
“لوكاشينكو” أمام ثورة حقيقية أم مؤامرة غربية؟
يقول الرئيس البيلاروسي، “ألكسندر لوكاشينكو”، مُتحدثًا عن مُعارضته الرئيسية، “سفيتلانا تيخانوفيسكايا”، “أنا لا أتقاتل مع النساء، ولا أريد أن أصفها بأي شكل من الأشكال بأنها قائدة للمعارضة” ، مضيفا: “أن زعيم المعارضة الحقيقي هو من يعيش في هذا البلد وله وجهات نظر مختلفة ولا يوجد أشخاص بهذا الوصف في بلادنا، إنهم هناك إلى جانبك، أنت من تدفعهم”.
جاء ذلك، ردًا على سؤال، موجه إليه من محاوره، “ماثيو تشانس”، خلال آخر مقابلة له بثتها شبكة “سي.إن.إن“، عندما قال له “تشانس”، إن الرئيس الأمريكي بايدن التقى بتيخانوفيسكايا التي يعتبرها خصومه في الغرب، رئيسا فعليا للبلاد، بينما لم يلتق بايدن به حتى الآن.
برز اسم “سفيتلانا تيخانوفيسكايا” خلال العام الأخير على الساحة السياسية الدولية، وتعامل معها الغرب باعتبارها الرئيس الفعلي للبلاد بينما لا يزال “لوكاشينكو” مُصرًا على اعتبار أن ما حدث كان مؤامرة غربية على بلاده. لكن ماذا عن المعارضين الآخرين؟ تُرى كيف كانت مصائرهم؟ وما هي حقيقة “سفيتلانا تيخانوفيسكايا” وإلى أين وصلت في فترة ما بعد الاحتجاجات؟ وما هو موقف الشعب من الرئيس ومن كل ذلك؟
“سفيتلانا تيخانوفيسكايا”.. من يدعم ربة المنزل التي تحولت إلى سياسية شهيرة؟!
عاشت “سفيتلانا تيخانوفيسكايا” حياة يغلب عليها طابع الهدوء فيما قبل انهماكها في الحياة السياسية. فقد حصلت على تعليمها العالي في جامعة “إيفان شامياكين” التربوية في موزير وكان يُفترض بها أن تعمل كمُعلمة لغة انجليزية أو ألمانية فيما بعد التخرج.
وطرأ على حياتها حدث محوري، تمثل في لقائها بزوجها “سيرجي تيخانوفستي” لأول مرة في ملهى ليلي بمدينة موزير عندما كان عمرها لايزال 26 عامًا. وذكرت تيخانوفسكايا نفسها أنها لم تكن تُخطط للزواج قبل بلوغها الثلاثين من عمرها، لكن ما حدث هو أنها وقعت في الحب لذلك ارتبطت بزوجها الحالي منذ عام 2005، عندما كانت لاتزال طالبة بالفرقة الرابعة، وتزوجا بعد مرور عام بالضبط، ثم انتقلا إلى مينسك بعد ولادة ابنهما.
ولا تُنكر السياسية –وليدة اللحظة- المُثيرة للجدل أنها لم تكن مهتمة بالسياسة قط، وأن المرة الوحيدة التي حدث وأن أبدت فيها اهتمامًا بالسياسة، تلك كانت تتمثل في أنها ذهبت ذات مرة للإدلاء بصوتها في صناديق الاقتراع بمجرد بلوغها سن الرشد وعندها أدلت بصوتها للوكاشينكو!
وتُمثل لحظة ترشحها للرئاسة، مُنعطفًا محوريًا آخرًا في حياتها، ذلك أنها تقدمت بأوراق ترشحها للجنة المركزية للانتخابات في 15 مايو 2020. بعد أن جاء قرار ترشحها عوضًا عن زوجها، الذي رفضت اللجنة المركزية قبول أوراقه بسبب إجراءات روتينية.
وبعد ذلك، انضم إلى فريقها “ماريا كولسنيكوفا” المنسقة السابقة لأحد منافسي لوكاشينكو المُعتقلين، و”فيرونيكا تسيبكالو”، زوجة المنافس الرئاسي غير المسجل “فاليري تسيبكالو”، والذي أجُبر على مغادرة بيلاروس. ومن ثم توالت الأحداث بعد ذلك، وسارت بعد ذلك بوتيرة متسارعة للغاية، وصولاً إلى لحظة الاحتجاجات وفرارها من البلاد باتجاه ليتوانيا وما تلي ذلك.
وتلك كانت هي نفس اللحظة التي أقسم “لوكاشينكو” نفسه بأولاده، مؤكدًا أنها لم تهرب الى أي مكان، وكل ما بالأمر أنها طلبت منه اصطحابها الى الحدود الليتوانية، وهذا ما تم بالفعل. وبوجه عام، أحيطت أجواء الانتخابات برمتها بأجواء احتجاجية صاخبة، وتم تتويج “تيخانوفسكايا” باعتبارها بطلة قومية، والرئيس الفعلي للبلاد.
وفي ليتوانيا، بدأ الغرب بإجراء اتصالاته العلانية معها والتي كان من ضمنها زياراتها المتكررة لألمانيا عندما لم يكن العام 2020 نفسه يكد أن ينتهي بعد. وكانت “تيخانوفسكايا” قد أعلنت عن إنشاء مجلس تنسيقي يضمن نقل السلطة إليها في 14 أغسطس 2020. وبدأت بانتقاد النظام الروسي علانية، ووصفت الروس بأنهم عدوانيون وخطيرون على العالم، ثم أخذت في مقارنة النظام السوفيتي بنظام هتلر، رغم أنها سبق وأن نشرت مقالاً عن الثائر “فيليكس دزيرزينسكي” أبدت من خلاله إعجابها بالنظام السوفيتي.
في 19 أغسطس2020 ، قرر دول الاتحاد الأوروبي في قمة طارئة، عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية. وعلاوة على ذلك، قرروا مساعدة المعارضة البيلاروسية بمبلغ تصل قيمته الى 53 مليون يورو، يتم تخصيصها لمساعدة منظمات المجتمع المدني ومكافحة فيروس كورونا. كما أعلنوا عن اعتزامهم فرض عقوبات على النظام البيلاروسي وأبرز اشخاصه بسبب قمع المتظاهرين.
وفي 20 أغسطس 2020، ظهر في الصورة الصحفي والفيلسوف الفرنسي، “برنارد ليفي”، الذي سافر إلى العاصمة الليتوانية فيلنيوس خصيصًا لأجل عقد لقاء مع “تيخانوفسكايا”. ولمن لا يعرف من هو “برنارد ليفي”، نقول إنه الرجل الذي لا يظهر في مكان وإلا تحولت احتجاجاته السلمية بسرعة البرق إلى مذبحة! إنه مهندس الثورات الملونة ونذيرها، الذي اشتهر بأنه من دعا الناتو لقصف يوغوسلافيا، وكان هو أيضًا من دعم ثورة الورود في جورجيا بعام 2003، ولا يُخفى على أحد دوره البارز في قلب احتجاجات ليبيا وسوريا السلمية الى حروب أهلية دموية. ويُذكر في هذا السياق، أن تفاصيل الاجتماع بين “تيخانوفسكايا” و”ليفي” لم يُنشر ولم يُفصح عنه حتى الآن.
وبالانتقال إلى أهم أحداث 2021 بالنسبة لـ “تيخانوفسكايا”، نجد أن زيارتها للبيت الأبيض ولقاءها بالرئيس الأمريكي “جون بايدن”، بتاريخ 28 يوليو هو الأبرز على الإطلاق. وفيما يتعلق بتفاصيل اللقاء، فقد كان ذلك لقاءً وجيزًا لم يتجاوز الـ 15 دقيقة. ووفقًا لما قالته تيخانوفسكايا بعد ذلك، فإن ذلك كان لقاءً وديًا دافئًا أشبه الى التعارف. كما أنها خرجت بعد اللقاء لتُخبر وسائل الإعلام أن الرئيس بايدن قدم لها كعكة، فردت هي مُرحبة بالكعكة وقالت له “كيف عرفت أنني لم أتناول افطاري هذا الصباح”! وقد سَبِق هذا اللقاء، عدد من اللقاءات الرسمية التي جمعت بين “تيخانوفسكايا” وعدد من المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى.
كانت “تيخانوفسكايا” قد وصلت إلى الولايات المتحدة، 19 يوليو 2021، بناءً على دعوة رسمية من وزارة الخارجية. وقد تبادلت النقاشات خلال اجتماعاتها مع المسؤولين الأمريكيين، حول قضايا عدة مثل اختطاف طائرة ريان إير، والهجمات التي يشهدها المجتمع المدني ووسائل الإعلام، فضلاً عن الهجرة الغير شرعية إلى ليتوانيا التي يتيحها النظام البيلاروسي.
ودعت “تيخانوفسكايا”، الولايات المتحدة إلى منح وسائل الإعلام البيلاروسية المستقلة حزمة مساعدات طارئة، بالإضافة الى رفع مستوى الضغط السياسي والاقتصادي على النظام. وأبدت “تيخانوفسكايا”، تأييدها لأن تلعب الولايات المتحدة الامريكية دور الوسيط في المفاوضات التي كان من المحتمل انعقادها بين مينسك والمعارضة، كما دعت واشنطن إلى دعم منظمات المجتمع المدني والتي تتعرض للقمع في بيلاروس. وكان تفاصيل لقائها الأخير مع بايدن مثارًا لسخرية رواد مواقع التواصل الاجتماعي من متحدثي اللغة الروسية.
“لوكاشينكو” والمعارضة السياسية.. باع طويل من تحركات مُثيرة للجدل!
فيما يتعلق بالتعامل مع مُعارضيه، يتمتع “لوكاشينكو” بسجل حافل لمصائر مُعارضيه التي لطالما انحصرت في الغالب بين إما الاختفاء أو القتل، بينما كان السجن دائمًا هو المصير الأقل وطأة من بينهم. والقائمة في ذلك طويلة وحافلة ومُتشعبة، يضيق الأفُق عن النظر في تفاصيلها، لذلك سنكتفي بالتوقف هنا عند أبرز محطاتها.
ويُعد السياسي البيلاروسي اللامع “فيكتور جونتشار” واحدًا من أكثر السياسيون المحبوبون في تاريخ بلاده، فقد ترافقت مسيرته أوصافًا كثيرة لطالما أطلقها عليه محبوه مثل ذكي وكاريزمي وغيرها. وتقلد مناصب عدة من ضمنها نائبًا لرئيس الوزراء، ومن ثم الأمين العام للمحكمة الاقتصادية الرئاسية، وغيره.
وكان “جونتشار” واحدًا من هؤلاء الذين دعموا تقليص السن التي يُتاح للمرء فيها تولي منصب رئيس بيلاروسيا وجعلها تتراوح ما بين 35 إلى 40 عامًا فقط عندما كان “لوكاشينكو” يبلغ من العمر آنذاك نحو 39 عامًا فقط.
وبالرجوع إلى عام 1996، عارض “جونتشار” تعديلات الدستور، وبصفته رئيسًا للجنة الانتخابات المركزية، رفض كذلك الاعتراف بنتائج الاستفتاء. لذلك تم عزله من منصبه ولم يُسمح له بدخول مقر اللجنة. ومضى بعد ذلك في مسيرة معارضته، حتى اختفى تمامًا من دون أن يترك ورائه أي أثر في مساء 16 سبتمبر 1999. ولم يتعرض وحده للاختفاء، بل اختفى رفقة صديقه رجل الأعمال “أناتولي كراسوفسكي” ويظل مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة. وكل ما هو معروف، هو أنه تم العثور في موقع الاختطاف المزعوم على آثار دماء وآثار مكابح سيارات وشظايا زجاج مكسور على الأسفلت. لكن سرعان ما أعلنت السلطات أنه لا علاقة لها بهذا الأمر، وبدأت الصحف الحكومية تنشر معلومات تفيد بأن “جوتشنار” قام بتزييف اختطافه حتى يتمكن من الهرب إلى خارج البلاد.
وقبل ذلك ببضعة أشهر فقط، كان مساعدًا سابقًا آخرًا للرئيس “لوكاشينكو” قد تعرض لحادثة اختفاء مُريبة لم يُزاح الستار عن أغوارها حتى اللحظة. والحديث يدور عن “يوري زاخارينكو” وزير الداخلية السابق، الذي اختفى في مينسك بالعام نفسه، بعد أن تمت إقالته من منصبه وتخفيض رُتبته من لواء إلى عقيد وفصله من وزارة الداخلية بعد خلاف وقع بينه وبين الرئيس “لوكاشينكو”. وكان الوزير السابق قد اتجه للمعارضة النشطة بعد أن تمت إقالته من مهام منصبه.
وفي مساء 7 مايو 1999، بينما كان “زاخارينكو” يسير من موقف السيارات إلى منزله. روى شهود عيان أن رجلين ذوي شوارب اقتربا منه ودفعاه في سيارة زرقاء داكنة، وكان ذلك هو آخر مرة ظهر فيها “زاخارينكو” على قيد الحياة، ولا يُعرف مصيره الحقيقي حتى الآن، وكل ما هو منشور يتعلق بأقاويل تناثرتها وسائل إعلامية بين الفينة والأخرى تؤكد جميعها أنه قُتل وتم التخلص من جثته بطريقة او بأخرى.
موقف الشعب من “لوكاشينكو”
في عام 1994، عندما كان “لوكاشينكو” بصدد انتخابه رئيسًا لأول مرة، كان الناس في بلاده يعانون من الجوع والمرارة. وكان هو يظهر في مشهد الشخص المفوه الذي نبت من بين فلاحي “بيلاروس”، وقدم نفسه باعتباره الشخص الذي باستطاعته الدفاع عن حقوق الفقراء والمستضعفين واستعادة النظام. لقد رأى الناس فيه صورة لشخصية قيادية ذكية بمقدورها قيادة البلاد إلى الأمام.
وحقيقة الأمر، لا يُمكن القول إن مواطني “بيلاروس” يعانون من مشكلات اقتصادية ضخمة تدفعهم إلى الغضب حد الغليان، كما أنه لا يمكن الجزم وفي الوقت نفسه بأنهم يعيشون في مستوى رفاهية مُرتفع. بل من الأجدر القول، أنهم يعيشون في مستوى متوسط لا يتخطى كونه “عاديًا للغاية”. وذلك نظرًا، لأن “لوكاشينكو” لا يحكم بلدًا تحتوي على الكثير من الموارد التي تسمح لها بالفعل بأن تُحقق مستويات عالية من الدخل القومي. لذلك فإن الدعم الروسي سيظل دائمًا هو عِماد الاقتصاد البيلاروسي، الذي يعيش على استيراد النفط من روسيا بأسعار مخفضة، وتكريره في مصافيه، ومن ثم إعادة بيعه مرة أخرى بعد إضافة سعر مناسب يُحقق مكسب للاقتصاد عليه.
ومن ناحية أخرى، يعد الرئيس البيلاروسي واحدًا من الشخصيات الرائدة التي تتعرض للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي البيلاروسية. كما أنه لا يُمكن الاستناد بشكل أكيد إلى أي استطلاع رأي شعبي قد أجري بحقه، وذلك بفعل القيود القانونية التي تفرضها بلاده على إجراء استطلاعات الرأي الموثقة.
إذ أن القانون البيلاروسي يُحرم على الكيانات القانونية إجراء أي استطلاعات رأي سياسية من دون الحصول على موافقة مسبقة من وزارة الداخلية، على أن يتم تغريم من يتجاوز هذا القرار بمبلغ 2700 روبل، قد تصل إلى 5400 روبل في حالة تكرار المخالفة.
وقد سبق وأن ذكرنا آنفًا أن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة التي شهدتها البلاد في 2020، لم تكن هي الأولى أو الوحيدة. لكن سبقتها بالفعل حركات احتجاجية تزامن بعضها مع انتخابات الرئاسة بـ 2010 عندما حدثت مسيرة احتجاجية ضخمة تزامنت مع اليوم المقرر لانتخابات الرئاسة في 19 ديسمبر 2010. وألقى في أعقابها القبض على مئات المتظاهرين، وسُجن أكثر من 30 ناشطًا، بما في ذلك منافسين “لوكاشينكو” على الرئاسة. كما شهدت الانتخابات الرئاسية في 2015، مسيرة احتجاجية اشتملت على قرابة 1500 متظاهر تجمعوا في وسط مينسك بناء على دعوة من قادة المعارضة، مطالبين باستقالة الرئيس وإجراء انتخابات حرة من دون تزوير. وفي انتخابات الرئاسة لعام 2020، حدث ولا حرج، فقد شهدت البلاد برمتها حشودا من المحتجين تابعتها أعين الصحافة العالمية بالإجماع.
لكن في قفزة أخرى قد تبدو غير منطقية، نجد أن محاور قناة “سي.إن.إن” “ماثيو تشانس” وفي خلال حديثه الأخير، للرئيس البيلاروسي، ذكر أنه سار في شوارع بيلاروس وعرف نفسه للمواطنين بشكل عشوائي أملاً في أن يوافق أحدهم على التحدث إليه عن أوضاع البلاد، ومبادلته حديثًا ولو بسيط عن آرائه السياسية، لكن وفقًا له، “رفض الجميع”! وبهذه الطريقة، نقف لنتساءل حول الموقف الحقيقي للشعب البيلاروسي من النظام. هل هم خائفون؟ أم انهم امتنعوا أملاً في تجنب أي مشكلات محتملة مع النظام؟! وإذا كان الأمر كذلك، لما إذًا وكيف اندلعت كل هذه الاحتجاجات في المقام الأول؟! وهو ما يقودنا إلى أسئلة على غرار تُرى إذا كيف يثور شعب “بيلاروس”، ولماذا؟ وما هي مُحركاته؟ وهل من الممكن اعتبار “تيخانوفسكايا” بالفعل بطلة قومية ووقودًا حقيقيًا لثورة الوطنية؟
نظرة تحليلية
بادئ ذي بدء، وبالتمعن في شخصية “سفيتلانا تيخانوفسكايا”، فإنه من غير الممكن اعتبارها شخصية سياسية وطنية من الأساس. وذلك نظرًا لعوامل عِدة، أولها يقف عند انعدام تأهيلها السياسي وعدم قدرتها على الإطلاق على إدارة بلد برمتها مثلما كانت تُخطط له، وكان يرمي إليه الغرب. وثانيها، يقف بالتساؤلات الكثيرة عند مستقبلها وطبيعة تحركاتها فيما بعد مغادرتها للبلاد لأول مرة باتجاه ليتوانيا في أغسطس 2020.
لا شك إذا، أن “لوكاشينكو” ديكتاتور يتشبث بالسلطة بسبب أو بدون سبب. لكن مما لا شك فيه أيضًا، أن شخصية المعارضة البارزة تُثير العديد من الشكوك التي لم يتم اماطة اللثام عنها بعد. والأمر هنا لا يتعلق فقط بطبيعة تحركاتها فيما بعد مغادرتها البلاد فحسب، بل أنه يتشعب ليطال من موسكو نفسها كذلك. وعند هذه النقطة، نُعيد إلى الأذهان، اضطراب العلاقات بين موسكو ومينسك فيما قبل احتجاجات 2020 على خلفية ما يُمسى بأزمة “المناورة الضريبية”. ونُذكر كذلك، الاتهامات التي وجهتها مينسك إلى موسكو بأنها أرسلت بضعة عناصر من المرتزقة الروس فاجنر الى “بيلاروس” قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أملاً في زعزعة الأوضاع وتهديد استقرار البلاد، وهؤلاء قد تم القبض عليهم بالفعل بتاريخ 33 يوليو 2020، ولم يتضح بعد طبيعة أو تفاصيل المهمة التي كانوا قد حضروا للبلاد للضلوع بها من الأساس. وبسؤاله عن الأمر خلال لقائه الأخير، أكد “لوكاشينكو” لمحاوره الأمريكي “تشانس” أن هؤلاء كانوا بالفعل عناصر من المرتزقة فاجنر، لكنه في الوقت نفسه لم يُفصح عن سبب تواجدهم في البلاد بهذا التوقيت تحديدًا!
كما أن التغير الجذري في موقف “تيخانوفسكايا” من موسكو وآرائها بالنظام الروسي، يُثير تساؤلات عن الأمر نفسه كذلك. ونقول، من يدري، ربما كانت “تيخانوفسكايا” من الأساس عميلة لصالح موسكو تهدف لإخضاع “لوكاشينكو”، وعندما تغيرت الأوضاع بعد ذلك تحولت انتماءاتها واتجهت بدلاً عن ذلك نحو الغرب، الذي أراد القفز على الموقف لأجل محاربة موسكو بنفس السلاح الذي سبق وأن حاربوه بها في خلال الثورة الأوكرانية، التي اعترف الرئيس الأمريكي الأسبق، “باراك أوباما”، بأن بلاده أنفقت خمسة مليارات دولار لتمويل “الحركة الديموقراطية الأوكرانية”، والإطاحة بالرئيس السابق “فيكتور يانوكوفيتش” –الموالي لروسيا- وإيصال الأمور هناك إلى ما صارت عليه في مواجهة مباشرة مع رفاق الأمس.
وربما أيضًا –في ضوء اعتراف باراك أوباما السالف ذكره- أن الغرب كان حاضرًا منذ البدايات الأولى، وكان لاعبًا أساسيًا في جذور اندلاع هذه الاحتجاجات المتأججة، وأن الوجود الروسي كانت له أسباب أخرى لم يتم كشف الستار عنها بعد.
والحقيقة أن الاحتمالات المطروحة كثيرة ومتنوعة، لكنها بالإجماع تؤكد أن هذه لم تكن ثورة جماهيرية وطنية صافية تخلو من أي تدخلات خارجية. ومن الحقيقي أيضًا، أن احتجاجات 2020 لم تكن لتبلغ هذا الحد الجنوني من التأجج لولا تدخل الشرطة البيلاروسية العنيف، واستفزازاتها للمحتجين، الذين تم الاعتداء عليهم بالضرب.
كما أنه، ومما لا شك فيه، أن “تيخانوفسكايا” لم تكن يومًا -ولن تكون- امرأة مؤهلة لقيادة أي بلد سواء أن كبرت أم صغرت. والأمر هنا لا يتعلق بكونها امرأة، بل بكونها غير مؤهلة لهذا المنصب ولا تمتلك حتى أدنى خطط قد تساعدها على ذلك، في حالة نجاحها. لكن الغرب لا يكترث لمدى تأهيلها، أو حتى لحقيقة أن الدعم الشعبي الذي حصلت عليه، لم تحصل عليه إيمانًا من الشعب البيلاروسي بجدارتها للمنصب، بقدر ما كان ذلك نابعًا من كونها المرشح الوحيد المنافس للوكاشينكو.
بمعنى آخر، لو كان يوجد هناك أي منافس آخر في محلها، لكان حصل على نفس الدعم. كما أن صورتها كامرأة ظهرت على العلن في موقف ضعف تمد يدها طلبًا للعون لنفسها ولأطفالها من الجموع الغفيرة، كان عاملاً أساسيًا في تحفيز الاحتجاجات، التي نقول مرة أخرى أن الشخص الموجود في محلها لو كان رجلاً، محتملا بنسبة كبيرة، لم لينجح في تأجيج مشاعر الجموع الغاضبة بنفس الدرجة.
وعلاوة على كل ذلك، من الممكن اعتبار الدعم الغربي لتيخانوفسكايا بأنه أمر مثير للجدل، يقود الى تساؤلات حول ماهية النظام الديموقراطي الغربي، الذي تسعى الدول الغربية لتطبيقه بالقوة وبالتمويل المالي العملاق كذلك –وفقًا لاعتراف أوباما المذكور أعلاه- والذي لا يكترث الغرب لأجله لمدى أهلية الشخص الجالس على كرسي الرئاسة طالما أنه يخدم المصالح الغربية! والسؤال هنا، هل يسعى الغرب لوضع شخص غير مؤهل على الإطلاق على سدة الحكم في بلاده حتى يقودها إلى حافة الهاوية فقط أملاً في محاربة النفوذ الروسي في المنطقة؟ وهل يستدعي تطبيق النموذج الديمقراطي الغربي في أي بلد، سواء أوكرانيا أو بيلاروس أو أي دولة أخرى، أن توفر دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية دعما ماليا عملاقا مماثلا له؟! ألا يُفترض بالنظام الديمقراطي الغربي أنه بالأساس “نظام”، بكل ما تحمله كلمة “نظام” من معنى، أي أنه يفترض أن يكون باستطاعته تطبيق نفسه بنفسه بدون الحاجة إلى أي مخططات أو دفع من قوى خارجية وتوفير تمويلات عملاقة؟! وتُرى ما هي حقيقة القيم الديموقراطية الغربية المزعومة وراء هذا النظام الذي يُبذل له كل هذا الجهد والمال والدعم بغض النظر عن حجم وطبيعة الضرر الذي سيلحق ببلدٍ ما وشعبها بلا طائل من ورائه؟
باحث أول بالمرصد المصري



