
الاختراق الإيجابي.. مصر ومحاولة إيجاد فرصة جديدة للحل في ليبيا
خطوة جديدة نحو محاولة التغلب على العوائق المركبة التي تشوب الملف السياسي الليبي اتُخذت في 5 يناير 2022 في القاهرة عبر الجمع بين رئيس مجلس النواب الليبي، المستشار عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، في لقاء تعذر خلال الفترة الأخيرة تحقيقه، ما تسبب في تأزم إضافي للأوضاع الليبية خلال الأسابيع الأخيرة. هذا اللقاء، الذي تم برعاية مصرية كاملة، وبحضور رئيس مجلس النواب المصري، المستشار حنفي الجبالي، يعد من حيث الشكل محطة أخرى في مسار المساعي المصرية لإيجاد حل سياسي دائم للأزمة الليبية، ومن حيث المضمون يعد اختراقًا مهمًا يمكن البناء عليه للمسير نحو الانتخابات العامة.
القاهرة في هذه المرحلة الحساسة من الملف الليبي تحاول البناء على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي جهودها السابقة والمستمرة لدعم المسار الدستوري الليبي منذ اجتماعات الغردقة قبل عامين وحتى الآن، وصولًا إلى اللقاءات التي احتضنتها القاهرة في نوفمبر الماضي؛ لبحث مآلات الوضع الحالي، منها: لقاء جمع رئيس مجلس النواب الليبي المستشار عقيلة صالح والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ولقاء بين وزير الخارجية المصري سامح شكري والمبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي. وهي لقاءات تضمنت محاولات لعقد لقاء في القاهرة بين صالح والمشري؛ للتوافق على شروط الترشح للرئاسة، وهي النقطة الخلافية الرئيسة بين الجانبين فيما يتعلق بالقاعدة الدستورية للانتخابات، لكن لم يكتب لهذه المحاولة حينها النجاح.
هذا المسار تم بحثه بشكل أعمق خلال زيارة رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، الشهر الماضي للقاهرة، والتي دعمت من خلالها مصر مبادرة المجلس الرئاسي للجمع بين قيادتي مجلس النواب والأعلى للدولة -برعاية أممية- لبحث القضايا الخلافية. لكن أظهرت تطورات الملف الليبي خلال الأسبوع المنصرم صعوبات متجددة تكتنف عقد هذا اللقاء بين المشري وصالح، خاصة في ظل رفض المجلس الأعلى للدولة -في جلسته المنعقدة الاثنين الماضي- دعوة المجلس الرئاسي إلى انعقاد لقاء بين رئيسي مجلس النواب والأعلى للدولة في مدينة غدامس، وكذا عدم إبداء مجلس النواب تجاوبًا واضحًا مع هذه الدعوة. هذا المؤشر، مضافًا إليه ظهور بوادر أزمات جديدة تتعلق بملف الإيرادات النفطية والموازنة الحكومية الجديدة، وكذا مخاوف أمنية تتعلق بظهور قلاقل جدية في عدة مدن بالمنطقة الغربية- أفضت إلى تصعيد مصر تحركها لرأب الصدع.
تصعيد مصر لجهودها أفضى إلى حلحلة الأزمة الأخيرة بين مجلسي النواب والدولة، والتي نشأت بعد أن قام الأول الشهر الماضي بإقرار قانون يتم بموجبه استحداث المحكمة الدستورية العليا، ومقرها مدينة بنغازي، وهو ما قوبل بردود فعل عالية السقف من جانب المجلس الأعلى للدولة، وصلت إلى حد إعلانه تعليق التواصل مع مجلس النواب، وإيقاف أعمال كافة اللجان المشتركة إلى أن يقوم مجلس النواب بإلغاء قانون المحكمة الدستورية العليا.
طبيعة وآفاق الخطوة الليبية في القاهرة
أهمية هذا اللقاء تنبع بشكل أساسي من المخرجات التي تم التوافق خلاله عليها بين الشخصيتين الليبيتين اللتين تمثلان الجناح التشريعي الليبي، وهو جناح أساسي لا غنى عنه لإيجاد القاعدة الدستورية والقوانين اللازمة لعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية. هذه المخرجات تناولها البيان المشترك الصادر عن كل من صالح والمشري، وكذا المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمع بينهما وبين المستشار الجبالي في مجلس النواب المصري؛ ففي البداية أثنى كل من صالح والمشري على دور مصر بشكل عام فيما يتعلق بالمسار السياسي والدستوري الليبي، والذي ارتبط في جانب منها باستضافة اجتماعات اللجنة الدستورية المشتركة المشكلة من مجلسي النواب والدولة، في ظل تعذر انعقاد هذه اللجنة على الأراضي الليبية، ويتعلق في جانب آخر بحرص مصر على التواصل مع كافة الأطراف الليبية؛ بهدف تحجيم التدخلات الخارجية والوصول إلى صيغ توافقية.
توافق الجانبان خلال اجتماع القاهرة على تفعيل التوافقات التي تم التوصل إليها بشأن النصوص الدستورية المتعلقة بالانتخابات خلال الاجتماعات الماضية للجنة الدستورية؛ وذلك عبر إحالة الوثيقة الدستورية التي تم التوافق عليها إلى مجلسي النواب والدولة، لإقرارها وفق النظم الداخلية لكلا المجلسين. هذه النقطة -وإن كانت بديهية في حالة ما إذا أراد كلا المجلسين البناء على التوافق الذي تم بينهما في ما يتعلق بنحو 95 بالمائة من النصوص القانونية المتعلقة بالانتخابات- فإنها تمثل في نفس الوقت حلًا وسطًا ومرحليًا يتم من خلاله الالتفاف على النقاط الخلافية المتبقية في هذه الوثيقة، والتي تتعلق بترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين، وهي نقطة قال المستشار صالح خلال المؤتمر الصحفي إنه سيتم ترحيلها ليتم بحثها ضمن القوانين الانتخابية التي سيبحثها كلا الجانبين، أو قد يتم الاستفتاء عليها شعبيًا في حالة تعذر التوافق عليها بين المجلسين لاحقًا، وهي صيغة تسمح بشكل أو بآخر بالتقدم خطوة نحو عقد الانتخابات.
هذه الخطوة -في حالة تفعيلها بشكل تام والتزام كلا المجلسين بالمسير فيها- تمثل رغم أهميتها خطوة أولية في مسار طويل يجب سلوكه للوصول إلى الانتخابات، وهنا كانت نقطة ايجابية أخرى في لقاء اليوم، حيث توافق كلا الجانبين على إعلان خارطة طريق واضحة يتم من خلالها إيضاح المحطات المتعلقة بتمهيد الطريق نحو انعقاد الانتخابات، سواء ما يتعلق بالمسار القانوني أو ما يتعلق بتوحيد المؤسسات والمصالحة الوطنية والملفات الإدارية واللوجستية الخاصة بالانتخابات.
هذه الخارطة يُتوقع أن يعلنها الجانبان خلال اجتماع مشترك في إحدى المدن الليبية كما أفاد بذلك المستشار صالح خلال المؤتمر الصحفي، وهو ما قد يشير إلى إمكانية تجاوب مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة مع مبادرة المجلس الرئاسي للقاء في مدينة غدامس في الحادي عشر من الشهر الجاري، ولكن هذه المرة سيكون اللقاء من منطلق توافقي سبق انعقاده.
شهد المؤتمر الصحفي أيضًا إشارة مهمة إلى الملف الحكومي، حيث أكد كل من المشري وصالح أنه يجب إيجاد حكومة موحدة تشرف على عقد الانتخابات، وهو ما سيتم بحثه بين كلا المجلسين خلال المدى المنظور، وهذا يحمل إشارة إلى تسريع كلا الجانبين بحث ملف المناصب السيادية المختلفة عليه في التشكيل الحكومي الجديد، بحيث يتم إعلان هذه الحكومة فور حلحلة هذه النقطة.
إذًا، خلاصة القول إن كلًا من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة تلقفا بشكل واضح الجهد المصري لإيجاد حل نهائي للانسداد السياسي في ليبيا، وهو جهد يحاول بشكل مضنى تعظيم الدور الوطني والمحلي الليبي لإيجاد حلول، وكذا تفادي توسيع الدور الخارجي في الملف الليبي. الرهان خلال الأسابيع القادمة هو على إعلان الوثيقة الدستورية من جهة، وتبيان مصير المواد الدستورية الخلافية المتبقية بشأن شروط الترشح وكذا إعلان خارطة طريق واضحة للمسار الذي سيتم اتباعه على كافة المستويات للوصول الى الانتخابات من جهة أخرى. وهي جميعها نقاط ستتأثر بطبيعة الحال بمدى استمرار التوافق بين مجلسي النواب والدولة من عدمه، وكذا موقف الحكومة المنتهية الولاية في غرب البلاد والتي تعي أن التوافق بين الجانبين يعني عمليًا تشكيل حكومة جديدة، وهو ما يضع تحديات جدية أمام مجلس النواب ومجلس الدولة لعبور المرحلة الراهنة، يضاف إليها حالة التوجس المستمرة بين كلا المجلسين والمجلس الرئاسي.
التواصل الأخير بين القاهرة والمجالس الليبية الثلاث -الرئاسي والأعلى للدولة والنواب- يمثل النهج الأكثر مثالية للتعامل مع ملف يشهد تطورات حرجة على كافة المستويات مثل الملف الليبي، ويشمل في نفس الوقت رهانًا مصريًا على الدور العربي ممثلًا في جامعة الدول العربية ودول أخرى مثل الجزائر وتونس؛ لتأسيس جهد عربي مشترك لتشجيع الفرقاء الليبيين على سلوك الطريق المؤدي للانتخابات، عبر تقسيم الأدوار بينهم، بحيث يتولى المجلس الرئاسي ملف المصالحة الوطنية وتوحيد المؤسسات -خاصة المؤسسة العسكرية- ويتولى مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة تأسيس القاعدة الدستورية والقانونية والتشريعية للاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ربما تكون التجارب السابقة فيما يتعلق بتحقيق التوافق بين المكونات الليبية غير مشجعة، لكن ليس على الخارج سوى رعاية الحلول واقتراحها، ويبقى تطبيق الحل دومًا رهنًا بإرادة الليبيين وتحركاتهم على الأرض.
باحث أول بالمرصد المصري