
هل يمثل إضراب بريطانيا فصلًا جديدًا في تاريخ الاقتصاد البريطاني؟!
تشهد بريطانيا احتجاجات موسعة غير مسبوقة منذ الإضراب العام الذي وقع في عام 1926 عندما أضرب 1.5 مليون عامل في القطاع الخاص عن العمل بعد الحرب العالمية الأولى، إثر ما واجهه الاقتصاد البريطاني من تداعيات كارثية بسبب الحرب من تراجع الاستثمار وانخفاض أداء القطاع الصناعي، مما دفع أصحاب الأعمال إلى خفض الأجور وقيام النقابات على إثر ذلك بالاتفاق على تنفيذ إضراب عام شل حركة الدولة حينها.
وظهرت حدة الأزمة الحالية مع قيام العديد من النقابات بالإعلان عن إضراب عام لإيقاف نظام القطارات على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع التضخم والسياسة التقشفية التي أعلنت عنها الحكومة، أعقب ذلك تصريحات رئيس حزب المحافظين الحاكم بأن الحكومة تدرس إدخال الجيش للتخفيف من حدة الإضرابات وضمان استمرار تشغيل الخدمات العامة ومراقبة الحدود وتوفير خدمات الرعاية الصحية، بل وذهب الأمر إلى أبعد من ذلك مع دعوة رئيس الحكومة البريطاني “ريشي سوناك” الشرطة البريطانية إلى استخدام القوة الكاملة لمواجهة تلك الإضرابات، وهو ما يمثل تهديدًا لقيم حقوق الإنسان، وكيفية تعاطي الحكومة البريطانية مع الاحتجاجات السلمية المطالبة برفع الأجور والمنددة بارتفاع الأسعار بحسب هيئات حقوقية بريطانية.
بداية الأزمة
تُبين حالة الإضرابات التي حدثت في بريطانيا خلال العام الحالي أن تلك الإضرابات لم يكن مخططًا لها من قبل، فمع الأزمة الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من صراعات اقتصادية بين دول الحرب تسببت في ارتفاع تكاليف الطاقة ودفعت بمستويات التضخم إلى معدل لم يشهده الاقتصاد العالمي من قبل والاقتصاد البريطاني على وجه التحديد وما استتبعه من قرار المركزي برفع سعر الفائدة بأكبر زيادة منذ 30عام، أدى ذلك إلى: ارتفاع أسعار الغذاء، وتراجع مؤشرات القطاع الصناعي، وبالتالي تراجع معدلات الأجور، وتسريح العمال، وارتفاع أزمة تكلفة المعيشة.
وكانت البداية عندما واجهت عدة شركات حكومية بريطانية مثل “مجموعة بي تي” وشركة خدمات البريد “مجموعة البريد الملكي البريطاني” خسائر مالية فادحة دفعت الشركتين إلى الإعلان عن خطط لتخفيض التوظيف وعدم القدرة على تأمين زيادات كافية في الأجور، مما أدى إلى قيام الموظفين بالإضراب عن العمل، ومع تردي الأوضاع الاقتصادية لجأ العمال إلى إضراب للمطالبة بتحسين الأجور وظروف العمل.
وخلال الأشهر الأخيرة قامت عدة نقابات بتنفيذ إضرابات أو التهديد بتنفيذ إضرابات ومنها شبكة السكك الحديدية البريطانية التي توقفت عدة مرات عن العمل، وينظم عشرات الآلاف من عمال السكك الحديدية إضرابات أخرى خلال الأيام القادمة، وهدد موظفو القطاع الصحي البريطاني بالقيام بالإضرابات بعد أن رفضت الحكومة تلبية المطالب المتعلقة بالأجور، وعلى نفس النهج أعلنت نقابة الإطفاء البريطانية عن الإضراب لرفض الحكومة زيادة مقترحة بنسبة 2%، فضلًا عن الإضرابات المعلن تنفيذها من قبل موظفي اتحاد الخدمات العامة والتجارية، وموظفي الخطوط الجوية الأرضية، وبعض عمال الموانئ، وسائقي حافلات لندن، وغيرهم.
حقائق اقتصادية
معدلات النمو الاقتصادي: تواجه بريطانيا تحديات اقتصادية كبيرة مصحوبة بركود مع ارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ معدلات النمو، ففي الربع الثالث من عام 2022 سجلت المملكة المتحدة نموًا سالبًا بنسبة -0.2% مقارنة بالربع السابق (الربع الثاني 2022)، ومقارنة بمستوى ما قبل جائحة كورونا كان الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة في الربع الثالث من عام 2022 أقل بنسبة 0.4%، وبالنسبة لعام 2021 ككل كان نمو الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة 7.5%، ويمكن متابعة تطور معدل تغير نمو الاقتصاد البريطاني من خلال الشكل التالي:
وفي 22 نوفمبر، نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعات جديدة للاقتصاد العالمي تضمنت توقعاتها للاقتصاد البريطاني، وأظهر التقرير أن نمو الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة سيسجل 4.4% عام 2022 وسينخفض ليصل إلى -0.4% لعام 2023 وهو أدنى معدل إذا ما قورنت بدول مجموعة السبع، وأظهرت توقعات صندوق النقد الدولي تباطؤ نمو الاقتصاد البريطاني العامين الحالي والقادم.
أما فيما يتعلق بمعدلات التضخم: فقد قفز ليصل إلى أقصاه منذ عام 1997 عند 11.1% في أكتوبر 2022 وذلك مع ارتفاع فواتير الطاقة المنزلية وأسعار المواد الغذائية، مقارنة بنسبة 10.1% في سبتمبر، ويمكن متابعة تطور معدل التضخم من خلال الشكل التالي:
ويعد معدل التضخم في أكتوبر أعلى بكثير من توقعات السوق والتي كانت عند 10.7%، ومع ضغط تصاعدي رئيس يأتي من الإسكان والخدمات المنزلية (26.6% في أكتوبر مقابل 20.2% في سبتمبر)، وتحديدًا الغاز (128.9%) والكهرباء (65.7%).
وكان التضخم سيرتفع إلى حوالي 13.8% لو لم تتدخل الحكومة للحد من سعر فواتير الطاقة المنزلية. وارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية (16.2% مقابل 14.5%). من ناحية أخرى، تباطأت تكلفة النقل بشكل حاد (8.9% مقابل 10.6%)، خاصة وقود السيارات (22.2%) والسيارات المستعملة (2.7-%). ومقارنة بشهر سبتمبر، قفز مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 2% فوق التوقعات عند 1.7%.
سوق العمل البريطاني: يشهد سوق العمل البريطاني تباطؤًا، وتختلف القطاعات من حيث نقص العمالة؛ إذ يعاني بعضها من نقص في العمالة بشكل أكثر حدة، مما قد يؤدي إلى استمرار ضغوط الأجور والأسعار. ومن المرجح أن تواجه قطاعات مثل: تكنولوجيا المعلومات، والقطاع الصحي، وقطاع الخدمات، والإقامة والطعام، صعوبات مستمرة في ملء الوظائف الشاغرة، وقد يؤدي استمرار قيود العمالة إلى إجبار القطاعات عالية المهارة على الاستمرار في رفع الأجور، مما يؤدي إلى تفاقم مشكلة التضخم الحالية، ولكن بشكل عام انخفضت الأجور الحقيقية الإجمالية عن أعلى مستوياتها على الإطلاق بسبب تأثير التضخم المرتفع.
وبالنسبة للدين الحكومي: فقد ارتفع الدين الحكومي في المملكة المتحدة إلى 2459.90 مليار جنيه إسترليني في أكتوبر من 2446.30 مليار جنيه إسترليني في سبتمبر من عام 2022، ويمكن متابعة تطور الدين الحكومي البريطاني من خلال الشكل التالي:
كما هو موضح في الشكل، فقد ارتفعت مستويات الدين الحكومي بسبب الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا وأزمة الطاقة الحالية، ومن المتوقع الآن أن يصل الإنفاق على فوائد الديون إلى مستوى قياسي، لذلك وضعت الحكومة خطة بشأن الضرائب والإنفاق، وأعلنت الحكومة عن تقليص الدعم المقدم للمواطنين العام المقبل وجعله أكثر استهدافًا لمن هم في أمس الحاجة إليه.
ذلك مع زيادة الرسوم المفروضة على منتجي الطاقة، ووضعت الحكومة كذلك خطة لخفض استهلاك الطاقة بنسبة 15% بحلول عام 2030 من خلال مجموعة من الخطوات المجانية ومنخفضة التكلفة لتقليل الطلب على الطاقة وزيادة الاستثمار العام في البنية التحتية والابتكار.
ومع ذلك يبدو أن الاقتصاد البريطاني يواجه رياحًا معاكسة والتي تشكل مخاطر على استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، خاصة مع طول أمد تكلفة المعيشة، وضعف ثقة المستهلك والذي يزيد من ثقل عملية النمو الاقتصادي التي تسعى المملكة المتحدة إلى تحقيقها. لذلك لتهدئة الشارع البريطاني وحتى لا تدخل البلاد في حالة من التوقف التام، يتطلب الأمر أن تضع الحكومة خطة سريعة والتزامًا لتحقيق ذلك تقوم على تحسين الإنتاجية القطاعية ورفع المهارات والتدريب لتعزيز النمو الاقتصادي، وإلى حين ذلك فإن الحكومة البريطانية واقعة بين المطرقة والسندان من ناحية إضرابات النقابات للضغط على الحكومة لزيادة الأجور، ومن ناحية أخرى الركود الاقتصادي وارتفاع التضخم وتراجع مؤشرات الاقتصاد بشكل عام.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية