علوم وتكنولوجيا

جدري القردة.. هل نواجه أزمة جائحة عالمية جديدة؟

أعلن الدكتور تيدروس أدهانوم جيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، يوم الأربعاء 14 أغسطس 2024، تفشي جدري القردة كطوارئ صحية عالمية تثير قلقًا دوليًا، حيث انتشر بشكل كبير في وسط إفريقيا ونتج عنه حوالي 500 حالة وفاة، الأغلبية العظمى منهم في جمهورية الكونغو الديمقراطية، هذا بالإضافة إلى بداية ظهور حالات مصابة بالفيروس في دول في أوروبا وآسيا أيضًا، وهو ما تسبب في اضطراب عالمي وازدياد في القلق من تطور الوضع ليصبح أزمة مشابهة لأزمة جائحة فيروس “كورونا” التي أثرت على دول العالم كلها بشكل سلبي وتسببت في الكثير من الخسائر المادية والبشرية، مما أثار الكثير من الأسئلة حول أسباب انتشاره ومدى خطورته، وكيف تتعامل الدول، خاصة مصر، مع الوضع الحالي للتصدي له.

نشأة جدري القردة

جدري القردة، وهو مرض فيروسي يسببه فيروس جدري القردة، معروف للعلماء منذ عقود، حيث اكتُشف الفيروس لأول مرة في الدنمارك عام 1958 لدى قرود احتُجزت لأغراض البحث، وتعود أول حالة إصابة بشرية بفيروس جدري القردة أُبلغ عنها لصبي يبلغ من العمر تسعة أشهر في جمهورية الكونغو الديمقراطية في سبعينيات القرن الماضي. في البداية، كان المرض محصورًا في المقام الأول في دول وسط وغرب إفريقيا، وينتقل إلى البشر من خلال الاتصال الوثيق بالحيوانات المصابة مثل القوارض والقردة.

وعلى مدار التاريخ، كانت فاشيات جدري القردة متفرقة وصغيرة الحجم نسبيًا، لكن في عام 2022، ظهر تفشٍ عالمي، يتميز بانتشار سريع وواسع النطاق للفيروس، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية تفشي المرض حالة طوارئ صحية عامة ذات أهمية دولية في يوليو 2022، وهو ما كان يُعتبر تطورًا غير مسبوق ويشير إلى تطور خطورة الموقف. وقد ساهمت عدة عوامل في الانتشار السريع لجدري القردة في عام 2022، حيث كان أحد العوامل الرئيسية هو زيادة التنقل العالمي، مما سهّل النقل السريع للفيروس عبر القارات. بالإضافة إلى ذلك، أظهر الفيروس درجة أعلى من انتقال العدوى من إنسان إلى إنسان مقارنة بالفاشيات السابقة، وخاصة من خلال الاتصال الجسدي الوثيق.

كان قرار منظمة الصحة العالمية بإعلان حالة طوارئ صحية عامة دولية قائمًا على عدة عوامل حاسمة؛ أولاً، شكّل الانتشار الجغرافي السريع والواسع النطاق للفيروس تحديًا كبيرًا للأمن الصحي العالمي. ثانيًا، استلزم الفهم المحدود نسبيًا للمرض، بما في ذلك ديناميكيات انتقاله ومظاهره السريرية، استجابة دولية منسقة. ثالثًا، أثار احتمال انتقال العدوى بشكل مستدام من إنسان إلى إنسان مخاوف بشأن قدرة الفيروس على ترسيخ نفسه كمرض متوطن جديد.

واستجابةً للتفشي حينها، اتخذت منظمة الصحة العالمية عدة خطوات، بما في ذلك تقديم الإرشادات بشأن الوقاية والتشخيص والعلاج، وتنسيق جهود المراقبة العالمية، ودعم البحث والتطوير للقاحات والعلاجات. ويضاف إلى ذلك، تأكيد المنظمة على أهمية التواصل بشأن المخاطر والمشاركة المجتمعية لمعالجة المعلومات المضللة المحيطة بالمرض. وبالرغم من أن تفشي جدري القردة العالمي أظهر علامات تباطؤ بعدها، إلا أنه استمر في تشكيل تهديدًا كبيرًا للصحة العامة، وهو ما ظهر مؤخرًا بعد زيادة تفشي الفيروس في وسط وغرب وشرق إفريقيا الوسطى، هذا بالإضافة إلى أنه على مدار الأيام الماضية، وفي أعقاب إعلان منظمة الصحة العالمية، تم الإعلان عن وجود بعض الحالات المصابة بالفيروس في دول خارج إفريقيا، مثل السويد في أوروبا، وباكستان في آسيا.

الأعراض والعلاج والوقاية

يتسبب جدري القردة في علامات وأعراض تظهر عادةً في غضون أسبوع، ولكن يمكن أن تظهر بعد يوم واحد إلى 21 يومًا من التعرض للفيروس. وتستمر الأعراض عادةً لمدة تتراوح من أسبوعين إلى 4 أسابيع. وغالبًا ما تبدأ بـ:

  • الحمى
  • الصداع
  • آلام العضلات
  • آلام الظهر
  • قشعريرة
  • التعب
  • بعد بضعة أيام، يظهر طفح جلدي، غالبًا ما يبدأ على الوجه ثم ينتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم.
  • قد تشمل الأعراض الأخرى تضخم الغدد الليمفاوية والتهاب الحلق واحتقان الأنف والسعال.

وعلى الرغم من أن جدري القردة لم يُكتشف حديثًا، إلا أنه لا يوجد علاج محدد له حتى الآن، ولكن الرعاية الداعمة يمكن أن تساعد في إدارة الأعراض، مثل الحصول على قسط كبير من الراحة، والحفاظ على رطوبة الجسم، وتناول مسكنات الألم المتاحة، وفي الحالات الشديدة، يمكن التفكير في تناول الأدوية المضادة للفيروسات. ويكون الاعتماد الأكبر في التعامل مع الفيروس هو الوقاية منه، وتتضمن الوقاية من جدري القردة تجنب الاتصال الوثيق بالأشخاص الذين يعانون من طفح جلدي يشبه جدري القردة، ومن المهم أيضًا تجنب الاتصال بالحيوانات التي قد تكون مصابة. ويضاف إلى ذلك بعض التدابير الوقائية الأخرى، والتي تشمل ممارسة نظافة اليدين بشكل دوري، والتطعيم ضد الفيروس.

ومن الضروري ملاحظة أن وضع جدري القردة يتطور باستمرار، وقد تتغير التوصيات والإجراءات الوقائية، فبالرغم من أنه لا يشكل خطورة كبيرة، طبقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، إلا أنه يشكل خطورة كبيرة على الأفراد الذين يعانون من ضعف المناعة، والسيدات الحوامل والأطفال، حيث أن الأشخاص الذين يعانون من ضعف المناعة هم أكثر عرضة للإصابة بالمضاعفات الشديدة لجدري القردة التي قد تصل إلى الوفاة.

الاستجابة العالمية لتفشي جدري القردة

لقد نفذت البلدان في جميع أنحاء العالم درجات متفاوتة من التدابير لاحتواء انتشار جدري القردة. في البداية، ركزت العديد من الدول على المراقبة وتتبع المخالطين، على غرار الاستراتيجيات المستخدمة أثناء جائحة فيروس “كورونا”. ومع تكثيف تفشي المرض، تم سن خطط استجابة أكثر شمولاً. كانت البلدان الأفريقية، حيث الوباء هو الأكثر حدة، في طليعة الأزمة، حيث أعلن المركز الأفريقي لمكافحة الأمراض والوقاية منها حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا قاريًا في 13 أغسطس 2024، مما يؤكد التحديات الفريدة التي تواجه القارة والحاجة إلى استجابة مخصصة. وعانت العديد من الدول الأفريقية من محدودية الموارد والبنية الأساسية للرعاية الصحية، مما جعل احتواء الفيروس صعبًا بشكل خاص.

وعلى الجانب الآخر، تمكنت الدول ذات الدخل المرتفع، والتي تتمتع بأنظمة رعاية صحية أكثر قوة، من إدارة تفشي المرض بشكل أكثر فاعلية، حيث أعطت هذه الدول الأولوية لحملات التطعيم، وخاصة تلك التي تستهدف الفئات السكانية المعرضة للخطر. كما كانت الحملات الصحية العامة التي تؤكد على أهمية الممارسات الآمنة والنظافة فعالة في التخفيف من انتشار المرض. وكان التعاون الدولي حاسمًا في الاستجابة العالمية لفيروس جدري القردة، ولقد لعبت منظمة الصحة العالمية دورًا محوريًا في تنسيق الجهود وتقديم الإرشادات ودعم البلدان المتضررة، وشاركت منظمات مثل الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في الاستجابة على أرض الواقع، حيث قدمت الإمدادات الأساسية والدعم للمجتمعات المتضررة.

الإجراءات المصرية للتصدي للفيروس

طبقت مصر نهجًا استباقيًا لمنع دخول وانتشار جدري القردة داخل حدودها، ولم تظهر حتى الآن أي حالات مصابة بالفيروس. أيضًا كانت استجابة وزارة الصحة والسكان المصرية في مقدمة الاستجابة العالمية، وشملت التدابير الرئيسية المتخذة:

  • المراقبة المعززة: حيث كثفت الوزارة المراقبة في جميع نقاط الدخول، بما في ذلك المطارات والموانئ البحرية والمعابر البرية، لفحص الركاب القادمين بحثًا عن أعراض جدري القردة.
  • الاستعداد للحجر الصحي: حيث تم وضع أقسام الحجر الصحي عند نقاط الدخول في حالة تأهب قصوى لعزل وإدارة أي حالات مشتبه بها على الفور.
  • حملات التوعية العامة: أكدت الوزارة أيضًا على الاستعداد لإطلاق حملات توعية عامة لتثقيف الجمهور حول أعراض جدري القردة وطرق انتقاله والتدابير الوقائية اللازمة.
  • تدريب مقدمي الرعاية الصحية: حيث تلقى المهنيون الطبيون تدريبًا على الكشف المبكر وتشخيص وإدارة حالات جدري القردة.
  • التعاون مع منظمة الصحة العالمية: تحافظ مصر على تعاون وثيق مع منظمة الصحة العالمية للبقاء على اطلاع بأحدث التطورات والمبادئ التوجيهية.

ورغم أن مصر نجحت حتى الآن في منع دخول الفيروس، إلا أن البلاد تظل متيقظة، وتستمر وزارة الصحة في مراقبة الوضع عن كثب وهي مستعدة لتعديل استجابتها حسب الحاجة.

وفي النهاية، فإن الخطورة الأكبر لفيروس جدري القردة تكمن في سهولة وسرعة انتشاره، ولكن هذا لا يعني أنه من المفترض الدخول في حالة من الذعر والقلق الشديد من تكرار سيناريو فيروس “كورونا”، خاصة وأن طبقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، فهذا الفيروس ليس بنفس خطورة “كورونا” من حيث الخطر على الحياة، باستثناء من يعانون من ضعف أو أمراض في جهاز المناعة. ولكن لا يجب أيضًا الاستهانة بالأمر بأي شكل من الأشكال، حيث أن انتشاره بصورة كبيرة ما زال خطيرًا، بالإضافة إلى أن انتقاله من شخص لآخر في غاية السهولة، فمن المفترض اتخاذ الإجراءات الوقائية واتباع تعليمات منظمة الصحة ووزارة الصحة، ومتابعة المستجدات التي تظهر مدى وأماكن انتشاره لمحاولة الحد من دوائر الانتشار الخاصة بالفيروس. وفي حالة اتباع كافة الإجراءات الوقائية ووعي حكومات كافة الدول، وبالتالي شعوبها، بأهمية هذه الإجراءات سيكون من غير المرجح أن نواجه جائحة عالمية جديدة.

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى