
ماذا لو عادت طهران إلى أسواق النفط العالمية؟
أصبحت الحاجة إلى النفط الإيراني ماسة عند جميع اللاعبين في مفاوضات فيينا؛ وذلك لتعويض الاستغناء الأوروبي عن النفط الروسي، بعدما غيّرت الحرب في أوكرانيا قوانين ومفاهيم لعبة الطاقة عالميًا. فعلي سبيل المثال، تحتاج إدارة جو بايدن أسعار وقود تحتوي أي غضب للناخب الأمريكي قبل شهر نوفمبر المقبل، لأن الأمريكيين يحكمون على حكومتهم من خلال محطات الوقود. وعلى الجهة الأخرى، دول الاتحاد الأوروبي في أشد الحاجة إلى النفط الإيراني، ولذلك تضغط على واشنطن كي تتنازل، ومرتكزة على جزئية أنها لبت نداء الولايات المتحدة الأمريكية في اتخاذ قرار مقاطعة النفط الروسي. أما إيران فتتكئ على الضغوط الأوروبية لدفع إدارة جو بايدن إلى سرعة الموافقة على إتمام الصفقة، انطلاقًا من كونها قادرة على تعويض أوروبا عن النفط الروسي.
مكانة إيران النفطية
تمتلك إيران -والبالغ عدد سكانها حوالي ٨٣ مليون نسمة- احتياطيات كبيرة من النفط الخام في العالم، وتُصنف من بين قائمة الكبار في إنتاج النفط على مستوى العالم، فتأتي في المرتبة الثالثة بعد فنزويلا والسعودية بين دول أوبك من حيث الأكثر امتلاكًا للاحتياطيات النفطية المؤكدة؛ إذ تستحوذ طهران على حصة قدرها حوالي أكثر من ١٣٪.
وفي عام ١٩٠٨، أعلنت بداية عهد النفط في منطقة الشرق الأوسط مع ظهور أول بئر للنفط في مدينة مسجد سليمان في محافظة عربستان جنوب غرب إيران، وتقع معظم احتياطيات إيران النفطية في البر (حيث تُشكل حوالي ٧١٪) ، في حين يحتوي حوض خوزستان على نحو حوالي ٨٠٪ من إجمالي الاحتياطيات الإيرانية النفطية؛ إذ يُقدّر إجمالي احتياطيات النفط الخام لدى إيران والتي تحتل المرتبة رقم ١٧ عالميًا من حيث المساحة البالغة حوالي ١٬٦ مليون كيلومتر مربع بحوالي ١٥٧٬٨ مليار برميل وذلك حتى نهاية عام ٢٠٢٠.
صادرات إيران النفطية
بصفة عامة، هناك خلاف واضح بين العديد من البيانات المتاحة حول صادرات طهران من النفط؛ لأن طهران لا تصدر أي بيانات في هذا الإطار، ولذلك تعتمد وكالات الأنباء على الإشارات الإلكترونية لأجهزة التتبع، وأغلب حاملات النفط الإيرانية وغيرها المحملة بالنفط الإيراني تطفئ هذه الأجهزة، ومن ثم تقوم هذه المصادر بالإعلان عن كميات صغيرة. وهناك العديد من شركات المراقبة والتي تستخدم وسائل كثيرة، منها صورة الأقمار الاصطناعية، ولكن مع سوء الأحوال الجوية من الممكن أن تؤدي إلى عدم رؤية تلك الحاملات.
وتكون الأرقام غالبًا أقل من الرقم الحقيقى، ولا يمكنها تتبع السفن الصغيرة والتي تحمل النفط إلى سفن عملاقة في وسط البحر، وهناك من يحصل على معلومات خاصة، خصوصًا من الدول الأخرى والتي تستورد النفط الإيراني، فيتم تصدير النفط الإيراني من خلال شبكة دولية تشمل موسكو وبكين ودولًا مجاورة، ومجموعة كبيرة من الشركات الوهمية، والتي تتخذ من عدة دول مراكز لها، ولهذا فإن تقديرات الصادرات تتراوح ما بين ٣٠٠ ألف برميل وأكثر من مليون برميل يوميًا.
ومن هنا يجب الإشارة إلى أن طهران تعمل على ٣ طرق لتهريب نفطها وتصديره إلى الأسواق الخارجية وهي:
الطريقة الأولى: تعتمد على نقل النفط الإيراني بواسطة سفن عربية صغيرة إلى مدخل شط العرب في الخليج العربي ثم تسليمه إلى ناقلات كبيرة ليباع على أساس أنه نفط غير إيراني.
الطريقة الثانية: يجري خلالها نقل النفط الإيراني عبر ناقلات إيرانية إلى سوريا، وربما لبنان، حيث يخزن هناك حتى تأمين زبائن له، وهم في الغالب سماسرة نفطيين بعيدًا عن أعين المستوردين الرئيسين أو ما تعرف بالسوق الرمادية.
الطريقة الثالثة: يجري شحن النفط الإيراني بناقلات كبيرة وتعويمها في البحار، حتى إيجاد زبائن لها أو تخزين حمولاتها في ميناء داليان الصيني، مع العلم أن طهران تملك أكثر من ٤٠ ناقلة نفط عملاقة تعمل حاليًا بهذه الطريقة.
وأيضًا من ضمن بعض مشاكل التقديرات الرئيسة للصادرات الإيرانية النفطية، أن بعض الحمولات تكون من النفط والأخرى مكثفات، والمكثفات غير متضمنة في الحصص الإنتاجية لدول منظمة أوبك. وتقوم طهران حاليًا بتصدير المكثفات إلى فنزويلا حيث يتم هناك مزجها بالنفط الثقيل كي يتم تميعه بشكل يسهل نقله وتصديره.
وتتسلم طهران أغلب إيرادات النفط إما نقدًا، وبعملات مختلفة، أو بالذهب، أو بالعملات المشفرة، أو عن طريق عمليات مبادلة البضائع، أما الباقي فيذهب إلى حسابات بنكية خاصة بإيران، ولكن لا يمكن لطهران أن تتسلمها إلا إذا رفعت العقوبات، لهذا فإن طهران من المتوقع حصولها على مليارات الدولارات خلال الأسبوع الأول من رفع العقوبات عنها. ولكن بمجرد إطلاق المخزون النفطي الإيراني، سيكون التحدي متمثلًا في: في كيفية إحياء حقول النفط الخاملة، وترتيب العقود، والسفن، والتأمين لشحن تلك البراميل.
وبصفة عامة، يأتي إنتاج النفط الإيراني وسط ضغوط كبيرة من العقوبات المفروضة على طهران بسبب برنامج طهران النووي. ومنذ عام ٢٠١٨، اتبع إنتاج إيران النفطي منحنى هبوطيًا، فبلغ حوالي ٣٬٥ مليون برميل قبل أن يسجل حوالي ٢٬٣ مليون برميل يوميًا في عام ٢٠١٩، ويتراجع أكثر في عام ٢٠٢٠ إلى مستوى حوالي ١٬٩ مليون برميل يوميًا، وعادت معدلات الإنتاج الإيراني للصعود مرة أخرى خلال عام ٢٠٢١، حيث وصل إلى حوالي ٢٬٤ مليون برميل يوميًا في المتوسط، بزيادة حوالي ٤٠٠ ألف برميل يوميًا، عن نهاية عام ٢٠٢٠.
وعلى الرغم من أن الدول الكبرى المنتجة للنفط الخام تريد عودة طهران تدريجيًا إلى السوق، وتريد طهران العودة إلى السوق بكل الطاقة الإنتاجية المتاحة، فإن تلك العودة غير ممكنة دون رفع العقوبات وإبرام اتفاقية إيران الجديدة بعد عودة واشنطن من جديد للمفاوضات بعد أكثر من عام ونصف من انسحابها.
وتعاني طهران من آثار عقوبات أمريكية أعادت واشنطن فرضها بدءًا من ٢٠١٨، وذلك بعد انسحابها الأحادي من الاتفاق بشأن برنامج طهران النووي. وحرمت العقوبات الأمريكية طهران من حوالي أكثر من ١٠٠ مليار دولار من عائدات النفط الخام، ومنعتها من تصدير حوالي ١٬٨ مليار برميل من النفط من أبريل ٢٠١٨ إلى أبريل من عام ٢٠٢١.
ما أثر رفع العقوبات المرتقبة عن إيران على أسواق النفط؟
بشكل عام، طهران تصدر ما يمكنها تصديره على كل الحالات، فإن أثر رفع العقوبات في المدى القصير سيكون نسبيًا غير مؤثر، وبشكل كبير سينتهز المضاربون الفرصة بمجرد نشر خبر نجاح الاتفاق، وستنخفض لذلك أسعار النفط وسيزداد اضطرابها، ولكنه سيكون بشكل مؤقت.
ويمكن أن تقوم طهران بتخزين النفط الخام في سفن عائمة والخزانات الأرضية في الموانئ تحسبًا ليوم رفع العقوبات، وذلك لإقناع الشعب الإيراني بفائدة الاتفاق مع واشنطن، والتي وصفوها بالشيطان الأكبر خلال السنوات الماضية، وأيضًا كي يظهروا أمام الجميع بأن طهران تستطيع زيادة مستويات الإنتاج بكل سهولة.
إلا أن إيران تستطيع رفع الإنتاج بشكل ملموس خلال شهور، وبالتحديد في خلال عامين، وتستطيع أن تتوسع بعد ذلك مع دخول شركات النفط الأجنبية، ولكن هذه الزيادات لا يتوقع لها أن تساعد على خفض الأسعار بصورة سريعة. ولكن جدير بالذكر أنه بعد تخفيف العقوبات إثر اتفاق عام ٢٠١٥، استعادت طهران إنتاجها من النفط الخام بسرعة كبيرة، وبشكل كامل أكثر مما توقعه الجميع.
الرابح والخاسر من اتفاق فينيا المحتمل
من الناحية الاقتصادية، إن أي اتفاق في فيينا هو لمصلحة طهران؛ فمال النفط اليوم أهم من العقيدة السياسية التي قد يقرر رجال طهران تجنيبها موقتًا حتى تستعيد طهران قدرتها الاقتصادية. ومن هنا تظهر أهمية المعادلة النفطية الرابحة ونتائجها على جميع الأطراف المباشرة وغير المباشرة والتي تتمثل في النقاط التالية:
- أرباح سريعة وغزيرة لإيران من خلال بيع نفطها لأوروبا وبسعر تنافسي (في حدود ٦٠ دولارًا للبرميل)، وبهذا تتحقق استفادة أوروبية فورية من توافر النفط البديل عن النفط الروسي.
- ستستفيد الإدارة الأمريكية من انخفاض أسعار النفط وتدفقه بدلًا من ارتفاعه، بما يؤدي إلى تذمر الناخب الأمريكي وذلك قبل موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.
- استفادة الصين من رفع العقوبات عن نفط إيران ومؤسساتها المالية.
- ضخ المزيد من النفط من أجل الوصول إلى تشبع الأسواق من الكميات المعروضة من أجل كبح جماح أسعار النفط.
ولكن يبقى السؤال كيفية استفادة بوتين من الاتفاق النووي المرتقب؟
موسكو ستكون خاسرة بكل تأكيد من الناحية الاقتصادية إذا تم رفع الحظر عن النفط الإيراني. وعلى الجانب الأخر، ستؤدي تلك الخطوة إلى تنفيذ الاتحاد الأوروبي برنامج الحظر النفطي على موسكو. ولكن من زاوية أخرى، أصبح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد الحرب في أوكرانيا في أشد الحاجة إلى نصر سياسي قوي يسمح له بأن يبدو لاعبًا حيويًا في السياسة الدولية.
وهذا ما يتوافر له في صفقة فيينا المرتقبة، وبذلك يستطيع بوتين استخدام ورقة نجاح مفاوضات فيينا كنقطة عبور نحو استعادة دوره، ليس فقط كلاعب رئيس في السياسة الدولية، ولكن في إطارٍ استراتيجي ثلاثي مع طهران وبكين، وفي إطارٍ ثنائي مع طهران نفطيًا وعسكريًا؛ إذ يمكن أن تصبح طهران بوابة عبور خلفية للنفط الروسي للالتفاف على العقوبات الأوروبية. يُضاف إلى ذلك أن موسكو على يقين بأن تحرير إيران من العقوبات سيمكنها من دفع الأموال لها مقابل صفحات تسليح ضخمة.
وقبل بدء الحرب الروسية الأوكرانية وحزم العقوبات الموقعة ضد روسيا، أسهمت اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين طهران وبكين في ارتفاع صادرات النفط الإيراني بنحو ٨ أضعاف قياسًا مع الفترة ما قبل الاتفاقية، فارتفعت في عام ٢٠٢١ بمقدار بأكثر من ١٩٠٪، وفي عام ٢٠٢٢ ارتفعت بأكثر من ١٦٠٪ قياسًا مع العام السابق.
وكل هذه الأرقام على مائدة الحوار بين موسكو وطهران بسبب وعي إيران جيدًا بإن المنافسة بينها وبين موسكو ستضر بقوة على حجم مبيعات النفط والمنتجات النفطية الأخرى والتي تُشكل جوهر جهود النظام الإيراني لمواجهة الضغوط والأزمات الاقتصادية، وأيضًا بقدرة طهران على تجنب العقوبات، مما يعمل على تقليص نفوذها خلال المحادثات النووية المتوقفة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. ويوضح الشكل التالي أبرز وجهات النفط الإيراني قبل بداية الحرب:
وبصفة خاصة، سلط التقدم الأخير في ملف الاتفاق النووي المرتقب واحتمالية رفع العقوبات النفطية الإيراني الضوء على مخزون كبير من النفط الخام الإيراني، والذي من الممكن إرساله بصورة سريعة إلى المشترين في حالة نجاح الاتفاق، حيث يتم تخزين حوالي أكثر من ٩٠ مليون برميل من النفط الخام والمكثفات الإيرانية على متن سفن في الخليج العربي، وقبالة سواحل سنغافورة، وبالقرب من الصين، وتوجد كميات أصغر في الخزانات البرية. ولذلك فإن أسواق النفط العالمية تواجه ضغوطًا معنوية كبيرة بسبب التوقعات بدخول تلك الكميات الكبيرة من النفط الإيراني، وذلك دون النظر إلى تأثيرات الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم في معظم دول العالم.
مجمل القول، يوجد النفط الإيراني في الأسواق العالمية بالكثير من الطرق حتى لو لم يكن معلنًا بشكل واضح، ويصدر لبعض وجهات آسيا وفنزويلا، وفى آخر ١٠ سنوات لم تسطع طهران رفع مستويات الإنتاج إلى ٤ مليون برميل يوميًا، حيث تراوحت مستويات الإنتاج عند حوالي ٢٬٥ مليون برميل يوميًا. وفى حالة التوصل إلى الاتفاق النووي، فإن حصة إيران في ستكون ضمن تحالف أوبك بلس، مما سيضطر التحالف إلى معايرتها وإعادة هيكلة الحصص السوقية للأعضاء لتتماشى مع الحصة السوقية المقررة لطهران، وستسعى أوبك بلس إلى ضبط الأسواق النفطية حتى لو دخل نفط طهران.
ولكن سيظل الاتفاق النووي فرصة لطهران لملء الفراغ الذي خلفته موسكو في سوق النفط. وفى الأخير فأن تسريع مفاوضات الاتفاق النووي يضع في الحسبان حظر النفط الروسي بنهاية العام؛ وذلك للتخلص من تبعية الاتحاد الأوروبي للنفط الروسي، وأن إيران قد تكون البديل الأنسب، بالإضافة إلى سعي الرئيس الأمريكي إلى تسريع وتيرة دخول النفط الإيراني إلى السوق العالمية بمعدلات قد تسهم في الضغط على موسكو.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة



