعل دورها قاصرًا على تبني أدوار الوساطة والمساعي الحميدة في التوفيق بين الأطراف؛ بهدف الاستمرار في تنفيذ الاتفاق السياسي، وعليه فقد اصطدمت مبادرة “باتيلي” بتجاوز مهامها الرئيسة ودوره كميسر لعملية الانتقال السياسي، والتحول إلى دور المتحكم الأوحد في مسار ومجريات الأمور.
ثانيًا) إشكالية هندسة وإعداد المبادرة: بخلاف الإشكاليات المرتبطة بالصلاحية والدور، إلا أن المبادرة طرحت إشكالية قانونية وأخرى إجرائية، حيث استند طرح المبادرة والحكم على عدم مشروعيتها لمادة واحدة في الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات 2015، إذ اعتبر “باتيلي” أن طرحه يرتكز على المادة 64 من الاتفاق، في حين رأت الأطراف المعارضة للمبادرة أن ذات المادة لا تمنحه الحق في طرح تلك المبادرة، حيث تنص المادة على أن الحوار السياسي الليبي ينعقد استثناءً بناء على طلب من أي طرف من أطراف الاتفاق للنظر فيما يعتقد أنه خرق جسيم لأحد بنوده، وعليه فالمادة في مضمونها تدعو لانعقاد لجنة الحوار وليس لاستحداث لجنة جديدة، بالإضافة إلى أن ذلك يكون عبر طرفي الاتفاق وهما مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
من ناحية أخرى، طرحت المبادرة إشكالية ترتبط باللجنة المقترحة من قبل “باتيلي”، خاصة ما يتعلق بتكوينها، وعدد الأعضاء، وآلية الانعقاد، وطريقة الاختيار، وبفرض إيجاد إجابات على تلك التساؤلات، تظل هناك إشكالية كبرى مرتبطة بمخرجات اللجنة، وكيفية إلزام الرافضين لها بما قد تنتجه، علاوة على غياب الواقعية فيما يتعلق بالعامل الزمني، حيث يشير “باتيلي” خلال إحاطته في مجلس الأمن لإجراء الانتخابات خلال 2023، إذ إن الفترة المتبقية خلال العام في ظل الإشكاليات المرتبطة باللجنة، والمدة الزمنية اللازمة لإجراء الانتخابات سواء ما يتعلق بالقضايا الجوهرية أو اللوجيستية، قد تحول دون الالتزام بالمدة المحددة، وهو ما تؤكده الخبرة التاريخية في ليبيا، ولعل تولى “عبدالحميد الدبيبة” الحكومة في مارس 2021 والفشل في تأمين الوصول للانتخابات نهاية 2021، يشير إلى أن عامل الوقت دومًا ما يستنفد أمام التعقيدات المرتبطة بعملية الانتقال السياسي.
ثالثًا) إشكالية تمرير الخطة وغياب التوافقات الدولية: لاقت المبادرة دعمًا أمريكيا مباشرًا بدا من تصريحات مستشار وزارة الخارجية الأمريكية “ديريك شوليت”، عقب اجتماع عقد في واشنطن مع شركاء عالميين لتنسيق الجهود بشأن الأوضاع في ليبيا، والذي أكد خلاله على ضرورة الاصطفاف خلف “باتيلي” لتسهيل إجراء الانتخابات، علاوة على دعوة السفارة الأمريكية في طرابلس الليبيين للتعاطي بإيجابية مع المقترح الجديد. وكذلك تضاعف موقف بريطانيا من الدعم الغربي للمبادرة، حيث قالت السفارة البريطانية في طرابلس إن “المملكة المتحدة تدعم خطة باتيلي لدعوة الأطراف الليبية إلى الاتفاق على الخطوات التالية لإجراء الانتخابات”.
وعلى الرغم مما قد تمثله تلك المواقف من دعم لخطة “باتيلي”، إلا أن تمرير وإقرار الخطة في مجلس الأمن ودخولها حيز التنفيذ، يمكن أن يصطدم بموقف روسي رافض لتلك الترتيبات، خاصة وأن حسابات موسكو تختلف جذريًا عن حسابات واشنطن فيما يتعلق بإدارة المرحلة الانتقالية ومستقبل ليبيا بشكل عام، ولعل تحذير ممثل روسيا في مجلس الأمن من عدم التسرع في تنظيم الانتخابات، وإشارته إلى أن ” الصيغ الجديدة قد لا تكون ناجحة، بسبب عدم معالجة الأخطاء السابقة”، تشير إلى عدم قناعة أو توافق روسيا مع تلك المبادرة، وهو موقف كفيل بإجهاض مساعي تمريرها داخل مجلس الأمن، إذ إن إقرارها سيحتاج إلى تجاوز الفيتو والرفض الروسي.
اصطفاف اضطراري
تباينت مواقف الأطراف الداخلية بشأن طرح “باتيلي”، حيث جاء رفض مجلس النواب بشكل مباشر للمبادرة معتبرًا أن لمجلس النواب والدولة فقط الأحقية في دعوة لجنة الحوار للانعقاد، علاوة على الإشارة إلى أن إحاطة “باتيلي” جاء مليئة بالمغالطات، خاصة أن مجلس النواب قد قام بالتصويت على التعديل الدستوري الثالث عشر، قبل أن يتم نشره في الجريدة الرسمية. من ناحية أخرى، عبرت حكومة “فتحي باشاغا” عن رفضها للمبادرة من منطلق أن إحاطة “باتيلي” قد تجاهلت ذكر حكومة “فتحي باشاغا”.
وعلى خلاف المواقف الرافضة للمبادرة، أعلن تجمع الأحزاب الليبية (24 حزبًا سياسيًا) دعمه لخطة المبعوث الأممي، ومع ذلك يظل موقف الأحزاب السياسية في ليبيا غير مؤثر على مجمل التفاعلات القائمة في المشهد، رغم محاولات تلك الأحزاب إيجاد مجال للحركة، إلا أن التأثير والفعالية في المشهد لا تزال خاضعة لعوامل واعتبارات ترتبط في مجملها بالطبيعة الثقافية والانتماء القبلي وضعف النفوذ.
يأتي ذلك فيما التزمت حكومة الوحدة بقيادة “عبد الحميد الدبيبة” الصمت تجاه المبادرة، إلا أن تصريحات “الدبيبة” الأخيرة المرتبطة باستعداده للتخلي عن منصبة حال التصويت على القاعدة الدستورية، تشير إلى تمسكه بمنصبه ورفضه لأية مبادرات لمرحلة انتقالية لا يكون جزءً من تفاعلاتها، ما قد يعني ضمنيَا رفض المبادرة.
وقد جاء التطور الأبرز الذي صاحب إحاطة “باتيلي” فيما يمكن وصفه بالاصطفاف الاضطراري، وهو ما يتمثل بصورة مباشرة في موافقة المجلس الأعلى للدولة (2 مارس) خلال جلسة طارئة على التعديل الدستوري الثالث عشر الذي أقره البرلمان الليبي، وعلى الرغم مما أثير بشأن قانونية التصويت وعدم اكتمال النصاب القانوني، إلا أن البعض اعتبر أن تلك الخطوة تمثل مخرجًا لإنهاء حالة الشد والجذب بين المجلس التي استمرت طيلة الأشهر الماضية، وسط جهود دولية وإقليمية لخلق مساحة من التوافق فيما بينهما.
وفي هذا الإطار، يمكن فهم تحرك المجلس الأعلى للدولة في ضوء إدراكه أن استمرار التباعد مع مجلس النواب بشأن القاعدة الدستورية وعدم التوافق حولها، من شأنه أن ينتزع صلاحيات ودور المجلسين في المرحلة القادمة، ما قد حفزه لإبداء تلك المرونة على الأقل لضمان استمرار حيازته للعملية الانتقالية، كما أن هذا التحرك استهدف بشكل مباشر قطع الطريق أمام محاولات فرض خطة المبعوث الأممي وتحييد المجلسين من المشهد.
وعلى الرغم من أن موافقة المجلس الأعلى للدولة على التعديلات تعد ضمن الإنجازات أو التحولات المهمة فيما يتعلق بالموقف من القاعدة الدستورية، إلا أنها لا تضمن بشكل كبير المضي قدمًا في إنهاء المرحلة الانتقالية، وذلك في ضوء عدد من الاعتبارات لعل أبرزها، أن التعديل الدستوري الثالث عشر قد أحال المواد والبنود محل الخلاف بين المجلسين للقوانين المنظمة للعملية الانتخابية، ولم يتطرق إليها في تلك التعديلات، ما يعني أن هناك احتمالية للعودة لمربع الخلاف في مراحل قادمة.
وعلى أية حال ستحدد الخطوة التالية ما ستكون عليه التفاعلات في المشهد، فوفقًا للمادة 31 من التعديل الدستوري يفترض أن “يجري تشكيل لجنة من 12 عضوًا بواقع 6 أعضاء من مجلس النواب ومثلهم من مجلس الدولة للتوافق بأغلبية الثلثين من أعضاء كل مجلس لإعداد قوانين الاستفتاء والانتخابات، وفي حال عدم التوافق على النقاط الخلافية تضع اللجنة آلية لاتخاذ قرار بشأنها، يكون نهائيًا وملزمًا وتحال إلى مجلس النواب لإقرار القوانين وإصدارها كما توافق عليها دون تعديل”.
في الأخير، يمكن القول إن مبادرة “باتيلي” قد ساهمت في تحريك المشهد، وأن عملية الاصطفاف بين المجلس الأعلى والنواب والتوافق بشأن التعديل الدستوري يمكن أن تصبح خطوة مهمة في مسار إبقاء الأطراف الليبية كجزء رئيس في رسم ملامح المرحلة الانتقالية، ورغم أن مبادرة “باتيلي” قد حركت المياه الراكدة ولو جزئيًا، إلا أن أية خلافات أو تصادمات فيما يتعلق بإقرار قوانين الانتخابات، يمكن أن يفتح الباب أمام الحلول الخارجية بما يتجاوز الفاعلين في الداخل.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع