ليبيا

تدوير الحلول.. خلفيات ومآلات مبادرة المجلس الرئاسي للحوار في ليبيا

بات انتقال الملف الليبي بين المبادرات المختلفة للحل خلال السنوات الأخيرة أكثر من مجرد ظاهرة طارئة مرتبطة بأزمة سياسية وأمنية واجتماعية متفاقمة منذ عام 2011، وتحول هذا الانتقال إلى ما يشبه “دورة ميكانيكية” تسير فيها التفاعلات الداخلية بشكل دائري حول مجموعة من مبادرات الحوار والنقاش، دون وجود نوايا واضحة أو إمكانية فعلية لإيجاد حلول جذرية للأزمة الليبية التي امتدت آثارها في كافة الاتجاهات الإقليمية المحيطة بليبيا.

المحطة الحالية لـ “تدوير الحلول الليبية” جاءت عبر مبادرة أطلقها المجلس الرئاسي الليبي، يشرف بموجبها على لقاء تشاوري يجمع بين كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بالتنسيق مع المبعوث الأممي لليبيا، بهدفين أساسيين: أولهما التوصل إلى توافق حول النقاط الخلافية المتبقية بشأن القاعدة الدستورية التي يمكن على أساسها عقد الانتخابات العامة، والثاني هو التهيئة لحوار دستوري موسع لإنهاء المرحلة الانتقالية، من خلاله تتم مناقشة الاقتراحات والأفكار التي تلقاها المجلس الرئاسي من قوى سياسية ومدنية مختلفة خلال الفترة الماضية.

من حيث الشكل، لا تمثل هذه الدعوة -في حالة النظر إليها بمعزل عن السياقات السابقة لها- تطورًا معتبرًا في مسار الأزمة الليبية؛ فمن الجائز اعتبارها مجرد دعوة أخرى للحوار بين الجانبين، لكن النظرة الأشمل لهذه الدعوة وما سبقها من تفاعلات تعطي لهذه الدعوة طبيعة مختلفة عن ما سبقتها من دعوات.

فهي من جانب تعد محاولة من جانب المجلس الرئاسي -الذي اتخذ حتى الآن مواقف شبه محايدة في ما يتعلق بالتجاذب السياسي بين شرق البلاد وغربها- لتصدر مشهد الحل في ليبيا، وسحب البساط من تحت كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وإجهاض محاولة بدا أن كلا المجلسين يعتزمان القيام بها لقلب المشهد السياسي الليبي، تتضمن سيناريوهات عديدة من بينها تشكيل حكومة جديدة، وربما مجلس رئاسي جديد أيضًا.

من جهة أخرى، يحاول المجلس الرئاسي ربط مبادرته هذه بجهود الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص في ليبيا عبد الله باتيلي الذي كانت له خلال الأسابيع الأخيرة مبادرة للحل لم يكتب لها النجاح، وربما من هذا المنطلق يراهن المجلس الرئاسي على تكتل الأمم المتحدة والمحيط الإقليمي والدولي خلف مبادرته الجديدة للحل، والتي تحمل في طياتها جوهر ما كان مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة يطمحان إلى تحقيقه من خلال المسار السابق لتواصلهما حول القاعدة الدستورية.

توافق غائب.. لقاء تعذر تحقيقه بين صالح والمشري

مبادرة المجلس الرئاسي للجمع بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة جاءت مباشرة عقب تأزم العلاقة بين المجلسين بشكل واضح خلال الأيام الأخيرة، وبدا أن مسار التوافق بينهما والذي بدأ عمليًا في أكتوبر الماضي بلقاء المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة في العاصمة المغربية قد وصل إلى محطة سلبية تفاقمت فيها الخلافات بين الجانبين، وهي خلافات أضيفت إليها بنود أخرى بجانب الملفات الأساسية المتعلقة بالقاعدة الدستورية والمناصب السيادية والسلطة التنفيذية، رغم ما تحقق من توافق بين الجانبين خلال الجولات الثلاث للاجتماعات المشتركة للجنة المسار الدستوري في القاهرة.

المحاولة الأخيرة للتوافق بين الجانبين احتضنتها القاهرة خلال الشهر الماضي عبر لقاءات عدة تمت لبحث مآلات الوضع الحالي، منها لقاء جمع بين رئيس مجلس النواب الليبي المستشار عقيلة صالح مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ولقاء بين وزير الخارجية المصري سامح شكري والمبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي. 

حينها تمت محاولة لعقد لقاء في القاهرة، بين المستشار صالح وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة؛ للتوافق على شروط الترشح للرئاسة وهي النقطة الخلافية الرئيسة بين الجانبين فيما يتعلق بالقاعدة الدستورية للانتخابات، لكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح، فدعا المبعوث الأممي إلى ليبيا كلا الرجلين إلى عقد لقاء في مدينة “الزنتان” جنوب غرب العاصمة الليبية.

بدا أن هذا الاجتماع ممكن، لكن في النهاية لم ينعقد لأسباب عديدة؛ أهمها عدم وجود توافق داخل مدينة الزنتان على استقبال كلا الشخصيتين، ناهيك عن دخول رئيس حكومة الوحدة الوطنية -منتهية الولاية- عبد الحميد الدبيبة على الخط للحيلولة دون انعقاد هذا الاجتماع، خاصة في ظل تزايد المؤشرات على أن عقد هذا اللقاء قد يتضمن الاتفاق على إعلان “سلطة تنفيذية جديدة”، وهي نقطة مهمة وكانت بمثابة السبب الرئيس في بعض التحولات التي تمت في المشهد خلال الأيام الأخيرة.

نوايا الإعلان عن “سلطة تنفيذية جديدة” ظهرت من خلال عدة مؤشرات، أهمها حديث عدة أعضاء في المجلس الأعلى للدولة -من بينهم أحد أعضاء لجنة المسار الدستوري- عن أن رئيس المجلس خالد المشري، تحدث معهم عن التفكير في تشكيل حكومة مصغرة، يتم التوافق على أعضائها بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب. في جانب آخر، توفرت مؤشرات أخرى على اعتزام كلا الجانبين طرح تشكيل لجنة حوار سياسي جديدة -بالتعاون مع المبعوث الأممي- تتكون من 45 عضوًا، بحيث يكون لكلا المجلسين مجتمعين ثلثا أعضاء هذه اللجنة، وهو ما يعني عمليًا -بالنظر إلى فكرة الحكومة المصغرة- تعديل الوضع القائم حاليًا لكل من المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.

يضاف إلى ذلك، نشوء حالة من الانقسام الداخلي في كل من المجلس الرئاسي ومجلس النواب، بشأن القضايا التي لها أولوية في أجندة الحوار المشترك بين كلا المجلسين؛ إذ ترى بعض التوجهات أن القاعدة الدستورية وقانون الانتخابات يجب أن تكون لهما الأولوية، في حين ترى بعض التوجهات الأخرى أنه يجب بالتوازي بحث الملفات الخلافية الأخرى، خاصة ملف الحكومة والمناصب السيادية.

هذا الوضع ظهر بشكل أوضح خلال الجلسة التي عقدها المجلس الأعلى للدولة في الخامس من الشهر الجاري، وحضرها نحو مئة عضو من أعضاء المجلس، وخلالها تم التصويت على اقتراح قدمه 50 عضوًا من أعضاء المجلس، بوضع ملف القاعدة الدستورية كملف أوحد للبت فيه مع مجلس النواب، على أن يتم تأجيل البت في ملفي المناصب السيادية والسلطة التنفيذية إلى وقت آخر. 

وقد نتج عن هذا التصويت رفض أغلبية اعضاء المجلس لهذا المقترح، والاتفاق على البت بشكل متزامن ومتوازي في ملفات القاعدة الدستورية والمناصب السيادية والسلطة التنفيذية. وضع مشابه تقريبًا لهذا ظهر خلال الجلسة قبل الماضية لمجلس النواب، وبدا منه أن جزءًا من المجلس يرى أن التركيز على البت في القاعدة الدستورية للانتخابات هو المسار الأفضل حاليًا، في حين يرى الجزء الأكبر من المجلس أن عقد الانتخابات يحتاج إلى حكومة ومؤسسات موحدة.

خطوة مفاجئة من مجلس النواب بخصوص المسارات القضائية

بعد فشل جهود عقد اجتماع الزنتان، طرح بعض أعضاء المجلس الأعلى للدولة على البعثة الأممية في ليبيا فكرة عقد الاجتماع بين المشري وصالح في مدينة “غدامس” غربي البلاد، لكن فوجئت كافة الأطراف بخطوة من مجلس النواب قام من خلالها بإقرار قانون يتم بموجبه استحداث المحكمة الدستورية العليا، ومقرها مدينة بنغازي، وهو ما قوبل بردود فعل حادة من جانب المجلس الأعلى للدولة، وصلت إلى حد إعلانه تعليق التواصل مع مجلس النواب، وإيقاف أعمال كافة اللجان المشتركة إلى أن يقوم مجلس النواب بإلغاء قانون المحكمة الدستورية العليا.

وبغض النظر عن أن هذه الخطوة جاءت في ظل وضع متأزم أساسًا بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وحقيقة أن رد فعل الأخير على هذه الخطوة قد شابته بعض المبالغات، فإن هذا التحرك بشأن المسار القضائي كان بمثابة إضافة جديدة لقائمة الخلافات بين الجانبين. كان ملف “الطعن الدستوري” من القضايا المثيرة للجدل في التاريخ القضائي الليبي بشكل عام، حيث كان معمولًا به إلى أن تولى العقيد معمر القذافي سدة الحكم، حيث قام بإيقاف إمكانية الطعن في دستورية القوانين، وتم تعزيز ذلك لاحقًا عام 1982 بإصدار القانون رقم “6”، الذي منع بشكل تام حق المواطنين في الطعن على دستورية القوانين، وظل هذا الوضع قائمًا حتى عام 1994، حيث تم تعديل القانون “6”، وأعيد تفعيل إمكانية الطعن على دستورية القوانين، عبر الدائرة الدستورية التابعة للمحكمة العليا. 

خطوة مجلس النواب الأخيرة بشأن استحداث محكمة دستورية عليا في مدينة بنغازي سحبت من الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس -والتي تمت إعادة تفعيلها في أغسطس الماضي بعد تجميدها لسنوات- حق النظر في الطعون على القوانين، وأصبحت هذه المهمة مرتبطة فقط بمحكمة بنغازي الجديدة، وكذلك قصرت هذه الخطوة حق الطعن على دستورية القوانين والقرارات لتصبح محصورة فقط بيد رئيس مجلس النواب وأعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس الوزراء ورئيس البلاد.

القسم المؤيد لهذه الخطوة يرى أنها تهدف إلى تحييد القضاء عن الأزمة السياسية الحالية في البلاد؛ نظرًا إلى وجود تأثير طاغي للسلاح والميليشيات على المسارات القضائية في العاصمة، ويضرب أصحاب هذا الرأي مثالًا، بالحكم الذي أصدرته الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس عام 2014، ببطلان انتخاب مجلس النواب. ويضيف من يتبنى هذا التوجه أن الدائرة الدستورية في طرابلس تقبل الطعون ضد القوانين من أي شخص يحمل الجنسية الليبية، وهذا يعطل العملية التشريعية بشكل كبير، في حين أن حصر حق الطعن على القوانين والقرارات في يد فئة معينة، يسمح بسيولة العملية التشريعية، وهو أمر معمول به في دول عديدة.

هذا المعنى أكد عليه المستشار عقيلة صالح في بيان أصدره عقب إقرار مجلس النواب لقانون المحكمة الدستورية، حيث اعتبر أن هذا القرار هو تأكيد لما تضمنته مسودة الدستور في المواد “138 وصولًا إلى المادة 145” التي توافق عليها أعضاء لجنة المسار الدستوري المُشكلة من مجلس النواب ومجلس الدولة، وأن هذا القرار ليس له أي تأثير سلبي على المسار الدستوري، خاصة أنه عندما يتم إقرار الدستور ستلغى بالتبعية كافة القوانين التي تتعارض مع نصوصه.

الرأي المعارض لهذه الخطوة، يراها انعكاسًا لحالة الصراع التي شابت العلاقة بين المستشار عقيلة صالح والمستشار محمد الحافي رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة العليا، والتي بدأت بإصدار مجلس النواب قانونًا تم بموجبه فصل مجلس القضاء الأعلى عن المحكمة العليا، ورد الحافي في ذلك التوقيت على هذه الخطوة بإعادة تفعيل الدائرة الدستورية بمحكمة طرابلس، ومنذ ذلك التوقيت تبادل كلا الطرفين الخطوات التصعيدية، فقام مجلس النواب في سبتمبر الماضي بإصدار قانون بنقل مقر المحكمة الليبية العليا إلى مدينة بنغازي. 

يرى أصحاب هذا الرأي أيضًا أن خطوة تشكيل محكمة دستورية في بنغازي، ستجعل لمجلس النواب سيطرة كاملة على السلطة التشريعية، وستحصن القرارات والقوانين التي سيصدرها من الطعون، وستمكنه من الالتفاف على الطعون الدستورية السابقة، خاصة الطعون المتعلقة بالتعديلات التي أصدرها المجلس على الإعلان الدستوري، خاصة التعديل الحادي عشر والثاني عشر.

في ظلال هذا الوضع، تتحرك بقية الأطراف الليبية في اتجاهات مستقلة، ويلاحظ هنا تزايد أنشطة كل من رئيس حكومة الوحدة الوطنية -منتهية الولاية- عبد الحميد الدبيبة، وقائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر؛ فالأخير زار مؤخرًا مدينتي سرت وأجدابيا، في حين زار الدبيبة النطاق الشرقي لمدينة مصراتة “الوشكة – أبو قرين”، وبدا أنه يحاول تجديد تواصله مع مكونات مدينة مصراتة وضواحيها. 

كان لافتًا تواصل الدبيبة مع أعيان قبيلة “القذاذفة”، وهو تواصل نادر وإن كان تحت عنوان “إنساني” يتعلق بالمعتقلين من قيادات نظام القذافي. تحدث الدبيبة كذلك حول الوضع السياسي الحالي، في كلمته بـ “الملتقى الوطني لمخاتير ليبيا”، وقال “لا حل إلا الانتخابات بالدستور ولنقيم دستور يتوافق عليه جميع الليبيين ولو انتظرنا 30 سنة، ومن يأتي بالانتخابات سنسلم له”.

خلاصة القول، إن إمكانية نجاح مبادرة المجلس الرئاسي في تحقيق اختراق معتبر تبقى رهينة بمدى تجاوب كلا الطرفين -مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة- مع هذه المبادرة التي قبلها حتى الآن المجلس الأعلى للدولة، في حين لم يتضح بعد موقف مجلس النواب. موقف البعثة الأممية والأطراف الدولية الأخرى يبقى مهمًا في هذه المرحلة، خاصة أن مبادرة المجلس الرئاسي تعد مبادرة “ثانية” تضاف إلى الجهود التي يبذلها حاليًا المبعوث الأممي عبد الله باتيلي للجمع بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وبالتالي ستكون الأيام المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كانت مبادرة المجلس الرئاسي هي مبادرة معزولة دوليًا وأن تحركات البعثة الأممية هي الأساس، أم أن مبادرة الرئاسي هي مبادرة “تكميلية” لجهود البعثة الأممية.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى