
جهود مستميتة للقضاء نهائيًا على التعديات على نهر النيل والمجاري المائية
“قلة وصول المياه إلى بعض الأراضي الزراعية” باتت شكوى متكررة خلال الآونة الأخيرة بين المزارعين، لها تفسيراتها المختلفة، لكن في الحقيقة، فان الأمر لا يقف على عند سبب أو تفسير وحيد، فالتحدي المائي يؤثر فيه متلازمة من الأسباب والمؤثرات. أبرزها:
- التغيرات المناخية: وهي إحدى المؤثرات الطبيعية، التي لا دخل مباشر للإنسان فيها، لكنها تؤدي إلى إحداث تغيرات مناخية وحرارية متطرفة كالسيول وموجات الحرارة والجفاف، وبالتالي تغيير إيراد النهر، هذا إلى جانب رفع منسوب سطح البحر.
- الموارد المائية: وفي هذا النوع من المؤثرات نجد أن المواطن له تدخل بشكل أو بأخر في هذا المؤثر، ومن أبرزها:

محدودية موارد المياه في ظل زيادة سكانية مضطردة، فمصر تعاني من الفقر المائي منذ عقود، نتيجة ارتفاع أعداد السكان المضطرد مع ثبات حصة مصر المائية بنهر النيل – خاصة وأن نهر النيل هو المصدر الرئيسي للمياه بمصر- منذ 1959 عند 55.5 مليار متر مكعب سنويًا، وفقا لاتفاقية تقسيم المياه عام 1959، بل إنها مهددة بالنقصان نتيجة التصرفات الأحادية لبعض الدول.

وساهم في تدهور الوضع المائي قِدم شبكة الترع والمصارف المائية، الأمر الذي تحاول الدولة علاجه حاليًا من خلال مشروع تبطين الترع ورفع كفاءتها، هذا بخلاف ضعف الجانب التشريعي، فالتشريعات الحامية لمياه نهر النيل يرجع تاريخها إلى حوالي 40 سنة، وتقتصر فقط على التعدي على مياه النيل من خلال القاء الصرف الصحي وصرف المصانع، أو إلقاء المخلفات الصلبة بالنيل، ولم يتطرق القانون أو لائحته التنفيذية إلى حالات الردم التي تعرض لها النيل خلال العقود الأخيرة.
فقد اقتصرت المادة الثانية من القانون 48 لسنة 1982 بشأن حماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث على التأكيد على “حظر صرف أو إلقاء المخلفات الصلبة، أو السائلة أو الغازية من العقارات والمحال والمنشآت التجارية والصناعية والسياحية ومن عمليات الصرف الصحي وغيرها في مجاري المياه على كامل أطوالها ومسطحاتها إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الري في الحالات ووفق الضوابط والمعايير التي يصدر بها قرار من وزير الري بناءً على اقتراح وزير الصحة ويتضمن الترخيص الصادر في هذا الشأن تحديد المعايير والمواصفات الخاصة بكل حالة على حدة. ولم تحدد عقوبات صارمة لمخالفة ذلك.
حاولت الدولة اتخاذ عدة خطى للتصدي لأزمة الفقر المائي كإعادة استخدام المياه، والتشغيل المستدام والنظيف للمياه الجوفية كتشغيل الآبار بالطاقة الشمسية، وتبني مشروع تأهيل وتبطين الترع والمساقي بمحافظات الجمهورية المختلفة، حيث شمل المشروع ترع بأطوال ٩٥٢١ كيلومترا حتى 18 أكتوبر 2021 ، وتم الانتهاء بالفعل من تأهيل ترع بأطوال تصل ٢٩١٠ كيلومتر، كما تم طرح مساقى بأطوال ٤٦٦ كيلومترا ، وتم الانتهاء من تأهيل مساقي بأطوال ٢٦ كيلومترا ، وجاري العمل في باقي الأطوال. ومن المستهدف تبطين 7000 كم بنهاية 2022. هذا إلى جانب إنشاء وتدعيم محطات الرفع والقناطر ومرافق الري لإدارة السيول والسيطرة على آثار تغير المناخ.
لكن يبقى التحدي الأكبر وهو تعدد وتراكم التعديات على حرم النيل لسنوات وكانت سبب رئيس في تغير شكل المجاري المائية الفرعية، مسببة انخفاض حجم المياه المار من خلالها، والتأثير على شكل الزراعة. وعدم السيطرة على التعديات على حرم النيل في أسرع وقت قد تكون سبب تضاعف الأزمة وبالتالي خسارة مزيد من الرقعة الزراعية. فكان يمر من خلال فرع رشيد 80 مليون متر مربع، لكن مع تراكم التعديات أصبح المار من خلاله حوالي 30 مليون متر مربع فقط.

فقد بلغ إجمالي التعديات على حرم النيل المحررة منذ 2015 وحتى نهاية أغسطس الماضي حوالي 776 ألف حالة تعدي، تم إزالة حوالي 584 ألف منها ويتبقى 192 ألف حالة تعدي تحتاج لإزالة.

تنتشر حالات التعدي بـ 24 محافظة وكان لمحافظات البحيرة والغربية والمنوفية، النصيب الأكبر من عدد التعديات، وفقًا “لعداد النيل” الذي يرصد موقف إزالة التعديات على جسور نهر النيل والمجاري المائية يوميًا. وفي أخر بيان لوزارة الموارد المائية ليوم 18 أكتوبر 2021 أعلنت إزالة ٧٩٨٣ حالة تعد على مساحة ١.٧٠ مليون متر مربع تقريبا.
ويبلغ إجمالي أعداد التعديات المستهدف إزالتها حوالي ١٦٥٠٨١ حالة تعد على مساحة ١٩.٣٥٧ مليون متر مربع تقريبا. ليكون إجمالي أعداد التعديات المتبقية حوالي ١٥٧ ألف حالة تعد على مساحة ١٧.٧٠ مليون متر مربع تقريبًا. وجار تنفيذ هذه الحملات، طبقا لتكليفات رئيس الجمهورية، بإزالة التعديات على نهر النيل والمجاري المائية، في غضون ٦ أشهر.
وسجل عداد النيل، إزالة 56173 حالة تعد على مستوى قطاع حماية وتطوير نهر النيل، و١٤٦٧٦٢ تعديا على مستوى قطاع الري، و77728 تعديا على مستوى هيئة منافع هيئة الصرف، وذلك منذ انطلاق حملة إنقاذ نهر النيل في 5 يناير 2015. وتنوعت الإزالات بين مبان خرسانية أو مبان بالطوب الأحمر، أو أسوار أو تشوينات أو زراعة جسور المصارف أو ردم بالجسور أو قطع جسور المصارف، وتوصيل مواسير لصرف المخلفات.
وثيقة النيل

وتوجيهات الرئيس السيسي الأخيرة بضرورة إزالة التعديات على نهر النيل بشكل نهائي، لم يكن التدخل الأول من جانبه، فسبق ووقع على وثيقة النيل التي أعلن فيها انضمام سيادته للجنة حراس النيل التي تستهدف حماية النهر الخالد من التعديات والتلوث وحفاظا عليه كمصدر وحيد للحياة في مصر.
فقد كان حريصًا على أن تنطلق تلك الحملة على المستوي الشعبي، وذلك بالتوازي مع الجهود الرسمية للدولة من خلال معالجة مياه النيل وإزالة تعديات البناء من على ضفافه، وبهدف زيادة وعي المواطنين وحثهم على الحفاظ على نهر النيل سواءً من التلويث أو التعديات، وإعمالًا لنصوص الدستور الذي أكد التزام الدولة بحماية نهر النيل والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به.
واختتمت الوثيقة بما يلي: ” فإنني كرئيس للجمهورية وكمواطن مصري أدشن الحملة الشعبية لإنقاذ نهر النيل وأعلن انضمامي للجنة “حراس النيل” لحماية النهر من التعديات والتلوث، حفاظًا على مصدر الحياة الوحيد في مصر.”
وقد انطلقت الوثيقة فعليا في 5 يناير 2015 خلال الملتقى السنوي التاسع لمنظمات المجتمع المدني، وجاءت في ظل الهجمة الشرسة التي يتعرض لها نهر النيل، حيث حضر هذا الملتقى أكثر من 170 جمعية أهلية بالقاهرة والمحافظات وخبراء العمل الأهلي في مصر. وأكدت الحملة جديتها بتنفيذ عدد من إزالات حالات، أبرزها إزالة أول منشأ حكومي مخالف على نهر النيل، وهو فندق تابع لمحافظة المنيا، كما تم هدم عدد من المباني التابع ملكيتها لمسئولين سابقين، وهو ما يؤكد جدية الحملة، وعدم التهاون مع أي مخالفة.
حملات إزالة التعديات الأخيرة حظت باهتمام وإشادة الاعلام الدولي، باعتبارهم متابعين لأزمة مصر المائية فسبق أن أشاد موقع “المونيتور” الأمريكي بحملات إزالة التعديات وكل أشكال البناء غير القانوني على مجرى نهر النيل في مصر، لافتا إلى أن ذلك ينبع حرص الدولة على الحفاظ على حصتها من مياه النيل وسط معركتها الشرسة مع اثيوبيا.
وختامًا، يمكننا القول أن أجهزة الدولة بذلت جهود حثيثة في إزالة التعديات التي تمت خلال العقد الأخير، ومازال أمامها الكثير في استرجاع أراضي الدولة، لكن ما يحتاج إلى مزيد من الجهد بشكل حقيقي هو رفع الوعي العام للمواطنين بخطورة الممارسات التي يبدو بعضها بأنها بسيطة، لكن أدى تراكمها إلى فقدان ملايين المترات. ووضع إطار قانوني لتغليظ العقوبات بشأن الممارسات المستحدثة التي لم يتناولها القانون كالتعدي على نهر النيل.
باحث أول بالمرصد المصري