ليبيا

غياب الصدى… مظاهرات ليبيا وانعكاساتها على المشهد السياسي

كما كان متوقعًا، استمرت حالة الغضب الشعبي في معظم المدن الرئيسة في ليبيا من حالة الانسداد السياسي والتردي الاقتصادي والخدمي المستفحلة في البلاد منذ سنوات، وهي حالة بدأت في التفاعل بشكل أكبر منذ الأول من الشهر الجاري، ودخلت يومها الرابع بزخم لافت، وإن كانت الأنظار مسلطة بشكل أكبر على ردود أفعال الأجسام السياسية على هذه الحالة، وما إذا كان للتظاهرات والاحتجاجات التي عمت المناطق الشرقية والجنوبية والغربية من البلاد تأثير كبير ونوعي على مواقف هذه الأجسام وتموضعها الحالي، بعد أن أصبح الشعار الأساسي لهذه التفاعلات هو “رحيل الكل”. 

السمة الأساسية لهذه الموجة من الاحتجاجات -وهي رفض كافة الأجسام السياسية الموجودة في الساحة بما في ذلك حكومة الدبيبة في طرابلس- تتشابه إلى حد بعيد مع الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة طرابلس ومناطق أخرى في أغسطس 2020 ضد حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وهذا التشابه ربما يحمل في طياته رهانًا من جانب المتظاهرين على إمكانية إحداث نفس التأثير الذي أسفرت عنه مظاهرات 2020، حين أجبرت السراج بعد عدة أشهر على الاستقالة من منصبه، ومغادرة المشهد السياسي نهائيًا.

لكن تشابكات المشهد السياسي الحالي -رغم بعض التشابهات بين الثنائية الحكومية الحالية وثنائية “السراج – الثني” السابقة- تجعل من الصعب توقع أن تؤدي مظاهرات هذا الشهر إلى نتائج ملموسة.

مشهد ميداني متفاقم في الشوارع الليبية

التفاعلات التي شهدها اليوم الأول من الشهر الجاري في مدن طرابلس وبنغازي وطبرق وسبها ومصراته والبيضاء وسلوق وبني وليد استمرت خلال الأيام التالية وصولًا إلى اليوم، فقد اعتصم في الثاني من الشهر الجاري عدد من المتظاهرين أمام مقر المجلس الرئاسي في العاصمة طرابلس التي شهدت موجة من المظاهرات الليلية استمرت خلال الأيام التالية وشملت المناطق الرئيسة في العاصمة، مثل صلاح الدين والنجيلة وغوط الشعال وخلة الفرجان وزاوية الدهماني والكريمية ووادي الربيع، بجانب المدن المحيطة بالعاصمة ومنها ورشفانة جنوبي العاصمة والزاوية وصرمان غربها، وزليتن ومصراته شرقها.

فقد شهدت مصراته مظاهرات كثيفة، تم خلالها إغلاق مجلسها البلدي بالسواتر الرملية، كذلك شهدت مدينة سبها جنوبي البلاد ومدينة “وازن” قرب الحدود مع تونس أوضاعًا مشابهة، بجانب إصدار تجمع قبائل “ورفلة” وأهالي مدينة “بني وليد” شمال غرب البلاد بيانًا يطالب برحيل كافة الأجسام السياسية من المشهد.

اللافت أن وتيرة المظاهرات في طبرق قد خفتت، خاصة بعد مظاهرة شهدتها المدينة منذ يومين دعمًا لمجلس النواب وتنديدًا بالاعتداء على مقره بالمدينة في اليوم الأول من المظاهرات.

تتزامن هذه الاحتجاجات مع استمرار أخرى تندد بالأوضاع المعيشية الصعبة، منها اعتصام لأهالي المناطق الواقعة جنوب وغرب مدينة الزاوية بالقرب من محطة توليد الطاقة الكهربائية في منطقة “بئر الغنم”، كذلك أغلق منتسبو عملية “البنيان المرصوص” الطريق الشرقي المؤدي إلى مدينة مصراته، احتجاجًا على عدم تلبية مطالبهم الخاصة بمستحقاتهم المالية من جانب حكومة الدبيبة.

من المؤشرات الميدانية الجديرة بالاهتمام، القلاقل التي يشهدها الطريق الساحلي الرابط بين طبرق والعاصمة طرابلس عبر مدينة سرت، والذي كان إعادة افتتاحه بمثابة الإنجاز الأكبر والأهم للجنة العسكرية المشتركة “5+5″، فقد تم إغلاق هذا الطريق بالسواتر الرملية في منطقة الكيلو 60 غربي مدينة سرت، ما أدى إلى تكدس السيارات في منطقة “الوشكة”، وهذا ترافق مع ظهور واضح لمظاهر مسلحة تابعة لمدينة مصراته في منطقتي “السدادة” و”أبو قرين” اللتين كانتا من أهم مناطق التماس خلال المرحلة الأخيرة من معركة طرابلس عام 2020.

على مستوى التحشيدات الميدانية في العاصمة ومدن أخرى، ربما أوقفت موجة المظاهرات الأخيرة الاشتباكات والمواجهات المتقطعة بين الميليشيات المتناحرة داخل العاصمة، والتي تصاعدت بعد المحاولة الثانية لدخول العاصمة من جانب حكومة فتحي باشاغا، وبات التركيز الأكبر من جانب حكومة الدبيبة منصبًا على تأمين مراكزها ومقارها، ومنع حدوث موجة خارجة عن السيطرة من الاحتجاجات في طرابلس، لذا لجأت لميليشيا “دعم الاستقرار” إلى ضبط الأوضاع وسط العاصمة، وتعاونت مع بعض الميليشيات في مدينة مصراته -مثل ميليشيا “القوة المشتركة”- لإجهاض المظاهرات هناك.

مزيد من المواقف حيال مظاهرات يوليو

تتالت المواقف الداخلية والخارجية المعلقة على التظاهرات الأخيرة، فبعد المواقف المعلنة من جانب المجلس الرئاسي وحكومتي الدبيبة وباشاغا ومجلس النواب، جاء موقف القيادة العامة للجيش الوطني التي أيدت المطالب الشعبية التي تم رفعها خلال هذه التظاهرات، محذرة في نفس الوقت من تخريب المرافق العامة والخاصة. 

اللافت في هذا الموقف كان الدعوة إلى تنظيم هذه الاحتجاجات الشعبية لتتحول إلى “حراك سلمي منظم”، مع التأكيد على أن الجيش الليبي “سيتخذ” الإجراءات الواجبة في حالة ما اذا حاول اي طرف سياسي الانفراد بالقرار الليبي، وهي لهجة تحمل رسالة مبطنة لحكومة الدبيبة وكذلك المجلس الرئاسي الذي قد يتخذ إجراءات استثنائية حيال المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب.

موقف مجلس النواب من هذه الأحداث ألقى عليه المستشار عقيلة صالح المزيد من الضوء، فقد رأى خلال تصريحات صحفية أن عملية اقتحام مجلس النواب وإحراقه قد تمت من جانب “أنصار القذافي”، وأن هذه العملية استهدفت إسقاط السلطة التشريعية، في حين أن مطالب المظاهرات كانت في الأساس -حسب رأيه- تتعلق بالسلطة التنفيذية. 

أكد صالح كذلك على ما صرح به خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، من أن الخلاف الرئيس بين الجانبين خلال مباحثات المسار الدستوري في القاهرة وجنيف، تمحور حول آلية ترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين في الانتخابات الرئاسية، لكنه في نفس الوقت نفى أن يكون قد غير وجهة نظره في هذا الملف كما قال المشري. 

كذلك انضم صالح في تصريحاته إلى الأطراف الرافضة لما لوح به السفير الأمريكي في طرابلس، ريتشارد نورلاند، حول وجود إمكانية لعقد الانتخابات العامة في ظل وجود حكومتين، فرفض صالح هذا التلويح رفضًا قاطعًا، ورأى ان الحل الأساسي للوضع السياسي القائم يكمن في ضرورة عقد القاعدة الدستورية المتفق عليها للاستفتاء الشعبي، علمًا أنها تتضمن ثماني مواد خلافية لم يتم التوصل إلى حلول حولها في اجتماعات جنيف.

تضمنت مواقف صالح الإشارة إلى التواصل الذي بدأ منذ فترة بين تركيا ومجلس النواب الليبي، حيث أشار إلى أن وفدًا من المجلس -ليس الأول من نوعه- سيزور أنقرة خلال الأسابيع القادمة، في حين سيزور المنطقة الشرقية بعد عيد الأضحى مسؤول تركي كبير، وقد رجح المستشار صالح أن دعم تركيا لحكومة الدبيبة بدأ في التقلص فعليًا لصالح احترام تكليف مجلس النواب لحكومة باشاغا.

وقد تضمن هذا القسم من تصريحات صالح هجومًا على حكومة الدبيبة التي اتهمها بأنها سبب التردي الحالي للخدمات في البلاد، مؤكدًا  أن رفض محافظ البنك المركزي تسليم حكومة باشاغا الميزانية التي أقرها البرلمان سيجعله في مرمى سحب الثقة والتحقيق، علمًا أن مجلس النواب قد أصدر بالفعل في وقت سابق قرارًا بإقالة محافظ المصرف المركزي، وتعيين نائبه محافظًا بالوكالة.

حكومة الدبيبة من جانبها علقت على تصريحات صالح، خلال الاجتماع الذي عقدته اليوم في العاصمة طرابلس على لسان نائب الدبيبة حسين القطراني الذي رأى أنه لا يجوز لصالح تحميل مسؤولية تردي الخدمات لحكومة الدبيبة، في حين أن مجلس النواب لم يقر الميزانية الي قدمها الدبيبة، وهي نقطة جدلية نظرًا إلى أن إنفاق حكومة الدبيبة الإجمالي حتى الآن -تحت بند الطوارئ- تجاوز مائة مليار دينار، ناهيك عن عدم إيقاف البند الخاص بالرواتب.

المثير للاهتمام في هذا الاجتماع هو اعتبار القطراني أن قرار الدبيبة حل مجلس إدارة شركة الكهرباء كان خاطئًا وانفعاليًا، وهو ملف كان -مثله في ذلك مثل ملف الكهرباء بشكل عام في ليبيا- شابه قصور واضح خلال الأشهر الأخيرة، بشكل يمكن عده من الأسباب الأساسية للأحداث الجارية حاليًا على الأرض.

فقد أصدر عبد الحميد الدبيبة قرارًا في مايو الماضي بوقف مجلس إدارة الشركة العامة للكهرباء عن العمل، وهو القرار الذي لم تتم ترجمته على الأرض، حيث استمر رئيس مجلس الإدارة الموقوف عن العمل -وئام العبدلي- في ممارسة مهام منصبه، بوازع من ميليشيا “الكتيبة 301 مشاة”، التي منعت رئيس مجلس الإدارة المكلف محمد إسماعيل من دخول مبنى الشركة، واضطر الدبيبة تحت ضغوط هذه الميليشيا أن يصدر قرارًا أمس بإعادة مجلس الإدارة السابق لممارسة مهامه، حتى يتم تعيين مجلس جديد في وقت لاحق.

القصور في مشهد قطاع الكهرباء الليبي لم يتوقف عند هذا الحد، فقد شهد اجتماع حكومة الدبيبة اليوم موقفًا لافتًا جمع بين وزير التخطيط المكلف محمد الزيداني وعبد الحميد الدبيبة، فقد قال الزيداني خلال الاجتماع إن إجمالي ما أُنفق على قطاع الكهرباء في ليبيا بلغ نحو 11 مليار و800 مليون دينار، من ضمنها 500 مليون دينار تم تخصيصها لاستكمال مشروع محطة الكهرباء في مدينة طبرق. واستطرد الزيداني في حديثه قائلًا إنه تم تخصيص مبلغ إضافي لقطاع الكهرباء قدره 977 مليون دينار، فقاطعه الدبيبة بشكل حاد، قائلاً إن هذه الأرقام تدين الحكومة في ناظري الأهالي الذين لا تصل إليهم الكهرباء.

وزير الداخلية في حكومة الدبيبة خالد مازن تحدث خلال هذا الاجتماع عن وجود “محرضين من خارج البلاد” يعملون على اختراق المظاهرات الحالية، مشيرًا إلى وجود تعليمات من الدبيبة لاعتقال كل من يخرج إلى الشارع، سواء في العاصمة او مدن المنطقة الغربية، وهو ما بدأ فعليًا منذ يومين. هذا التصريح يتقاطع مع بيان ميليشيا “دعم الاستقرار” التي حذرت المشاركين في المظاهرات الحالية من الاعتقال في حالة قيامهم بتخريب المنشآت العامة، علمًا أن عناصر هذه الميليشيا قاموا في اليوم الأول من المظاهرات بإطلاق النار عشوائيًا لتفريق المتظاهرين قرب مقر حكومة الدبيبة، واعتقلت بعضهم.

جدير بالذكر أن مجموعة من المواقف السياسية للأحزاب والتجمعات الليبية،ط بدأت في التكثف بشكل كبير على وقع المظاهرات الحالية، منها بيان “تحالف القوى الوطنية” الذي دعم هذه المظاهرات، وانتقد التصريحات الأخيرة للسفير الأمريكي، ودعا إلى طرح النقاط الخلافية الكبرى في مسودة الدستور على استفتاء شعبي. 

يضاف إلى ذلك بيان آخر أصدره 31 حزبًا ليبيًا أكد أيضًا على ضرورة احترام إرادة الشعب، وتنفيذ مطالبه بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في أسرع وقت، وحمّل هذا البيان مجلسي النواب والدولة المسؤولية التاريخية والقانونية عن الفشل في إقرار قاعدة دستورية والاتفاق على موعد محدد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتضمن البيان كذلك رفضًا لكل المقترحات الأخيرة التي صرح بها السفير الأمريكي في طرابلس.

أنصار القذافي كان لهم نصيب من هذه البيانات، خاصة بعد ظهور الرايات الخاصة بهم في عدة مظاهرات، فقد رفضت جبهة “النضال الوطني” التي يقودها منسق العلاقات الليبية المصرية السابق أحمد قذاف الدم اتهام المستشار عقيلة صالح، أنصار القذافي باقتحام مجلس النواب، مؤكدة أنها اعترفت بهذا المجلس ولا علاقة لها بعملية الاقتحام هذه.

حركة أخرى تنتمي إلى مناصري القذافي، وهي “الحركة الوطنية الشعبية”، قالت عبر المتحدث باسمها، إنها تدعم التحركات الشعبية الأخيرة في ليبيا، ودعت إلى توسيعها لتشمل كافة أنحاء البلاد. 

هذا التوجه انتهجه أيضًا “المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا” الذي أصدر بيانًا يدعو إلى تشكيل حكومة جديدة تعمل على تسيير البلاد حتى الوصول إلى إجراء الانتخابات، مطالبًا بإنهاء كل الأجسام السياسية والعسكرية المتصدرة للمشهد الحالي، وأعلن عن رفضه القاطع لمشروع الدستور الحالي، مطالبًا بالعمل على إيجاد قاعدة دستورية توافقية يشترك في إعدادها جميع مكونات الشعب الليبي تقام على أساسها الانتخابات.

بالنسبة للمبادرات المطروحة حاليًا لإيجاد حلول سياسية، قدم تكتل “إحياء ليبيا” مقترحًا يقضي بتسليم كافة الأجسام السياسية الحالية السلطة إلى المجلس الأعلى للقضاء، ليقوم بدوره بتشكيل ثلاث لجان تكون مهمتها إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وإدارة البلاد حتى يناير المقبل، بحيث يتم تسليم السلطة للأجسام المنتخبة بحلول ذلك التاريخ. 

يقتضي هذا المقترح أن يقوم المجلس بإصدار المراسيم والقوانين اللازمة لإجراء الانتخابات، على أن يكلف اللجنة العسكرية المشتركة بضمان الأمن على كامل التراب الليبي خلال هذه الفترة. وعلى الرغم من وجاهة هذا المقترح – من حيث المبدأ -إلا أن عراقيل سياسية وامنية وقانونية تقف حائلًا دون تحقيقه.

خلاصة القول، إن مظاهرات “جمعة الغضب” والأيام التي تلتها لم تكن تعبيرًا جديدًا عن غضب الشارع الليبي، بقدر ما كانت بمثابة دليل دامغ على نفاد الوقت المتاح أمام إيجاد حلول للأزمة الليبية. وبغض النظر عن استمرارية هذه المظاهرات أو تصاعد حدتها من عدمه، إلا أن تأثيرها سيظل محدودًا وربما أقل بكثير من مظاهرات أغسطس 2020، طالما ظل الانقسام الحكومي والأمني الحالي مستمرًا.

الأكيد أن تمسك مجلس النواب -الذي يعد عمليًا الجسم التشريعي المعترف به منذ عام 2014- بإمكانية التوافق مع المجلس الأعلى للدولة على المواد الخلافية القليلة المتبقية من القاعدة الدستورية للانتخابات، سواء عبر صيغة توافقية أو طرح القاعدة برمتها للاستفتاء الشعبي، ربما يسهم في حالة حدوثه في المدى المنظور في تحقيق اختراق يمنع من تطور الحالة الشعبية الحالية واتساعها بشكل يجعل من الصعب التعامل معه. هذا المعني يمكن النظر إليه بشكل أعمق في ضوء الاتصال الهاتفي الذي تم منذ قليل بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، كتأكيد على استمرار القاهرة في جهود البحث عن حل توافقي للانسداد السياسي الحالي في ليبيا.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى