
علاقات متجذرة.. مصر وجنوب السودان في “قالب واحد”
مثٌلت زيارة رئيس دولة جنوب السودان “سلفا كير” إلى القاهرة في 10 أكتوبر 2021، محطة مُكلمة لنوافذ التعاون الوثيق بين الجانبين، وتحمل الزيارة في طياتها أبعادا استثمارية واقتصادية واسعة تؤكد خلالها الدولتان على وضعية التقارب الملحوظ في خضم العلاقات الثنائية.
ولم تكن الزيارة هي الأولى من نوعها فقد سبق زيارات مماثلة لرئيسي الدولتين، ولعل تلك الزيارة المهمة تأتي في ظل ما شهدته العلاقات من طفرة غير مسبوقة تجلت بشكل كبير في التوافق بين القاهرة وجوبا على تدشين اللجنة العليا المشتركة بين الجانبين وذلك وفقاً لما أفضى إليه لقاء رئيس الوزراء المصري ووزير الري لدولة جنوب السودان في أكتوبر عام 2020، لتُجسد بذلك تقدماً واسعاً على كافة المستويات بين الجانبين.
مسار سياسي متجذر
انطلاقاً من الواقع الجغرافي والأهمية الاستراتيجية المتبادلة للجانبين، سعت كلا من مصر وجنوب السودان لتوثيق العلاقات المشتركة، فقد لعبت مصر دوراً كبيراً في تحقيق الاستقرار بين دولتي “السودان” و”جنوب السودان” وذلك خلال عام 2011، وكانت مصر أولى الدول التي اعترفت بالسودان كدولة مستقلة وإقامة علاقات دبلوماسية معها.
وفي هذا الإطار وإقراراً لمبدأ السلام فقد ساهمت مصر بإرسال قوات حفظ السلام الدولية بجنوب السودان لتعزيز الاستقرار والسلام الداخلي، علاوة على استكمال مسار دعم السلام بجنوب السودان من خلال ترأس مصر قمة مجلس السلم والامن الإفريقي في 20 سبتمبر 2016 والتي تناولت بصورة واسعة تطورات الوضع في جوبا وحث الأطراف للتوصل لآلية فعالة لتحقيق الأمن الداخلي.
ولعل مؤشرات التقارب السياسي بين مصر ودولة جنوب السودان برز في الزيارات الرئاسية المتعددة، كما هو الحال بالنسبة لزيارة رئيس جنوب السودان في 22 نوفمبر 2014، تبعها أيضاً زيارة مماثلة لــ “سلفا كير” للقاهرة في 17 في 10 يناير 2017 وزيارة أخرى جاءت في 17يناير 2019، وقد لاحق ذلك زيارة الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في الثامن والعشرين من نوفمبر 2020، والتي مثٌلت الزيارة الأولى من نوعها عززت من خلالها فرص التعاون الاقتصادي والتنموي بين الجانبين وساهمت في خلق إطار تعاوني في القضايا ذات الاهتمام المشترك الإقليمية والقارية.
وتعكس تلك الزيارات الرسمية تؤكد عمق العلاقات المشتركة والرغبة الحقيقية في الشراكة المستدامة بين الجانبين خاصة وأن البلدين يمتازا بموقع جغرافي استراتيجي هام يرتبط بمصالح الآخر، فالقاهرة هي بوابة الاستثمارات والتنمية وقوى أصيلة في معادلة الاستقرار داخل القارة الأفريقية، وتعتبر جنوب إفريقيا ذات طبيعة حيوية ناجمة عن موقعها على حوض النيل فهي شريك استراتيجي في ملف المياه علاوة على تماسها مع إثيوبيا التي باتت تُمثل خطراً واسعاً على دول الجوار.
مجالات تعاون شاملة
باتت العلاقات المصرية الجنوب سودانية تتسم بالتنوع في المجالات المختلفة؛ ففي المجال الاقتصادي والتجاري شهدت التبادلات التجارية ارتفاعاً ملحوظاً فقد وصل حجم التبادل التجاري بين مصر ودولة جنوب السودان بلغ العام الماضي نحو 707 آلاف دولار خلال عام 2020، وترسيخًا للتعاون الاقتصادي فقد وقعت مصر في 18 يناير 2018 برتوكول تعاون لإنشاء أكبر منطقة صناعية مصرية داخل جوبا في إطار تنمية الصادرات المصرية.
ولم يقتصر الوضع عند هذا الحد بل شهد تطوراً على المستوى الخدمات الطبية حيث قد سبق وأن قدمت مصر مساعدات طبية لمواجهة جائحة كورونا عبر توجيه الرئيس السيسي بإرسال طائرة عسكرية تحتوي مساعدات طبية ودوائية مستلزمات طبية مختلفة للمساعدة في التغلب على فيروس كورونا، علاوة على ذلك فقد قدمت مصر في عام 2017 قافلة طبية ودوائية وغذائية إلى جنوب السودان، وتلاها أيضاً قافلة طبية مماثلة خلال عام 2018.
فضلاً عن السابق، حققت مصر وجودا في المجال الزراعي تحقيقاً للأمن الغذائي المتبادل للبلدين عبر إنشاء المزرعة النموذجية بولاية غرب بحر الغزال في السودان على مساحة 200 هكتار، كما أن مصر عززت من وجودها المائي الداخلي في مجال إنشاء السدود لحصاد مياه الأمطار إلى جانب الشروع في تنفيذ عمليات تطهير واسعه للمجاري المائية داخل المناطق التي تتعرض للسيول وتأهيل المجرى الملاحي لبحر الجبل جنوب السودان في ضوء استراتيجية تقليل الهدر من مياه النيل.
واتصالاً بمجال الموارد المائية، فقد وقعت الدولتان اتفاقية للتعاون في مجال إدارة وتنمية الموارد المائية وتدريب العاملين هناك في هذا المجال على التقنيات المختلفة لتنمية المياه، وسبق ذلك وقعت الدولتان على عقود تنفيذ عدد ثلاثة مشاريع لإنشاء مرسى نهري في مدينة بانتيو بولاية الوحدة وتأهيل عدد ثلاثة محطات لقياس المناسيب في حوض بحر الغزال، هذا إلى جانب مشاريع تحلية المياه.
دوافع وأهداف متباينة
وبالنظر إلى زيارة “سلفا كير” اليوم للقاهرة فهي تأتي في ظل سياق إقليمي متغير، يتجسد بشكل كبير في وضعية الاضطراب التي تشهدها السودان في الوقت الراهن على خلفية مساعي إرباك المشهد الداخلي والضغوطات المتنامية على الصعيدين السياسي والاقتصادي وهو ما أحدث توترًا بين المكون السياسي والعسكري السوداني، علاوة على تفاقم حدة الصراع الحدودي بين أديس أبابا والخرطوم، وسبق أن قدمت جنوب السودان عرضها للتوسط لحل قضية الحدود بصورة سلمية، ولعل تلك التشابكات المتعددة من شأنها ان تهدد استقرار جنوب السودان، ولكن مصر طرفاً أصيلاً في تحقيق السلام داخل دول القارة السمراء، تأتي تلك الزيارة للتباحث حول مسارات دعم استقرار السودان خلال تلك المرحلة الحرجة.
الأمر الآخر وثيق الصلة؛ أن تلك الزيارة تأتي في ضوء تصدعات واسعة داخل إثيوبيا في ظل تمدد وانتشار الصراع المسلح الداخلي بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير التيغراي، وهو ما يُمثل في حد ذاته ضغطاً أمنياً مضاعفاً على منطقة القرن الإفريقي، من شأنه أن تهدد المصالح المصرية ومصالح دولة جنوب السودان.
علاوة على السابق؛ يتجلى في ضوء معادلة ملف المياه خاصة وأن هناك تعنت إثيوبيا نحو تحريك مسار التفاوض استجابةً للبيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن في سبتمبر 2021 والذي يحث الأطراف على استكمال التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي وذلك بهدف الوصول لاتفاق مرضي وملزم لجميع الأطراف وفقاً لفترة زمنية محددة، وفي هذا الصدد قد أبدت “جوبا” استعدادها للوساطة في هذا الملف وفقاً لما أعلنه “جيمس واني إيغا” نائب رئيس جنوب السودان للشؤون الاقتصادية نهاية يوليو 2021 لحلحلة الأزمة العالقة بين أديس أبابا وكلاً من القاهرة والخرطوم.
ختاماً؛ بات مستوى العلاقات المصرية الجنوب سودانية يتسم بقدر كبير من الوضع الاستراتيجي الذي يضمن المصالح المشتركة للدولتين، تسعى البلدان للاستفادة من المزايا التنافسية التي يتمتعان بها من أجل تحقيق مصالح قومية، وعلى رأسها تأتي القضايا التنموية والاقتصادية بين الجانبين، وتحقق وجوداً مصرياً في الجوار الجغرافي لها بما يحقق أمنها القومي خاصة وأن جنوب السودان تُمثل عمقا أمنيا واستراتيجيا لمصر، خاصة وأن الرؤية المصرية تجسدت في إقرار السلام والأمن مدعومة برؤية تنموية لأشقائها في القارة السمراء.