
مساعي الاحتواء: دلالات مواقف الأجسام السياسية من الحراك الشعبي الليبي
شهدت الساحة الليبية موجة من الحراك الشعبي انطلقت بحلول الأول من يوليو الجاري، امتدت من العاصمة طرابلس إلى بنغازي وطبرق وسبها ومصراتة والبيضاء وسلوق وبني وليد، ولم يكن أمام المؤسسات والقوى السياسية الليبية في ظل هذا الوضع، سوى خيار عدم الصدام مع الحراك واحتوائه، ومن الملاحظ أنه رغم اختلاف الدوافع المصلحية لتلك الأطراف، إلا أن جميعها يشترك في نهاية المطاف في الرغبة في الاستمرار في المعادلة السياسية الليبية، في ظل تأكل مشروعيتها السياسية والقانونية، والتي تشكل أحد دوافع الحراك لإنهاء دورها في المشهد السياسي، والإسراع في إجراء الانتخابات لتجديد مشروعية تلك الأجسام.
الأجسام السياسية ومحاولات استثمار الحراك
يُمكن بيان كيفية تعاطي المؤسسات الليبية مع الحراك الثائر ودلالاته على النحو التالي:
• حكومة الوحدة الوطنية: رفع المتظاهرون شعارات مطالبة برحيل “عبد الحميد الدبيبة”، رئيس الوزراء المؤقت لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، مُتهمين إياه بإفشال العملية السياسية في البلاد، ومطالبين برحيل حكومته والتعجيل بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في كافة المدن الليبية. وفي هذا الصدد جاءت استجابة “الدبيبة” الذي أعلن ضمّ صوته للمتظاهرين في عموم البلاد، وأيّد مطالبهم في رحيل كافة الأجسام السياسية- بما فيها حكومته- وأن ذلك لن يتم إلا من خلال إجراء الانتخابات.
بيد أن تصريحات “الدبيبة” المُؤيدة للحراك الشعبي تحمل في طياتها مناورة سياسية، يسعى من خلالها الأخير إلى ضمان حصوله على مكاسب في آية تسوية سياسية قادمة، مثلًا إما عن طريق الترشح في الانتخابات الرئاسية المُقبلة- التي سبق أن ترشح لها في أواخر عام 2021، وهو الترشح الذي أثار ردود أفعال رافضة كونه جاء مخالفًا للمادة الثانية عشرة من قانون انتخابات الرئاسة، التي تنص على أن “المترشح للرئاسة عليه أن يستقيل من عمله قبل ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات”، فضلًا عن مخالفته لتعهد “الدبيبة” الذي ألزمته به البعثة الأممية في ليبيا قبل رئاسته للحكومة بعد الترشح في الانتخابات التي تلي المرحلة التمهيدية- أو عن طريق إيجاد موقع سياسي مهم في أي معادلة محتملة للمشهد السياسي في ليبيا، أو على أقل تقدير محاولة استغلال الحراك في البقاء في منصبة لأطول فترة ممكنة.
• المجلس الأعلى للدولة: جاء موقف المجلس الأعلى للدولة برئاسة “خالد المشري” أقل وضوحًا عن باقي المواقف الأخرى. ولكن بشكل عام لا يُستعبد أن يكون هذا الموقف متماشيًا في إطار سعي كافة الأطراف للاستثمار في المشهد الراهن. فمن ناحية قد يتسبب في استمرار الخلافات العالقة بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب حول التوافق على القاعدة الدستورية المطلوبة لإجراء الانتخابات الرئاسية، ومن ثمّ إطالة أمد المعضلة السياسية القائمة، بما يؤدي إلى بقاء الأطراف المتنازعة في السلطة لأقصى فترة ممكنة. ومن ناحية أخرى ربما يسعى المجلس الأعلى للدولة إلى التماهي مع الحراك لإعادة تأهيل نفسه شعبيًا، خصوصًا في ظل الاتهامات الموجهة له بفقدان الشرعية السياسية والشعبية، لا سيما أنه يعتبر – من وجهة نظر الأطراف المعارضة- واجهة سياسية جديدة للجماعات الإسلامية التي خسرت حضورها في المشهد الليبي.
• المجلس الرئاسي: رغم أن المجلس الرئاسي بقيادة “محمد المنفي” يندرج ضمن الأجسام السياسية التي تطالب المظاهرات بإسقاطها، إلا أنه كان الطرف الأسرع الذي بادر بالإعلان عن حالة انعقاده بشكل دائم ومستمر حتى تتحقق إرادة الليبيين في التغيير. وفي السياق ذاته، أصدر المجلس في 6 يوليو الجاري بيانًا أعلن فيه سعيه للحصول على إجماع وطني حول خطة لحل أزمة الانسداد السياسي في البلاد وإنهاء المراحل الانتقالية عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في إطار زمني محدد. ووضع المجلس عددًا من المحددات الحاكمة لهذه الخطة، على رأسها، الحفاظ على وحدة البلاد، وانزواء شبح الحرب والانقسام وتجنب الفوضى والحد من التدخل الأجنبي والدفع في اتجاه حل وطني.
ويجد المتابع لمواقف المجلس الرئاسي الليبي أن هذا التعاطي اتسم بالبعد عن الانخراط في حالة الاستقطاب السياسي، خصوصًا على مستوى دعم أطراف على حساب أطراف أخرى. ويبدو أن موقف المجلس الداعم للحراك الشعبي هو استمرار لهذه المقاربة التي تبناها للتعاطي مع الأزمة السياسية في ليبيا، والتي قد تمكنه من استغلال تموضعه الحالي في المسار السياسي للتواصل مع كافة الأطراف، ومن ثمّ تعزيز فرص تصدُره للمشهد السياسي الليبي في المرحلة المقبلة على حساب باقي الأطراف. لكن العديد من التقديرات دفعت بأن الرهان على المجلس الرئاسي للخروج من الأزمة لكن يكون مربحًا، لا سيما بعد أن فشل الأخير في العديد من المهام المنوط بها للخروج بالبلاد من أزمتها السياسية المستفحلة، فبدلًا من ذلك اتسعت الهوة بين الأطراف المتنازعة وبات المشهد أكثر تعقيدًا.
• مجلس النواب الليبي: على غرار باقي المؤسسات الأخرى، تعاطي مجلس النواب الليبي برئاسة “عقيلة صالح” مع الحراك الشعبي وفقًا لحساباته السياسية، حيث رأى أن مطالب المظاهرات بإسقاط الأجسام السياسية تتعلق في الأساس –وفق منظوره- بالسلطة التنفيذية. ولذا جاءت تصريحاته مؤيدة لمطالب الشعب الليبي ومؤكدة على حقة في التظاهر السلمي.
ولعل سرعة تعاطي المجلس مع الحراك كانت مدفوعة بكونه الطرف الأكثر تعرضًا لخسائر ناجمة عن الحراك، وذلك بعد إقدام المتظاهرين على إحراق مقر البرلمان في طبرق. وجاءت ردود فعل المجلس على هذا المشهد في شكل رسائل موجهة إلى ثلاثة اتجاهات الأول، اتهام أنصار القذافي كمحاولة لمواجهة النفوذ المتزايد لهم في المنطقة الشرقية ولمحاولتهم تصدر المشهد السياسي مرة أخرى لذا كان اتهامه لهم بإحراق البرلمان بمثابة تحرك في هذا لاتجاه. والاتجاه الثاني هو نحو المجلس الرئاسي حيث يخشى البرلمان من أية تحركات تصعيدية من جانب المجلس الرئاسي تجاهه لذا جاء اتهام صالح لبعض أقارب رئيس المجلس الرئاسي بالتورط في أحداث العنف المرافقة للتظاهرات. والاتجاه الثالث هو حكومة الدبيبة التي تحدث “صالح” بشكل صريح حول مسؤوليتها عن حالة التردي التي تشوب القطاع الخدمي بمختلف اتجاهاته في البلاد وهذا يأتي في إطار المواجهة المستمرة بين الطرفين منذ أوائل العام الجاري.
• الجيش الوطني الليبي: لم يختلف موقفه كثيرًا عن كافة الأجسام السياسية الأخرى المؤيدة لمطالب الحراك، بل وتعهد باتخاذ الإجراءات الواجبة لصيانة استقلال القرار الليبي إذا ما حاول أي طرف الانفراد به تماشيًا مع أي إرادة خارجية تسعى لفرض مشاريعها وقرارها على الليبيين، داعيًا الشعب الليبي إلى تنظيم تظاهره المشروع وإلى حراك مدني سلمي منظم لوضع خريطة لطريق الخلاص من الواقع المرير والعبث القائم، والتوجه نحو بناء الدولة المدنية بإرادته الحرة من دون نيابة أو وصاية من أحد، واصفًا مطالب الحراك بالمشروعة في ظل تفاقم الأزمة الليبية وانغلاق الأفق وتدني المستويين الخدمي والمعيشي للمواطن.
ختامًا، نخلص إلى أن الأجسام السياسية الليبية اتخذت مواقف حذرة ومتوجسة بشأن مطالب الحراك التي تتعلق بالأساس بإعادة تشكيل المشهد السياسي، عبر إزاحة النخبة الحالية التي فشلت على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المؤجلة، مكتفين بإطلاق البيانات المؤيدة لتلك المطالب والتي تؤشر إلى اعتقاد كل مكون بأنها لا تعنيه وبالتالي إلقاء عبء تطبيقها على الأطراف الأخرى، وهكذا يتم استثمار وتوظيف الحراك في عملية التناحر السياسي دون رغبة جادة لاتخاذ خطوات إيجابية بشأن عملية الانتقال السياسي عبر طرح مشروع الدستور للاستفتاء وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهو المشهد الذي قد يُنذر بتعقيد المشهد السياسي وتحول قوى الحراك إلى طرف في معادلة التجاذبات السياسية.
باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع



