
التنافس الروسي الفرنسي في ظل تمدد مجموعة “فاجنر” في إفريقيا
تراجع فرنسي في مناطق النفوذ الإفريقي قابله زيادة الحضور الروسي من خلال تمدد جماعة المرتزقة الأمنية “فاجنر الروسية” في القارة الإفريقية، وذلك من خلال زيادة التعاقد مع الأنظمة المسيطرة على الدول في “شمال إفريقيا، وإفريقيا الوسطي، وغرب وشرق إفريقيا” لتعزيز الأهداف الجيوسياسية العسكرية والاقتصادية الروسية في مناطق النزاع بالقارة، والتي بدأت تتسلل في مناطق النفوذ الفرنسية؛ مما دفع الأخيرة إلى مجابهة هذا التدخل، وهو ما ظهر في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول تعاقد “فاجنر” مع مالي، وأخيرًا اتهام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان يوم الأحد 17 أكتوبر الماضي بقيام مجموعة “فاجنر” بـ “الحلول مكان” سلطة الدولة في جمهورية إفريقيا الوسطى وتجريدها من قدرتها المالية، فما هي أماكن تمدد التواجد الروسي، ودوافعها، وتأثيرها على النفوذ الفرنسي.
طبيعة شركة “فاجنر”
تأسست شركة الأمن الروسية “شبه العسكرية” “فاجنر جروب” عام 2013، على يد ديمتري أوتكين، الذي كان يعمل في المخابرات الروسية سابقًا تحت اسم “فاجنر” فسميت تيمنًا به، ومقرها بطرسبرج وسجلت في الأرجنتين، ولها معسكر تدريب في موسكو، ويملكها رجل الأعمال الروسي يفجيني بريجوجين المعروف بقربه من الرئيس فلاديمير بوتين، وتشتهر بوجودها في مناطق النزاع؛ بهدف خدمة المصالح الروسية الجيواستراتيجية.
بينما لا تعترف روسيا رسميًا بأي تعاون معها؛ فظهرت كوكيل لروسيا في مناطق المنخرطة فيها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والجيوسياسية، فشهدت حضورًا مكثفًا في منذ أوائل عام 2014 في أوكرانيا، وظهرت في سوريا وليبيا وبدأت بالتوسع في جميع أنحاء القارة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة في إطار المساعي لتعزيز النفوذ الروسي في القارة.
ارتفع عدد موظفيها من 1000 عام 2016 إلى 6000 في عام 2017، وقد زادت إلى 7000عنصر، ووسعت الشركة نشاطها في القارة الإفريقية من مجرد تقديم المشاورة العسكرية وتدريب الجيوش إلى إدارة شركات التعدين والأمن السيبراني، من خلال الحصول عل امتياز استخدام الموارد الطبيعية وتزويد البلدان بالأسلحة والتكنولوجيا العسكرية بالمقابل.
واستطاعت روسيا مع حلول عام 2000، إحراز تقدم مرة أخرى مع القارة الإفريقية فتمكنت خلال العقدين الماضيين من أن تصبح أكبر مصدر للأسلحة إلى إفريقيا لتمثل نحو 49% من إجمالي صادراتها، في 21 دولة إفريقية وذلك بناء على قاعدة البيانات في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
وتنشط شركة “فاجنر” في ظل استراتيجية العولمة الأمنية التي تنتهجها القوى الكبرى في السيطرة على مقاليد النظم الحاكمة وطبيعة النظم السياسية في الدول التي تنشط بها، من خلال التنافس في تقديم ونقل الأسلحة بشكل خفي بعيدًا عن نظر القوى الدولية. في استراتيجية خشنة تزيد من تعميق النزاعات وتتبع استراتيجيات عسكرية وأمنية واقتصادية وسيبرانية للهجوم على النظام الذي يخدم مصلحة الممول مقابل تحقيق الاستقرار في البلاد.
فاستطاعت “فاجنر” بتكاليفها المنخفضة أن تنافس بعض الشركات الأمنية الخاصة في إفريقيا، وظهر ذلك على يد رجل الأعمال الأمريكي إريك دين برنس، الرئيس التنفيذي للشركة العسكرية الخاصة “بلاك وتر Blackwater USA” والرئيس الحالي لشركة “فرونتير سيرفيس جروبFrontier Services Group Ltd.” وهي شركة أمنية وخدمات لوجيستية وطيران، ولكنها تشبه مجموعة “فاجنر” بأنها قوى شبه عسكرية، ومقرها هونج كونج وتخدم حماية الاستثمارات الصينية في إفريقيا ويخدم بها عدد من القيادات الأمريكية، والذي عرض على مجموعة “فاجنر” وفقًا لصحيفة “Intercept” الأمريكية في أبريل 2020 مساعدة روسيا في موزمبيق وليبيا من خلال توفير منصات مراقبة جوية وقوى برية، وكشفت تقارير إعلامية عن اتهامها في انتهاك حظر الأسلحة على ليبيا.
تمدد نفوذ شركة “فاجنر” في إفريقيا مقابل المصالح الفرنسية
تنشط مجموعة “فاجنر” في عدة دول إفريقية وهي على سبيل المثال ليبيا والسودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وزيمبابوي، وأنجولا، ومدغشقر، وغينيا، وغينيا بيساو، وموزمبيق، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ويمكن طرح بعضها في التالي:
- ليبيا
اتهمت القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) في 24 يوليو 2020 روسيا “بلعب دور غير مفيد في ليبيا من خلال تسليم الإمدادات والمعدات لمجموعة فاجنر”، ويقابلها المرتزقة الأتراك الذين زحفوا من التواجد في سوريا إلى ليبيا لخدمة المصالح التركية في البلاد. وعلى الرغم من الموعد النهائي لرحيل المرتزقة الأجانب من ليبيا بموجب اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر، إلا أنه تستمر الدعوات لتسريع العملية دون طائل على أرض الواقع.
وكانت فرنسا من ضمن الدول الأوروبية التي دعت إلى ضرورة سحب المرتزقة الروس والأتراك من ليبيا في خطة ثلاثية، تنتهي بتشكيل جيش موحد لخدمة المصالح الفرنسية كون ليبيا الدولة المطلة على البحر المتوسط مصدرًا للهجرة غير الشرعية المتدفقة إلى القارة الأوروبية، ومنبع الطاقة الذي تتنازع عليها مع تركيا، وتهديد تحركات الناتو في المتوسط إلى جانب العمليات في الجنوب الليبي المؤثر على مناطق النفوذ الأولى للدولة الفرنسية والمتمثل في دول الساحل والصحراء.
فتحاول فرنسا إعادة التموضع في ليبيا بالعمل مع القوى الدولية لإتمام العملية الانتخابية المقرر لها ديسمبر المقبل، من خلال إعلان وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان، أن بلاده ستستضيف مؤتمرًا دوليًا حول ليبيا في 12 نوفمبر المقبل بمشاركة ألمانيا وإيطاليا في الإعداد له، ويهدف إلى ضمان تنفيذ جدول الانتخابات، وبحث خروج المقاتلين والمرتزقة الأجانب من ليبيا؛ إلا أن الوجود الروسي في سرت يهدد المصالح الأوروبية وتعطيل التحركات البحرية لحلف الناتو نتيجة بعد مدينة سرت 700 ميل فقط عن روما، كما ترفع روسيا بالفعل مطالبتها باحتياطيات النفط والغاز غير المستغلة قبالة الساحل الليبي.
- السودان
دخلت “فاجنر” السودان لدعم الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، بحسب طلب الأخير في مستهل زيارته إلى روسيا، خلال لقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود في ديسمبر 2018. وكانت قد أجرت عمليات بحث عن مواقع التعدين من خلال شركتيها الفضائيتين “Meroe Gold” و “M Invest” في عام 2017، إلى جانب حراسة مواقع تعدين الذهب واليورانيوم ومنشآت الطاقة.
وكذلك، أشرفت المجموعة على تدريب القوات المسلحة السودانية. وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى توقيع عقوبات على رجل الأعمال بريجوجين مالك مجموعة “فاجنر” ومشتقاتها؛ بدعوى تعميق الأزمة في السودان، والقيام بإجراءات تعرقل العملية الانتقالية الديمقراطية، ودعمها للأنظمة الاستبدادية، وتسهيل نقل المعدات العسكرية إلى مناطق النزاع في يوليو 2020.
وازداد التدخل الروسي من خلال الاتفاق حول إنشاء قاعدة عسكرية، وعقب الإطاحة بالبشير، جاء قرار تجميد الحكومة السودانية اتفاق إنشاء القاعدة البحرية الروسية على البحر الأحمر في ميناء بورتسودان المبرم في عهد البشير لحين المصادقة عليه من الجهاز التشريعي الذي لم يشكل بعد، حتى لا يكون السودان مسرحًا للنزاع الخارجي من الولايات المتحدة والصين وفرنسا، خاصة في ظل ما يعانيه السودان بالفعل من تحديات تقف أمام عملية الانتقال الديمقراطي والأزمات الاقتصادية، فقررت باريس في مؤتمر دعم الانتقال الديمقراطي في السودان وفقًا لإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “شطب كامل الديون المستحقة على السودان” والتي تبلغ “نحو خمسة مليارات دولار”، وتقديم باريس قرضًا للخرطوم بقيمة 1,5 مليار دولار لمساعدتها في تسديد متأخراتها من الديون لصندوق النقد الدولي.
- موزمبيق:
يخضع شمال موزمبيق لمنطقة النفوذ الفرنسي من خلال شركة توتال الفرنسية للطاقة، والتي تعمل على سواحل موزمبيق، وبدأ النزاع عندما استولت جماعة من المتمردين التابعين لتنظيم “داعش” منبثقة عن جماعة “أنصار السنة” الإرهابية والمعروفة محليًا باسم “حركة الشباب” و “أهل السنة والجماعة” و”سواحيلي السنة” والتي قادت تمردًا ضد الحكومة في أكتوبر 2017 بالسيطرة على بلدة وميناء موسيمبوا دا برايا المهم لنقل الغاز الموجود بقاعدة الغاز الرئيسية في بالما الموجودة بمقاطعة “كابو ديلجادو” الغنية بالثروات الطبيعية.
ومنذ ذلك الوقت واتسع نطاق الحرب مع تزايد قدرة داعش على تجنيد السكان المحليين المسلحين مستغلين حالة الفقر مع تأجيج مشاعر السكان ضد الشركة الفرنسية بحملة مناهضة بأنها استولت على أراضيهم، وبالتالي كانت النزعة الاقتصادية والقومية هي المحرك وراء تزايد العنف في البلاد، ففقدت الحكومة السيطرة على 3 مناطق ساحلية “كابو ديلجادو ونياسا ونامبولا”، وشهدت كابو ديلغادو تدفقًا للأصوليين المسيحيين والمسلمين ووكالات المساعدة الدينية الدولية، والدعاة الإسلاميون الجدد من شرق إفريقيا وموزمبيق والذين تلقوا تدريباتهم في الخارج.
وبالاتفاق مع حزب فريليمو الحاكم تم الاستيلاء على الثروات، ونتيجة هجمات الجهاديين على بالما أجلت شركة توتال الفرنسة أعمالها بداية هذا العام. وبالتالي أصبحت موزمبيق مسرحًا لصراع النفوذ بين فرنسا والدول الأجنبية الممولة لتنظيم داعش؛ فتقوم تركيا بحملات إعلامية مناهضة، وتعمل روسيا على تأمين منفذ وقاعدة لدعم العمليات البحرية في البحر الأحمر والبحر المتوسط من خلال توقيع اتفاق منذ 2018 بين مجموعة “فاجنر” والنظام الحاكم لحماية مصالحه من المتمردين في الإقليم عقب عدم تمكن شركتي الأمن العسكري OAM، وبلاك هووك Black Hawk نتيجة انخفاض تكلفة “فاجنر” مقابل الشركتين السابقتين.
وقد تكبدت المجموعة خسائر كبيرة هناك أمام تنظيم داعش منذ وصولها، فهي إن كانت تمثل خيارًا رابحًا في مجال صراع النفوذ والسياسة، فإن عدم معرفتها بطبيعة المنطقة ساهمت في تكبيدها هذه الخسائر. وقد تدخلت “فاجنر” كذلك في العملية الانتخابية هناك عام 2019 لمساعدة الحزب الحاكم والاستثمار في الموارد الطبيعية. وقد اتهمتها التقارير الأمنية بالقيام بعمليات تخريبية، وهو ما نفاه الكرملين.
ومن ثم، بدأت روسيا إيلاء اهتمامًا خاصًا لموانئ بربرة في أرض الصومال فافتتحت “فاجنر” مكتبًا في مقديشو عام 2019، ومصوع وعصب في إريتريا، وبورتسودان السودانية، لتأمين المصالح البحرية والمشاركة في الثروات الغنية بها تلك الموانئ، وإمكانية الوصول إلى الموانئ في جنوب إفريقيا مع موزمبيق وأجرت تدريبات بحرية مشتركة مع جنوب إفريقيا.
وتعد موزمبيق الدولة الأكثر بروزًا لنشاط داعش والتي تستخدم أسلحة متقدمة مثل الطائرات الميسرة، ويمتد الصراع إلى وسط إفريقيا في مالي إلى كوت ديفوار وبنين وبوركينا فاسو، وقد تكون دول مثل غانا والسنغال هي المرشحة بقوة لتشهد عمليات قادمة للتنظيم الإرهابي.
- مالي:
ظهرت الأعلام الروسية في أعقاب انقلاب 18 أغسطس 202 في مالي، على يد مؤيدي العمل العسكري، ووصفهم البعض بأنهم مقاتلو “فاجنر” في زي مدني، ولم تخفِ فرنسا انزعاجها من التعاون العسكري المعلن بين المجلس العسكري في مالي ومجموعة “فاجنر” لتعزيز الوجود الروسي بدعوى تخلي فرنسا عن مالي عقب خطة تقليص عدد مقاتليها في العملية العسكرية “برخان” إلى 2500 مقاتل بحلول عام 2024.
إلا أن فرنسا أعادت تموضعها في المنطقة، وحاولت الضغط الأممي بسحب هذا الاتفاق من خلال التهديد بالعزلة الدولية لمالي؛ إلا ان النزاع هناك لم يتوقف لحدود العلاقات الروسية مع مالي مقابل النفوذ الفرنسي باعتبار مالي أحد مناطق النفوذ الفرنسي، فهناك تداعيات مثل العلاقات المتوترة بين فرنسا والجزائر والتي أعلنت منع تحليق الطائرات الفرنسية عبر أجوائها للوصول إلى الساحل والصحراء؛ إلا أن الوجود الروسي بحسب تصريح وزير الخارجية الفرنسي قد لا يمثل خطرًا لافتًا لأنه يرى “حتى الآن ليس هناك دلائل على وجود خرق كبير لروسيا”؛ بينما يتمثل محور القلق الفرنسي في الكولونيل اسيمي غويتا الذي قاد الانقلاب هناك لتلقيه تدريبات في روسيا، بحسب تقارير.
وافتتحت “فاجنر” مكاتب لها في الصومال ومدغشقر وزيمبابوي، وتشاد وهي إحدى مناطق النفوذ الفرنسي كذلك، وجنوب السودان وتنزانيا، وتم اتهامها بالتدخل في العمليات الانتخابية لدعم مرشحين موالين للنفوذ الروسي.
- إفريقيا الوسطى
حاولت السلطات المحلية الوقوف أمام المتمردين الساعين إلى قلب نتائج الانتخابات الرئاسية ديسمبر 2020 بعد إصدار المحكمة الدستورية في جمهورية إفريقيا الوسطى، قرارها النهائي بالتصديق على منح الرئيس المنتهية ولايته أرشانج تواديرا ولاية رئاسية جديدة وحصوله على 53% من الأصوات والذي تولى السلطة للمرة الأولى في 2016، في ظل تشكيك المعارضة والتهديد بحصار المدينة في عملية انتخابية شكك الكثيرون في نزاهتها نتيجة المشاركة الضئيلة.
وهو الأمر الذي دفع تواديرا للاستعانة بمجموعة “فاجنر”، والتي يصفها المراقبون بأنها الذراع العسكري الخفي للكرملين، ويوجد مرتزقة مجموعة “فاجنر” في قصر بيريجو، الذي كان في السابق مقرًا للإمبراطور السابق جان بيدل بوكاسا، وقد تحول الآن إلى قاعدة عسكرية.
وتعاني البلاد من الفقر، وانزلقت إلى دوامة من العنف عقب انقلاب 2013 الذي أطاح بالرئيس فرنسوا بوزيزيه على يد حركة سيليكا، ولم يتمكن الناخبون من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، وتمكنت السلطات من استعادة قسم من أراضيها من كافة المدن الرئيسية مع بداية العام الحالي من خلال الدعم من موسكو وكيجالي الروندية اللتين استجابتا بإرسال مئات من القوات شبه العسكرية الروسية والجنود الروانديين، لكن المتمردين صعّدوا هجماتهم في الأسابيع الأخيرة على مدن بعيدة عن العاصمة بانجي.
وتشير التقارير إلى وجود هذه القوات التابعة لمجموعة “فاجنر” منذ 2018 لكن موسكو أوفدت قوات إضافية بشكل كثيف في نهاية ديسمبر الماضي لمساعدة الرئيس فوستان أرشانج تواديرا، لتصل إلى حوالي 2300 مقاتل، لحمايته في العملية الانتخابية عقب التهديد بمحاصرته من قبل متمردي الجماعات المسلحة المجتمعة ضمن “تحالف الوطنيين من أجل التغيير”، والتي شنت هجومًا واسعًا في ديسمبر 2020 لمنع إعادة انتخاب الرئيس تواديرا.
لماذا تكررت التصريحات الفرنسية حول إفريقيا الوسطى؟
تعد إفريقيا الوسطى ساحة نزاع فرنسي روسي، فقد بدأ التوتر الفرنسي مع إفريقيا الوسطى في ظل تجميد فرنسا مساعدتها لموازنة إفريقيا الوسطى وتعليق التعاون العسكري الثنائي حسبما أوضحت وزارة الخارجية الفرنسية والتي تبلغ 10 ملايين يورو “إلى أجل غير مسمى”، وفي بداية مايو تم ايقاف الفرنسي خوان ريمي كينيولو وبحوزته أسلحة حربية في بانجي، بتهمة “التجسس” و”التآمر” و”المساس بأمن الدولة”.، واتهامه بصلته بجماعة “سيليكا” النشطة في الشمال.
ذلك وسط اتهام حكومة تواديرا بالتواطؤ لصالح روسيا في الحملة الإلكترونية المناهضة لفرنسا، والتي تصفها فيها بأنها “المستعمر الجديد” الذي يدعم المتمردين، فيما تصور روسيا بأنها الشريك الموثوق الذي يستند على مبدأ المعاملة بالمثل مقابل فرنسا ذات الطموح السياسي والعسكري في البلاد، ودلل الجانب الفرنسي على ذلك إزالة موقع فيسبوك في ديسمبر الماضي شبكتين من الحسابات المزيفة مقرهما روسيا لأشخاص مرتبطون بـ”وكالة أبحاث الانترنت” الروسية ورجل الأعمال يفجيني بريجوجين وواحدة “مرتبطة” بالجيش الفرنسي، قال إنها تستخدم في حملات التدخل في إفريقيا، بما في ذلك في جمهورية إفريقيا الوسطى. بينما تنظر إفريقيا الوسطى لروسيا بأنها فرصة للحصول على الأسلحة يجب انتهازها، وأن فرنسا ليس لديها الوصاية فيما يتعلق باختيارها لحلفاؤها في ظل تراجع التأييد الفرنسي.
وتوقع الخبراء أن تعود الأمور إل التهدئة عقب استقالة رئيس الوزراء فيرمين نغريبادا المعروف بأنه رجل روسيا والعقل المدبر للتقارب بين البلدين في 10 يونيو الماضي، وتعيين هنري ماري دوندرا المعروف بأنه أقرب إلى فرنسا، إلا أن هذه الخطوة لن تعيد الثقة المتوقعة بل أعاد وزير الخارجية الفرنسي لودريان تصريحاته حول شروع روسيا بـ “الاستيلاء على السلطة” وخاصة السلطة العسكرية في جمهورية إفريقيا الوسطى، مما اضطر فرنسا الإعلان في يونيو على اتخاذ “تدابير لسحب عدد من أفراد فرنسا العسكريين وسحبهم من البلاد”، هذا إلى جانب قرار الأمم المتحدة بسحب الكتيبة الجابونية العاملة ضمن بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في جمهورية إفريقيا الوسطى (مينوسكا)، بعد مزاعم عن استغلال وانتهاك جنسيين من قبل الكتيبة.
جدير بالذكر، أنه عقب الإطاحة بالرئيس السابق فرانسوا بوزيزيه المدعوم من جماعة “أنتي بالاكا” المسيحية على يد مسلحو تحالف “سيليكا” -أغلب عناصره من المسلمين- في 2013، فدخلت البلاد -ثاني أقل البلدان نموًا في العالم- في حرب أهلية تقوم على التأجيج العاطفي الطائفي من أجل تحقيق أهداف سياسية والسيطرة على الحكم في البلاد.
وتولى الرئاسة زعيم جماعة “سيليكا” أول رئيس مسلم ميشال دجوكوديا، فدخلت البلاد في حرب عرقية بين المسلمين والمسيحيين مما أدى إلى مقتل الآلاف ونزوح نحو 20% من السكان، فتقدم باستقالته وتم تنصيب الرئيسة المؤقتة سامبا بانزا، في ظل الجهود الدولية وهو ما تسبب في تدخل القوات الفرنسية والإفريقية لإيقاف الحرب وبسط الاستقرار، فعًظم الوجود الفرنسي خلال الفترة ما بين 2013-2016 وقام بالتعاون مع القوات الإفريقية الموجودة في البلاد وقام بنزع أسلحة أكثر من 7 آلاف من مقاتلي “سيليكا”، ووضعهم في ثكنات مختلفة بالعاصمة بانجي.
واستطاعت روسيا فك الحظر الصارم الذي دعمته فرنسا في الأمم المتحدة على الأسلحة في إفريقيا الوسطى منذ عام 2013، لتنجح خلال 2019-2021 في الحصول على إعفاءات أممية لتسليم الدولة أسلحة صغيرة، ولم تتمكن الحكومة المحلية من التوصل لسلام دائم في ظل سيطرة الجماعات المسلحة على معظم أجزاء البلاد، حتى عقب توقيع حكومة إفريقيا الوسطى اتفاقية مع عدة مجموعات مسلحة مع الوعد بدمج بعض المقاتلين في وحدات الجيش الجديدة وقادتها في الحكومة في فبراير 2019 عقب محادثات جرت في العاصمة السودانية الخرطوم ودامت نحو أسبوعين، وأخيرًا رحبت الجماعات المتمردة بقرار وقف إطلاق النار من جانب واحد من قبل السلطات المحلية، إثر الاتفاق على خارطة طريق مشتركة للسلام في البلاد، والتي تم تبنيها في اجتماع رؤساء الدول خلال القمة المصغرة لمنظمة “لمؤتمر الدولي لمنطقة البحيرات الكبرى”، الذي عُقد في 16 سبتمبر الماضي، في لواندا عاصمة أنجولا.
أما عن الوجود الروسي الحالي في الدولة، فلا تعترف روسيا رسميًا سوى بوجود 1135 “من المدربين غير المسلحين” تم الإعلان عنهم على هذا النحو للأمم المتحدة، في ظل رفضها التعليق على وجود قوات شبه عسكرية من شركات روسية أمنية لتوفير الحماية المقربة للرئيس تواديرا وحماية مناجم التعدين، وسط تنديد أممي وفرنسي؛ فقد استهجن الرئيس الفرنسي ماكرون الخطاب المناهض لفرنسا في مايو 2021، واعتبره وسيلة لإضفاء الشرعية على وجود المرتزقة الروس على رأس الدولة، بوجود مئات المسلحين من مجموعة “فاجنر” الأمنية.
وأرسلت روسيا 4 جنرالات إلى العاصمة بانجي لتقديم المشورة العسكرية وفتح مكتب عسكري بالعاصمة بانجي مع تولي الروسي فاليري زاخاروف منصب مستشار الأمن القومي للرئيس تواديرا، وتمت إقالة وزير الخارجية “شارل أرميل دوبان” بسبب عدم موافقته على النفوذ الروسي غير المبرر، وسط دعم موسكو بشكل معلن للرئيس تواديرا؛ إذ وقعت معه مؤخرًا اتفاق تعاون عسكري، بالتزامن مع عودة 5 عسكريين فرنسيين يقدمون استشارات عسكرية لوزارة الدفاع في إفريقيا الوسطى في أبريل الماضي، وتعليق التمرينات العسكرية المشتركة.
وتعدى الوجود الروسي الشكل العسكري، بل عبرت فرنسا عن قلقها من النفوذ القوي لروسيا منذ عام 2018 في نظام الرئيس فوستان أرشانج تواديرا مع الوجود الدائم لمئات العناصر من جماعة “فاجنر”، ومن هيمنة شركات روسية على الذهب والألماس في البلد. ورأى المراقبون أن مجموعة “فاجنر” تقوم على نهب ثروات البلاد من خلال الحديث عن حماية مناجم الذهب والألماس في جمهورية إفريقيا الوسطى وتصادر بعض الإيرادات المتلقاة من خلال هذه المناجم، في الوقت الذي عبرت فيه مجموعة من خبراء الأمم المتحدة عن مخاوف بشأن أنباء بحدوث “انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان” و”إعدامات جماعية” و”تعذيب” من قبل القوات شبه العسكرية الروسية.
تعد إفريقيا الوسطى كذلك منطقة إمداد اقتصادي حيوية للجانب الفرنسي، ولها شركة تابعة وهي “أريفا” التي تعمل في تحويل اليورانيوم من جنوب البلاد إلى فرنسا، فضلًا عن استغلال الثروات الأخرى المتمثلة في الألماس والذهب والنحاس.
ويبدو أن الخاسر الأوحد في الصراع الروسي الفرنسي هي الشعوب الإفريقية بوصفها منصة للحرب بالوكالة لتوسيع النفوذ الجيوسياسي، والمتمثل في الدوافع السياسية والاقتصادية والسيطرة على الموانئ الغنية بالثروات الطبيعية، فظهر التمدد الروسي من خلال التواجد شبه العسكري عن طريق شركة “فاجنر” في مناطق النفوذ الفرنسي الغنية بالثروات الطبيعية للدولة الإفريقية والتدخل الخارجي الذي زاد من عمليات العنف الداخلي، ودعم بعض مصالح النظم الحاكمة دون النظر لمصالح الشعب الإفريقي، والذي ساهم في تأجيج الوضع الداخلي، واستمرار الفتن الطائفية والعرقية، مقابل محاولات فرنسية للحفاظ على مصالح شركاتها في المنطقة أو استعادة مناطق نفوذها القديم، وهو ما ينذر بعدم استقرار داخلي إفريقي دون رغبة حقيقية من الدول في استغلال مصالح سلطوية واقتصادية تعمق من مساحات الفقر لدى الشعوب الإفريقية.
باحثة بالمرصد المصري