علوم وتكنولوجيا

تقليص “أبل” إنتاجها من “أيفون ١٣”.. انعكاس لأزمة تكنولوجية عالمية تلوح في الأفق

كشفت جائحة “كورونا” عما يدور خلف الأبواب المغلقة في عالم التكنولوجيا بعدما لاحت، أزمة الرقائق الإلكترونية – التي ظهرت خلال الآونة الأخيرة نتيجة لتعطل حركة التجارة العالمية بسبب الإجراءات الاحترازية ونتيجة لتأثر سلاسل القيمة للعديد من الصناعات المختلفة كالسيارات والإلكترونيات – في الأفق. هل كنت تتوقع يومًا ما أن تعلن شركة كبيرة مثل شركة “أبل” العملاقة التي تنتج سنويًا ملايين الأعداد من تليفون “الأيفون” بتقليص مبيعاتها بالرغم من الأرباح والإيرادات السنوية المرتفعة!

لم يكن هناك من يتصور أن تسفر أزمة الرقائق الإلكترونية عن إحداث أزمة حقيقة في مجال الصناعات التكنولوجية بصفة عامة وشركة أبل بصفة خاصة. وذلك بالرغم من الشائعات التي ظهرت في يوليو الماضي والتي كانت تفيد بتوقع شركة أبل حدوث تباطؤ في إيراداتها بسبب أزمة الرقائق التي تؤثر على قدراتها الإنتاجية ومبيعاتها. 

ما هو قرار شركة آبل الأخير؟ ما هو أسبابه؟

قررت شركة آبل  – التي تقدر قيمتها تريليوني دولار والتي تنفق ٥٨ مليار دولار سنويًا على الرقائق – مؤخرًا تقليص إنتاجها من هاتف آيفون ١٣ إلى عشرة ملايين جهاز، وهذا بخلاف تصريحها السابق الذي أفاد بأنها ستنتج وستطرح ٩٠ مليون جهاز بنهاية هذا العام أي ما يعادل ١١٪؛ حيثُ أبلغت الشركة مصنعيها بشأن تقليص عدد الأجهزة بسبب عدم قدرة الشركات الموردة للرقائق الإلكترونية مثل شركة برودكم (Broadcom) وتكساس إنسترومنتس (Texas Instruments) من توفير الرقائق الإلكترونية التي تستخدم في صناعة العديد من منتجات الشركة ومنها أجهزة الكمبيوتر المحمول (ماك) والشاشات اللوحية (الأيباد). وذلك على الرغم من قدرة الشركة على تجاوز أزمة الرقائق الإلكترونية بسبب قدراتها الشرائية العالية وصفقاتها طويلة الأمد مع موردي الرقائق الإلكترونية، وبالرغم من اعتماد الشركة على موردين أخرين للرقائق الإلكترونية المستخدمة في هاتف آيفون ١٣ وأيفون ١٣ برو (Iphone 13 Pro) 

أزمة الرقائق الإلكترونية: 

لاحت في الأوفق منذ فترة وجيزة نقص الرقائق الإلكترونية التي تستخدم في صناعة السيارات والإلكترونيات، وهو ما أدى إلى اضطرار العديد من الشركات مثل تويوتا التي حذرت في وقت سابق من انخفاض إنتاجها إلى ٤٠٪ وفورد وفولفو لإبطاء أو إيقاف إنتاجها من السيارات بشكل مؤقت، وهو ما أدى بدوره إلى تكالب الشراء على السيارات المستعملة نظرًا لعدم توافر السيارات الجديدة التي تعتمد على الآلاف من الرقائق. إلا أن هذه الأزمة بدأت منذ فترة طويلة حتى قبل تفشي الجائحة.  ويعود نقص الرقائق الإلكترونية لأسباب عدة، ناهيك عن تفشي جائحة كورونا، ومنها زيادة الطلب على تقنيات الجيل الخامس (5G). وإلى جانب الأسباب السالفة الذكر، هناك أسباب تتعلق بالتصنيع؛ حيثُ يتم إنتاج رقائق بسمك 200 مم         و300 مم، وهو ما يعني أن قطر الرقائق المصنوعة من السليكون قد انقسم للعديد من الرقائق الصغيرة. ولكن في الوقت نفسه، تزايد الطلب على الرقائق الإلكترونية بسمك 200 مم، مما يعني أن نقص هذا النوع من الرقائق الأرخص والتي تستخدم في العديد من الصناعات والمنتجات قد بدأ منذ فبراير ٢٠٢٠.  ومع تفشي الجائحة ازداد الأمر سوءا مع تذبذب الطلب على الرقائق الإلكترونية؛ حيثُ لجأت بعض الشركات المصنعة للإلكترونيات لتخزين كميات كبيرة من الرقائق الإلكترونية وقيامها بشرائها مقدمًا، وهو ما أحدث نقص في الرقائق وتعثر بعض الشركات الأخرى، لاسيما مع تزايد اعتماد الناس على الإلكترونيات لأداء أعمالهم من المنزل. وبالإضافة إلى ذلك، أدى نشوب حريق في منصع باليابان وإعصار تكساس الذي أسفر عن إغلاق المصانع المنتجة للرقائق الإلكترونية وموجة الجفاف في تايوان التي تسببت في نقص المياه التي يعتمد عليها بشكل أساسي في صناعة الرقائق الإلكترونية. كما أن ارتفاع تكاليف الشحن والحاويات في جميع أنحاء العالم فاقم من المشكلة نتيجة للتغير المفاجئ في أثناء الجائحة. فعلي سبيل المثال، تصل تكلفة الشحن للحاوية الذي يصل إلى ٤٠ قدم من أسيا لأوروبا لـ١٧,٠٠٠ دولار أي بزيادة تصل إلى عشرة أضعاف مقارنة بالعام الماضي. عندما كانت تصل التكلفة إلى ١٥٠٠ دولار فقط، حسب أحد الخبراء المعنيين لأسواق الشحن العالمية بـ(S&P Global Platts).

ومن المفارقة، أن مبيعات الرقائق قد تزايدت خلال ٢٠٢٠ بنسبة ٦.٥٪ مقارنة بالفترة من ٢٠١٨ و٢٠١٩ واستمرت في الارتفاع خلال ٢٠٢١؛ حيث كانت المبيعات في مايو الماضي زادت بنسبة ٢٦٪ مقارنة بالعام الماضي، حسب جمعية لصناعة الرقائق (the Semiconductor Industry Association) 

الأبعاد الجيوسياسية للأزمة:

في أوج الصراع بين الولايات المتحدة والصين، أصدرت واشنطن، التي تنتج ما يقرب من ١٠٪-١٢٪ فقط من الرقائق الإلكترونية التي تستخدمها، قرار بحظر بيع الـ semiconductors وغيرها من التقنيات لشركة هاواي الصينية وبمنع نقل الخبرة الفنية الأمريكية (know-how) للشركات الصينية التي توردها للجيش الصيني؛ حيثُ كانت تغزو الرقائق الإلكترونية المصنعة في الصين الأسواق خارج الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن الولايات المتحدة لا تزال تحتكر تصميم المكونات، بينما تسيطر كل من تايوان وكوريا الجنوبية صناعة الرقائق الإلكترونية؛ حيثُ تمثلان ٨٣٪ من صناعة الرقائق المخصصة لمعالجة البيانات Processor chips و٧٠٪ من الرقائق الخاصة بالذاكرة (memory chips)، حسب تقديرات أحد الخبراء الاقتصاديين. ولذا، هناك مخاوف لدى الأمريكان وحث ١٥ عضوا بمجلس الشيوخ الرئيس بايدن لاتخاذ إجراء لتحفيز الإنتاج المحلي من الرقائق في المستقبل، وذلك لتراجع نصيب أمريكا في الإنتاج العالمي للرقائق الذي قد وصل إلى ٣٧٪ في ١٩٩٠. من ثم، أثر ذلك على قوة أمريكا التكنولوجية وهو ما يؤدي بدوره إلى وجود عواقب على الأمن القومي والاقتصادية لكونه هذه الصناعة تعد هي القطاع الخامس في أمريكا من حيث التصدير، فضلاً عن أنها توفر ما يقرب من ربع مليون وظيفة مباشرة وما يزيد عن مليون وظيفة غير مباشرة.  

ونتيجة لهذا الصراع بين الصين والولايات المتحدة، ستعمل بكين على مواصلة وتكثيف جهودها بأن تصبح الدولة مكتفية ذاتيًا من إنتاج الرقائق الإلكترونية تحت أي حال من الأحوال وسيدفعها لتوحيد البلاد مع تايوان الرائدة في إنتاج الرقائق الإلكترونية.   

آفاق حل الأزمة وأثارها على الصناعة والتكنولوجيا:

ومن المؤسف، أن هذه الأزمة قد تستمر لعامين على الأقل حسبما يري المديران التنفيذيان لشركة إنتل (Intel) وأي بي إم (IBM) أو لأعوام عدة حسبما ترى سيدا ميمك؛ أستاذ الحاسبات والمعلومات بجامعة نورث ويسترن، التي ترى أن تحقيق التوازن بين العرض والطلب، لاسيما في ظل صعوبة إنشاء مصانع جديدة لإنتاج الرقائق الإلكترونية بسبب التكاليف الباهظة وبسبب الحاجة لوجود عمالة مدربة، فضلاً عن أن قد يدفع الشركات المنتجة للرقائق الإلكترونية برفع سعرها.

صناعة السيارات: قد تخسر صناعة السيارات – التي تستهلك الرقائق الإلكترونية بما يقدر بـ٣٧ مليار دولار – ٢١٠ مليار دولار من مبيعاتها خلال عام ٢٠٢١ فقط، حسب توقعات شركة آليكس بارتنرز للاستشارات (AlixPartners Consultancy)؛ حيثُ تضطر شركات السيارات لوقف أو تقليل إنتاجها خاصة أن الأمر قد يستغرق ٤٠ أسبوعًا لكي تحصل شركات السيارات على الرقائق الإلكترونية، يرى أحد منتجي الرقائق الإلكترونية. كما قد تضطر الشركات المصنعة للسيارات رفع أسعار السيارات نظرًا لقلة المعروض.  كما نجد، على سبيل المثال، أن التوقعات بشأن إنتاج السيارة جاجور لاند روفر قد انخفض للنصف خلال عام ٢٠٢١.

ونظرًا لاستمرار الأمة خلال العام الجاري، انخفضت مبيعات السيارات في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، إلى ١٦.٨٪ خلال شهر أغسطس الماضي. وحسب البيان التالي، يتضح أن معدلات الإنتاج قد تراعت بشكل ملحوظ خلال الأسبوع أول من سبتمبر.    

ولكن الوضع مختلف في الصين؛ حيثُ ارتفعت مبيعات السيارات الصينية الصنع وزادت حصة الشركات المصنعة في السوق إلى ٤٣,٣٪ خلال التسع أشهر الماضية أي بزيادة تصل إلى ٦,٧٪ مقارنة بنفس الفترة في العام الماضي. كما ارتفعت صادرات الصين من المركبات الخفيفة بنسبة ٧٨٪ خلال نفس المدة، مما يشير إلى استطاعة الصين للتكيف مع الأزمة الحالية.

صناعة الإلكترونيات: أسوة بصناعة السيارات تضررت صناعة الإلكترونيات من أزمة الرقائق الإلكترونية؛ حيث ُ اضطرت شركة آبل لتأجيل طرح جهاز آيفون ١٢ لمدة شهرين عن الموعد المقرر لطرحه خلال العام الماضي. كما أعلنت شركة سوني في وقت سابق من هذا العام أنها قد لا تحقق المبيعات المخططة لجهاز PS5 خلال هذا العام. وكذلك، أعلنت شركة سامسونج؛ أكبر مشتر للرقائق الإلكترونية بعد شركة آبل وثاني أكبر منتج للرقائق الإلكترونية والتي تبيعها ما بقدر بـ٥٦ مليار دولار، عن تأجيل طرح هاتفها الذكي في الأسواق.

الخطوات التي تم اتخاذها لتجاوز الأزمة:

وفي محاولة لتخفيف الأزمة وتجنب حدوث ذلك، تعمل كلاِ من الشركات المصنعة للرقائق الإلكترونية مثل شركة TSMC التايوانية على ضح استثمارات تصل إلى ١٠٠ مليون دولار على مدار السنوات الثلاث المقبلة. في حين أن شركتي سامسونج وإس كيه هاينكس (SK Hynix)، إلي. جانب الحكومة في كوريا الجنوبية تعهدوا بضح استثمارات تصل إلى ٤٥١ مليار دولار لزيادة القدرة على إنتاج الرقائق ولتقديم حوافز للشركات المصنعة للرقائق. 

وكذلك، أعلنت شركة UMC  في أبريل الماضي أنها ستنفق ٣,٥ مليار دولار على مدار ثلاث سنوات لتوسيع مصانعها. وأعلنت شركة سامسونج عن تشغيل خط إنتاج الرقائق الإلكترونية ٥ نانوميتر بمجمع بيونجاتيك بكوريا الجنوبية خلال النصف الثاني من العام الجاري.

كما أن هناك دعوات لإعادة توزيع تلك الصناعة بين الدول، بما فيها الدول الغربية لتخفيف الأزمة وتقليل الضغط على سلاسل القيمة للعديد من الصناعات في العالم ولتقليل الاعتماد على تايوان وكوريا الجنوبية. فنجد أن أمريكا مررت قانون بدعم من الحزبيين الديمقراطي والجمهوري لتوفر تمويل يقدر بـ٥٢ مليار دولار لإنتاج الرقائق الإلكترونية.  

وختامًا، يمكن القول إن نقص الرقائق الإلكترونية ما هو إلا انعكاس لحرب تجارية وتكنولوجية بين الصين التي تستورد كميات كبيرة من الرقائق الإلكترونية والولايات المتحدة؛ حيثُ. تسعى كلاً منهما أن تصبح رائدة في مجال التكنولوجيا، لاسيما الرقائق الإلكترونية التي باتت تدخل في العديد من الصناعات.

مما يعني أن أزمة الرقائق الإلكترونية لا تقتصر على كونها مادة خام تستخدم في العديد من الصناعات، بل إنها تؤثر على العديد من الصناعات الرئيسية كالسيارات التي تؤثر على حصة الدول في الإنتاج العالمي. فمن ثم، يؤثر على قوتها الاقتصادية وعلى قدرتها في صنع القرار العالمي على الصعيدين السياسي والاقتصادي. كما أن هذه الأزمة تعكس مدى تأثيرها على الأمن القومي للدول؛ حيثُ إنها توفر العديد من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يؤثر على استقرار الدولة الاقتصادي والسياسي.

كما تعكس هذه الأزمة اختلاف الرؤى بين الدول حول السياسات الاقتصادية. فنجد مثلاً أن هناك دولا تقدم حوافز كبيرة للشركات. بينما لم تقدم دول أخرى حوافز كبيرة. ولذا، ترى شركة إنتل أنه من الضروري التوسع في تقديم حوافز ودعم للشركات الأمريكية من أجل المنافسة مع الشركات الأجنبية.  

وبناء على ما سبق، من غير المتوقع أن تنتهي هذه الأزمة في الأجل القريب ما لم يتم إعادة توزيع صناعة الرقائق الإلكترونية على مستوى العالم لضمان استمرار سلاسل القيمة ولتقليل الاعتماد على مصادر محدودة. كما أنه في خضم الحرب التجارية والتكنولوجية بين أمريكا والصين، من المتوقع أن تحدث أزمات مماثلة في المستقبل.

المصادر:

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى