أوروبا

الطامحون النوويون.. رهانات تحالف “أوكوس” في الحد من الانتشار النووي

لا تزال أزمة الغواصات النووية بين فرنسا وأستراليا وما تبعها من تأسيس تحالف أمريكي بريطاني استرالي جديد عبر اتفاقية “أوكوس” الدفاعية، يثير انعكاسات عديدة، ويلقي بظلاله على الساحة الدولية، وتتزايد معه الانتقادات والمخاوف المرتبطة بالاتفاقية الأمنية، من بينها أنها ستزيد من فرص المواجهة مع الصين وتشجع على الانتشار النووي، وتمنح رخصة مجانية للطامحين النوويين في امتلاك السلاح النووي. 

لم يسبق للولايات المتحدة أن خرقت معاهدات الانتشار النووي إلا مع بريطانيا عام 1958 والآن مع أستراليا بتزويدها بـ 8 غواصات تعمل بالطاقة النووية ومزودة بأسلحة نووية. ويوجد في العالم الآن حوالي 129 غواصة نووية تملك الولايات المتحدة منها 68 غواصة وتملك روسيا 29 والصين 12 وبريطانيا 11 وفرنسا 8 والهند 1.

المعاهدة الأمنية الجديدة “أوكوس” يلفها الكثير من الغموض فيما يتعلق بمدى الوفاء بالالتزامات الخاصة بعدم انتشار الأسلحة النووية. في هذه الأثناء، أكد رئيس الوزراء الأسترالي، “سكوت موريسون”، أن الاتفاق سيمتثل لالتزامات أستراليا الدولية بعدم الانتشار النووي، وأن أستراليا لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. 

في المقابل تكشف المعاهدة الانفصام الغربي حول التصدي للانتشار النووي، فاستراليا باعتبارها جزء من التحالف العسكري مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة، ستقوم ببناء غواصات تعمل بالطاقة النووية لتحل محل الغواصات التقليدية من فئة كولينز مثل HMAS Rankin وبموافقة من الولايات المتحدة، ستحصل أستراليا على تكنولوجيا متطورة، ومفاعلات جاهزة تعمل باليورانيوم المخصب. وهذا التطور ينتهك القواعد الدولية ويحطم الأسس المناهضة للأسلحة النووية ويفتح الباب أمام قدرة أسترالية على صنع أسلحة نووية، ويحطم التضامن الغربي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة الصين.

وقد شنت الصين هجومًا على أوكوس، واتهم سفير الصين لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية الولايات المتحدة بتقويض أنشطة عدم انتشار الأسلحة النووية من خلال نقل المعرفة النووية واليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية إلى أستراليا، قائلاً إن هذا سيجعل من الصعب منع إيران وكوريا الشمالية من السعي لامتلاك تقنيات مماثلة. 

ولكن ما لم يذكره السفير الصيني، أن الصين على مدى العقدين الماضيين، قامت بتحديث جيشها دون الخضوع لأي قيود تفرضها اتفاقيات نزع السلاح وخفض الترسانات النووية والصاروخية، وتصاعدت قوة جيش التحرير الشعبي من جيش يفتقر إلى القدرات والتنظيم والاستعداد للحرب الحديثة، إلى جيش يمكن أن يواجه الولايات المتحدة في النزاعات الإقليمية، ولا سيما تايوان. ونتيجة لهذا فإن الردع التقليدي الأمريكي ضد الصين قد تآكل. ويتمثل التحدي الرئيسي أمام الولايات المتحدة أنها ليست قوة مقيمة في آسيا فهي تعتمد إلى حد كبير على حلفائها لإبراز قدراتها وقواتها هناك. 

وجاءت صفقة الغواصات وسط حالة من التوتر والترقب تسيطر على العلاقات العسكرية الأمريكية الصينية خلال السنوات الأخيرة. ففى يوليو الماضى، كشفت صور الأقمار الصناعية عن بناء صوامع جديدة غربى الصين، ومنها يمكن إطلاق صواريخ نووية عابرة للقارات، وقامت الصين بإنشائها فى سرية تامة وبعيدًا عن أى رقابة أو شفافية دولية. ويفسر خبراء عسكريون الخطوة الصينية بأنها دليل على تصميم بكين لتحديث أسلحتها النووية بسرعة، وعلى نطاق غير مسبوق.

وعلى هذا، تفترض الولايات المتحدة أن اتفاق “أوكوس” سيحقق لها ميزتين رئيسيتين هما: ميزة عسكرية، حيث تمتلك الغواصات النووية الأمريكية، طاقة غير محدودة من مفاعلاتها، ولديها سرعة، وقدرة تحمل ونطاق أكبر من نظيراتها التقليدية وهي خصائص مهمة عند العمل في مسرح المحيطين الهندي والهادئ. وفي الوقت الذي تزداد فيه ممارسات الصين التي تراها أمريكا عدائية في بحر الصين الجنوبي، تعد الغواصات النووية أكفأ من الغواصات التي تعمل بالديزل لما لها من قدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية ونشر القوات الخاصة والبقاء في المياه العميقة في المحيطين الهندي والهادئ لأشهر، وهذا يعني أن الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية لديها فرصة أفضل في النجاة من المحاولات الصينية للعثور عليها.

ميزة دبلوماسية، في ظل العقوبات التي تفرضها الصين على أستراليا بعدما دعت إلى إجراء تحقيق بشأن تسرب وباء كورونا من معامل الصين، وفرض الصين رسوم جمركية على الصادرات الأسترالية الرئيسية، وتعليق قنوات التواصل الثنائي الرئيسية. فإن تدخُل أمريكا في المنطقة يعطي إشارة أن أمريكا لن تتخلى عن دعم حلفائها الذين يقاومون التنمر الصيني.

لقد أحدثت الصفقة التي كان من المفترض أن تُظهر تصميمًا موحدًا تجاه الصين رد فعل سلبي كبير، وفتحت انقسامات في حلف شمال الأطلسي وتحالف العيون الخمس الاستخباراتي وولدت عدم ثقة في دوافع أستراليا لامتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية. وبالتالي تطرح المعاهد الأمنية عدد من المخاوف المرتبطة بالحد من الانتشار النووي أبرزها:

زيادة عدم اليقين: هناك ثغرة في المادة الثالثة من معاهدة الأمم المتحدة لمنع انتشار الأسلحة النووية تعفي المفاعلات البحرية من نظام ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أجل هذا الغرض. بما أن معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية لا تحظر على الدول التي لا تملك السلاح النووي شراء غواصات نووية، فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية “تسمح لها بسحب الوقود النووي من أي مراقبة لاستخدامه في أنشطة عسكرية غير محظورة. ومع ذلك، لطالما اعتبر مجتمع عدم الانتشار النووي الثغرة تهديدًا رئيسيًا لأحد الأهداف الرئيسية لمعاهدة الحد من إنتاج واستخدام اليورانيوم عالي التخصيب، الذي يمكن استخدامه لصنع أسلحة نووية. 

زيادة رغبة الطامحين النوويين: اقتصر امتلاك الغواصات النووية على ست دول هي: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والصين والهند. وأصبحت أستراليا الدولة السابعة، وهو ما يمنحها قدرات عسكرية واسعة فى وقت تقترب القوة البحرية الصينية، بجنوب شرق آسيا، من التكافؤ مع الولايات المتحدة. الأمر الذي يثير رغبة الطامحين النوويين المحتملين مثل الأرجنتين والبرازيل وكندا وإيران واليابان وكوريا الجنوبية، من أنهم ينبغي أن يكونوا قادرين على بناء مفاعلات نووية بحرية. والخوف هو أن تلك الدول، بعد حصولها على وقود المفاعل بحجة أنها ستستخدمه فقط لتشغيل الغواصات، ربما تنقلب وتستخدم الوقود لصنع قنبلة نووية، وتحتفظ بالوقود النووي خارج رقابة الوكالة الدولية. وربما تزيد روسيا مبادلاتها التكنولوجية مع الهند، والصين من المحتمل أن تقدم تقنياتها في مجال المفاعلات النووية لباكستان، والبرازيل وربما تجد بمزيد من السهولة سوقًا لمشروعها المتعثر لبناء مفاعل غواصة نووية.

إزدواجية المعايير: يعد تصدير التكنولوجيا النووية إلى أستراليا وهي دولة خالية من هذا النوع من الأسلحة، انتهاكًا صارخًا لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وتهدف المعاهدة، التى وقعت عليها 190 دولة، إلى التزام المجتمع الدولي بمنع انتشار الأسلحة النووية وتعزيز التعاون فى الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. وغضت واشنطن الطرف عن سعى حلفائها وراء التكنولوجيا النووية، واتبعت نهج “المعايير المزدوجة” بشأن الصادرات النووية واستخدامها، ففى الثمانينيات منعت أمريكا كلا من فرنسا وبريطانيا من بيع غواصات نووية لكندا بحجة خطر الانتشار النووي. 

أما اليوم، وبعد السماح لأستراليا بامتلاك غواصات نووية ماذا ستقول واشنطن لحلفائها الآخرين، مثل إسرائيل، التي قد تريد نفس التكنولوجيا، وماذا ستفعل الولايات المتحدة وإسرائيل إذا ما قررت إيران فجأة تجاوز معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وتحويل قدراتها العسكرية إلى أسلحة نووية. وما المعايير التي ستتبعها واشنطن في حال قررت الصين وروسيا نشر تكنولوجيا المفاعلات البحرية والصواريخ طويلة المدى ذات القدرة النووية، أو إذا استغلت دول أخرى مثل البرازيل هذه السابقة كذريعة لتطوير اليورانيوم عالي التخصيب للأغراض البحرية.

مخاوف من سباق تسلح نووي

أثار تحالف “أوكوس” مخاوف دول مثل ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وفيتنام وتايلاند وكمبوديا، والتي ترى في حصول أستراليا على أسرار تكنولوجيا إنتاج وتشغيل المفاعلات النووية، وتشغيل الغواصات بالوقود النووي، مصدر تهديد إقليمي جديد، ويثير القلق بشأن التبعات البيئية لاستخدام الغواصات النووية. وردًا على إعلان تحالف أوكوس، أصدرت وزارة الخارجية الإندونيسية بيانًا من خمس نقاط قالت فيه أنها “قلقة للغاية بشأن استمرار سباق التسلح وإبراز القوة في المنطقة”. هذه التصريحات تلقي الضوء على كيفية تأثير التطورات الجديدة باتفاقية الأوكوس على محيطها الإقليمي. كما قررت إندونيسيا تعليق تعاونها العسكري مع أستراليا، وألغت اجتماعا كان مقررًا بين وزيري دفاع البلدين. 

على الرغم من أن الاقتصاد الإندونيسي هو سابع أكبر اقتصاد في العالم، وعدد سكانها الرابع عالميًا، إلا أن حضور البلاد على المستويين الإقليمي والدولي ضئيل جدًا، بعدما اختارت منذ عقود سياسة عدم الانحياز في العلاقات الخارجية. والتزمت السياسة الخارجية بعقيدة “حرة ونشطة” لا تنحاز إلى أي قوة عظمى إقليمية أو عالمية. لكن هذا لا يعني عدم السعي وراء مصالحها الاستراتيجية من وقت لآخر مع القوى العظمى. ومتطلبات إندونيسيا الحالية في ظل حكم “جوكو ويدودو”، معقدة ودقيقة، لكنها تركز بشكل أساسي على الاقتصاد. فالولايات المتحدة والصين شريكين لا غنى عنهما. على الرغم من مكانة الصين كأكبر شريك اقتصادي لإندونيسيا، لكن تظل الولايات المتحدة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية، لا سيما باعتبارها توازنًا مضادًا لنفوذ الصين وقوتها.

قد ترى إندونيسيا في انضمام أستراليا لتحالف أوكوس فرصة تساعدها في الدفاع عن سلامتها الإقليمية في بحر ناتونا ضد التعدي الصيني. من الناحية الاستراتيجية، فإن القدرات العسكرية الأسترالية المعززة في ظل أوكوس قد تثير قلق الفصيل القومي المتطرف داخل المؤسسة الإندونيسية، والتي أرست الاعتقاد بأن أستراليا لعبت دورًا أساسيًا في انفصال تيمور الشرقية عن إندونيسيا. كما أشاع مخاوف من أن أستراليا قد تفعل الشيء نفسه بالنسبة لبابوا الغربية.

ولكن تخشى إندونيسيا وماليزيا، وهما من الدول الخمس المؤسسة للآسيان، من أن يؤدى التعاون الى سباق تسلح، بما فى ذلك الاسلحة النووية فى منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وأكد وزير الخارجية الإندونيسى “ريتنو مارسودى” مخاوفه بشأن سباق التسلح والقوى التى تهدد الاستقرار الأمنى بما فى ذلك اتفاق الغواصات النووية الأسترالية. وترى ماليزيا أن هذا سيثير قوى أخرى للعمل أيضًا بشكل أكثر عدوانية فى المنطقة، وخاصة فى بحر الصين الجنوبى. وأن ماليزيا كدولة داخل الآسيان تتمسك بمبدأ الابقاء على الآسيان كمنطقة سلام وحرية وحياد.

وانتقدت كوريا الشمالية اتفاقية أوكوس، وحذرت من أنه قد يؤدي إلى سباق نحو التسلح النووي. وتزامن إعلان تحالف أوكوس مع ارتفاع حدة التوتر فى شبه الجزيرة الكورية. حيث اختبرت كوريا الشمالية صواريخ كروز الاستراتيجية. وأطلقت صاروخين باليستيين فى البحر قبالة الساحل الشرقى وذلك بعد يومين فقط من اختبار صواريخ كروز. ولكن كان هناك تطور جديد قبل حدث اختبار الصواريخ الباليستية فى كوريا الشمالية، وهو أن كوريا الجنوبية اختبرت أول صاروخ باليستى أطلق من غواصة. 

إذن هناك وضع ثلاثى الأبعاد، حيث تسعى كوريا الشمالية للضغط على الولايات المتحدة بهدف تخفيف العقوبات الاقتصادية، ووصلت كوريا الجنوبية إلى نقطة تأخذ فيها الأمور بأيديها، بدلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة. ومع الأخذ فى الاعتبار التوترات بين الصين واليابان، يمكن أن يكون هناك قريبًا وضع تصعد فيه كوريا الجنوبية واليابان الموقف، بمساعدة الولايات المتحدة أو بدونها. ولقد طورت كوريا الجنوبية بالفعل قدرة محلية على صنع غواصة تعمل بالطاقة النووية.

أما في الفلبين وسنغافورة، فتختلف وجهات النظر بين حول اتفاق أوكوس. فقد دعمت الفلبين الشراكة الدفاعية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، على أمل الحفاظ على توازن القوى فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ، وهو وجهة نظر تتناقض تمامًا مع بعض جيرانها .وترى الفلبين أن زيادة قدرة الحلفاء المقربين فى الخارج على الحصول على السلطة يجب أن تعيد التوازن وتحافظ عليه بدلاً من زعزعة استقراره. وبدون الوجود الفعلى للاسلحة النووية فان تحرك أوكوس لن ينتهك معاهدة عام 1995 لإبعاد الاسلحة النووية عن جنوب شرق آسيا .

ورحبت سنغافورة بنبأ التحالف الجديد، على أمل تقديم مساهمات جيدة، وذكرت وزارة الخارجية السنغافورية أن رئيس الوزراء “لى هسين لونج” تحدث هاتفيا مع رئيس الوزراء سكوت موريسون . وقالت الوزارة انه يأمل فى أن “يسهم الاتفاق بشكل بناء فى السلام والاستقرار فى المنطقة ويكمل الهيكل الاقليمى” .

ختامًا، تؤكد الولايات المتحدة أن لديها القدرة على إدارة مخاطر الانتشار الناتجة عن صفقة “أوكوس”. وسلط الرئيس جو بايدن الضوء على ضمانات عدم الانتشار كمجال تركيز رئيسي بينما تصيغ الدول تفاصيل الاتفاقية على مدار الـ18 شهرًا القادمة. وتشير التقديرات أن الولايات المتحدة سوف تسحب من مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب لإنتاج قلب المفاعل بالكامل محليًّا. ثم ستشحن الولايات المتحدة القلب المغلق إلى أستراليا، حيث سيُوضع في الغواصات. وفتح المفاعل للوصول إلى الوقود سيكون شديد الصعوبة جسديًّا ومستهلكًا للوقت، فضلاً عن كونه انتحاريًا، حيث إن أي شخص يفعل هذا سيتعرض لمواد نووية مشعة مكشوفة. وبالتالي فإن الاتفاق لن يمنح أستراليا القدرة على إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب، ولن يمنحها الفرصة لتحويل الوقود الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة. 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى