دول المغرب العربي

منع الجزائر للطائرات الحربية الفرنسية من عبور أجوائها .. “الدوافع والتداعيات”

انتهى سيناريو التصعيد الجزائري/الفرنسي، بمنع الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق في السماء الجزائرية في إطار عملية “برخان” في الساحل والصحراء، عقب سلسلة من الإجراءات والتصريحات بين البلدين، فما هي تداعيات هذا القرار على مستقبل الوضع الأمني في “الساحل والصحراء” في ظل التنافس الروسي في المنطقة وتوتر العلاقات المالية/الفرنسية وتقليل القوات الفرنسية في المنطقة وأسباب ودوافع الإجراءات الفرنسية/الجزائرية الأخيرة.

إجراءات متبادلة وراء التصعيد الدبلوماسي الجزائري الفرنسي

 بدأت فرنسا باتخاذ قرار غير مسبوق بإعلان تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني دول المغرب العربي “الجزائر والمغرب بنسبة 50% وتونس بنسبة 33%” في 28 سبتمبر الماضي، وعزا المتحدث باسم الحكومة غابريال أتال، القرار إلى أن هذه البلدان الثلاث “ترفض إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لعودة المهاجرين المرَحّلين من فرنسا، وعدم رغبتها في استعادة رعاياها التي لا يمكن إبقاؤهم في فرنسا”، فيما اعتبرته الجزائر أمرا غير مبرر.

اتسم السياق الدبلوماسي بين فرنسا والمغرب العربي بالتوتر والعلاقات شديدة التعقيد خلال الفترة الماضية، والتي طغت عليها اتهامات كلٍ من الجزائر وفرنسا، للمملكة المغربية بالتورط في قضية “بيجاسوس” الشركة الإسرائيلية المتهمة بقضايا التجسس، فيما نفت الأخيرة تلك الاتهامات.

وطالبت الجزائر، الحكومة الفرنسية مجددًا في يونيو الماضي الاعتراف بجرائمها إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ فيما يحاول الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إعادة ملف “الصفح” باسم فرنسا للحركيين الجزائريين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال حرب استقلال الجزائر (1954-1962)، والتي تخلت عنهم باريس ونقلوا إلى مخيمات انتقالية في فرنسا في ظروف غير لائقة برفقة زوجاتهم وأطفالهم، وتعتبرهم الجزائر من جماعات الضغط التي تثير الحقد بين الجانبين، فقد اتهم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مسبقاً 3 جماعات ضغط “لوبي lobbies” فرنسية “بزرع الحقد تجاه الجزائر”، وهم “المعمرون الذين غادروا الجزائر بعد الاستقلال ويغذون الأحقاد لأحفادهم” والذين يصطلح على تسميتهم بـ”الأقدام السوداء”، ويعتبرون “امتدادا لما يسمى بالجيش السري الفرنسي” وأخيراً “المكون الجزائري الذي اختار الوقوف مع فرنسا”.

ونتيجة سياسة ماكرون نحو محو ذاكرة الاستعمار مع الجزائر وملف الصفح للحركيين الجزائريين، عقد اجتماع مع مجموعة من الشباب والطلاب مزدوجي الجنسية من أحفاد أحفاد أولئك الذين عاشوا خلال الحرب في الجزائر، وصف فيه قرار تخيض التأشيرات بأنه لن يؤثر على الطلاب ومجتمع الأعمال، ولكنه أوضح أن الفكرة تكمن في مضايقة ما أسماهم “الأشخاص الموجودين” في الوسط الحاكم الذين اعتادوا الحصول على التاشيرات بسهولة،

وأضاف أن “الجزائر قامت بعد استقلالها في 1962 على “إرث من الماضي” حافظ عليه “النظام السياسي العسكري”، وأنه لا يعتقد أن هناك “كراهية لفرنسا” في أعماق المجتمع الجزائري بل في النظام السياسي العسكري الذي قام على هذا الإرث من الماضي”، مشيرا إلى أنه “من الواضح أن النظام الجزائري منهك والحراك في 2019 أضعفه”، وبالرغم من الحوار الجيد مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، إلا أن ماكرون يرى أن تبون “عالق” في نظام صعب جدًا.

ووصف الإعلام الجزائري، التصريحات المنسوبة للرئيس الفرنسي والمنشورة في صحيفة “لوموند” الفرنسية بالمستفزة واللاذعة، فاتخذت السلطات الجزائرية قرارًا باستدعاء سفيرها في باريس للتشاور في 2 أكتوبر الجاري، على خلفية التصريحات التي وصفتها بـ “اللامسئولة” للرئيس ماكرون، والتي لم تنفيها الحكومة الفرنسية، واعتبرتها الجزائر تدخلًا في شئونها الداخلية، وهي المرة الثانية لاستدعاء الجزائر سفيرها، ففي مايو 2020، استدعت سفيرها بعد أن عرضت قنوات فرنسية فيلما وثائقيا حول الحراك المناهض للنظام في الجزائر، كما أثرت حالة التوتر والفتور التي يشهدها البلدان منذ فترة  في خروج العديد من الشركات الفرنسية من الجزائر، بعد أن رفضت السلطات الجزائرية تجديد عقودها، وفي أبريل 2021، ألغى رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس في اللحظة الأخيرة زيارته إلى الجزائر بطلب منها وتم إرجاعها لأزمة كورونا في ذلك الوقت، إلى جانب الاستياء الجزائري من حجم الوفد الوزاري الفرنسي.

وعلى الرغم من إقرار مجلسي الشيوخ والنواب الفرنسي على قانون يسمح بـ”إعادة الأموال المنهوبة والأملاك والبضائع غير المشروعة” التي صادرها القضاء الفرنسي من “المسؤولين الفاسدين” إلى الدول الأجنبية المعنية في يوليو الماضي، واعتبرته الجزائر وسيلة لاستعادة أموال النظام السابق؛ إلا أن الجانب الفرنسي رفض الخرائط الطبوغرافية التي قد تسمح بتحديد مناطق دفن النفايات الملوثة، المشعة أو الكيماوية غير المكتشفة لغاية اليوم وأجراها الجانب الفرنسي في صحراء الجزائر في خمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي، وهو الملف الذي تصر الجزائر على استعادته وتسويته بالكامل.

وصعدت الجزائر من ردود أفعالها لتصدر قرارًا يوم الأحد الماضي 3 أكتوبر لتحظر الطائرات العسكرية الفرنسية التحليق فوق أراضيها، والذي تستخدمه القوات الفرنسية لدخول ومغادرة منطقة الساحل حيث تنتشر قواتها في إطار عملية برخان. وهذا بحسب تصريح المتحدث باسم هيئة الأركان العامة الفرنسية الكولونيل باسكال إياني.

تداعيات قرار الحظر على منطقة الساحل والصحراء:

أوضح إياني أن قرار غلق المجال الجوي الجزائري أمام الطائرات العسكرية الفرنسية لن يؤثر على العمليات أو المهام الاستخباراتية التي تقوم بها فرنسا في منطقة الساحل، وتدفق الدعم الفرنسي لمواجهة الجماعات الجهادية في مالي، من خلال تعديل الطائرات العسكرية الفرنسية من مخططات تحليقها، وأن غالبية الطلعات الفرنسية الاستطلاعية في منطقة الساحل تُنفذ عن طريق طائرات مسيرة من نوع ريبر تنطلق من نيامي في النيجر، وبالتالي لن تتأثر بقرار الجزائر؛ إلا أننا يمكنا توقع أن تسفر تلك التحول في زيادة التكلفة الفرنسية الناتجة من التدخلات والطلعات اللوجيستية في دول الساحل،

وعلى الرغم من عدم نجاح الحلول العسكرية تمامًا في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، والتخوف من تكرار النموذج الأفغاني في المنطقة، إلا أن تأثير تنامي الإرهاب في المنطقة عقب تمكَن الجماعات الإرهابية من عبور مركز وجودها في مالي لتصل إلى البلدان المجاورة وتتمثل بؤرتا الإرهاب في منطقتي مالي ودول الجوار المباشر “‏بوركينا فاسو والنيجر” والساحل الغربي الذي تنشط فيه الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد ‏المغرب الإسلامي، والتي بايع بعضها في السنوات الأخيرة تنظيم “داعش”، وبؤرة منطقة “حوض بحيرة تشاد” الذي يضم نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون. إلا أنه حل لابد منه في ظل انتشار الجماعات الإرهابية، والميليشيات، والعصابات المسلحة في دول المنطقة واعتبار مالي الحاضنة والمركز، والعمل على وقف التهديدات المتزايدة في المنطقة والدول المجاورة.

وهو ما يضعنا أمام القرار الذي سيقلل من فرص التعاون المستقبلي؛ مما سيصب في مصلحة العناصر الإرهابية بالمنطقة ويعيق التقدم الأمني، ويقف أمام المصالح المشتركة للبلدين في مواجهة الإرهاب في مالي، والذي يتزامن مع إعادة تنظيم القوات الفرنسية لقواعدها في منطقة الساحل والصحراء في شمال مالي (كيدال وتمبكتو وتيساليت)  المتشابكة مع الحدود الجزائرية والتي تمتد على طول 800 كلم، في إطار خطتها لخفض القوات الموجدوة بمنطقة الساحل منذ عام 2013من 5000 مقاتل إلى 2500 بحلول عام 2023، مما يضعنا أمام سيناريو إعادة تموضع العلاقات بين البلدين من خلال إعادة فكرة التقارب الأمني لحفظ الأمن في المنطقة، والتي تؤثر على زيادة تدفق الهجرة إلى أوروبا، في وقت تحاول فيه الجزائر إستعادة قيادتها في المنطقة لمكافحة بؤرة الإرهاب في مالي، فتبنى مجلس السلم والأمن بالإتحاد الإفريقي في اجتماعه الوزاري في 30 سبتمبر الماضي مقترحات الجزائر لتعزيز مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء والتي تتضمن تفعيل الصندوق الإفريقي لمكافحة الإرهاب، وإنشاء قائمة إفريقية للأشخاص والجماعات والكيانات الضالعة في الأعمال الإرهابية، بما في ذلك المقاتلون الأجانب، وتفعيل مذكرة التوقيف الإفريقية، كما ناقش وزير الخارجية الجزائري رمطان العمامرة مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش مستجدات الأوضاع في المنطقة لاسيما جهود الجزائر لترقية الحلول السلمية للأزمات في كل من ليبيا، ومالي ومنطقة الساحل والصحراء، كما نشر عبر صفحته في تويتر .

كما وصل لعمامرة، إلى مالي رسميا بصفته مبعوثا خاصا للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في زيارة قصيرة، معربًا عن تطلعه لإجراء لقاءات مع كبار المسؤولين هناك، مما يضعنا أمام صورة عدم التخلي الجزائري عن مالي المتاخمة لحدودها، في الوقت الذي تفقد فيه فرنسا وجودها هناك، بالرغم من الإعلان الفرنسي استكمال العمل العسكري وفقاً لوزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي التي أكدت من باماكو أن فرنسا “لن تغادر مالي” وأنها لا تزال “مصممة” على مواصلة معركتها ضد الإرهاب إلى جانب القوات المالية، خاصة في ظل تهديد الوضع في المنطقة وأنه في حال اتمام ملف المصالحة الليبية سيقتضي بخروج المرتزقة والميلشيات من ليبيا والتي لن تجد غير الساحل والصحراء ملاذاً لها؛ مما يأزم من وضع المنطقة.

تصعيد الوضع الأمني في الساحل والصحراء إثر الخلاف المالي الفرنسي:

يتزامن التوتر الفرنسي الجزائري وتبعاته على منطقة الساحل، مع محاولات الضغط الفرنسية على المجلس العسكري الجديد في مالي لمنع تعاقده مع مجموعة “فاجنر” الروسية، مما سيمنح روسيا منطقة نفوذ جديدة في منطقة الساحل والصحراء، وأيدته في ذلك دولة تشاد من خلال تحذير وزير خارجيتها شريف محمد زين من أن أيّ “تدخل خارجي قد يمثل خطرًا جديدًا على استقرار بلده وأمنها في رده على سؤال حول مجموعة فاجنر،

وأعربت فرنسا والاتحاد الأوروبي في وقت سابق عن قلقهما حيال توجه مالي إلى روسيا، ورفضت 13 دولة أوروبية بعضها منخرط في تحالف القوات الخاصة “تاكوبا” في مالي، التحالف المالي مع فاجنر، وحذرت فرنسا وألمانيا وإستونيا من إعادة النظر في وجودها العسكري في مالي.

كما شهدت العلاقات المالية الفرنسية توتراً على إثر هذا الإصرار المالي بعد قرار سحب فرنسا قوة برخان فقد اعتبرها رئيس وزراء مالي شوغل كوكالا مايغا بمثابة “تخلي فرنسا عن بلاده في منتصف الطريق”، وبالتالي بحثت بلاده عن “شركاء آخرين من بينهم “مجموعة فاجنر الروسية” وهو ما جاء في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

بدوره، وصف ماكرون تلك الاتهامات بـ”المخزية”، مشيرا إلى أنها اتهامات منبثقة من مجموعة “انقلابيين”، ووعد بمواصلة مشروعات التنمية في مالي بالتعاون مع المجتمع الدولي، محذراً من تبعية هذا القرار في حال عدم تحمل قادة هذا القرار مسئولياتهم.  وهو ما جاء خلال مأدبة عشاء أقيمت في قصر الإليزيه بمناسبة اختتام موسم “إفريقيا 2020″، وذكرت وزارة الخارجية الفرنسية “أن تغيير النظام العسكري الفرنسي في منطقة الساحل ليس خروجا عن مالي، ولا قرارا من جانب واحد، ومن الخطأ قول غير ذلك”. وصرحت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي يوم الأربعاء 29 سبتمبر إن مالي “ستعزل نفسها” وتفقد “دعم المجتمع الدولي” إذا جندت مجموعة “فاجنر” التي ترى فيها مالي بأنها عودة حليف سابق لها، كما تريد مالي فتح مفاوضات مع الجماعات الجهادية، وهو الأمر الثاني الذي ترفضه باريس.

فاستدعت وزارة الخارجية في مالي السفير الفرنسي لتبلغه احتجاجها على خلفية تصريحات ماكرون حول”شرعية الحكومة الحالية في مالي باطلة ديموقراطيًا”، ووصفه الجانب المالي بأنها “تصريحات غير ودية ومهينة فيما يتعلق بمؤسسات الجمهورية”، وأعربت عن “سخط واستنكار حكومة مالي لهذه التصريحات المؤسفة، التي تضر بالعلاقات الودية بين البلدين”.

وهو ما يضعنا أمام المصالح المشتركة بين فرنسا والجزائر في مالي لتعميق سبل الضغط لاستعادة القيادة الجزائرية في المنطقة والحفاظ على المصالح الفرنسية مقابل التدخل الروسي، فيتوقع المراقبون الدوليون أن تعدل الجزائر عن قرارها من منع الطيران العسكري الفرنسي من عبور أراضيها، والذي يمكن فصله عن القضايا الشائكة بين البلدين والتي أدت لاتخاذ هذا القرار التصعيدي، أو ستتجه لسيناريو دعم الوجود الروسي في مالي الذي سيوفر الأسلحة المتقدمة بعد تلقي باماكو 4 طائرات روسية بحسب التقارير الإعلامية، مما يضمن لها الأمن الحدودي،

لماذا التصعيد الجزائري الفرنسي الآن؟

تمثلت القرارات الشائكة بين طرفي الأزمة واتخاذ القرارات السابقة، في محاولات الرئيس الفرنسي ماكرون من جذب أصوات اليمين في الانتخابات الرئاسية المقبلة والمقرر لها أبريل 2022، الذي وعد مع بداية ولايته بتنفيذ قرارات الترحيل بنسبة 100% لجميع البلدان المعنية، وطالب حكومته في يونيو الماضي اتخاذ إجراءات “تنفيذية سريعة للغاية”، على أن تُعطي الأولوية لترحيل الأجانب غير النظاميين الذين ارتكبوا أعمالًا إرهابية أو المدرجين على القوائم الأمنية بسبب التطرف وأولئك الذين ارتكبوا جنحًا وجرائم وغيرها من الانتهاكات الخطيرة، وذلك على خلفية اتهامات اليمين المتطرف للحكومة الفرنسية بالتخاذل في ترحيل أعداد كافية من المهاجرين، فيما تصف الحكومة الفرنسية نفسها بأنها كانت “صبورة” منذ المفاوضات الأولى في 2018، والتي بدأت بالحوار مع بلدان المغرب العربي ثم بالتهديد، وأن قرار تخفيض نسبة التأشيرات جاء تنفيذاً لتلك التهديدات بعد تقاعص بلدان المغرب العربي على الوفاء بالتزامها نحو استقبال العائدين من فرنسا. كما تزامن قرار خفض التأشيرات مع تقديم مرشحة الرئاسة اليمينية مارين لوبن لمسودة مشروع الاستفتاء بشأن الهجرة، والتي جعلت من هذا المشروع يحتل الصدارة في اهتمامات الفرنسيين في الأشهر الأخيرة.

والقضية الأخرى المحورية في جذب اليمين الفرنسي المتطرف هي الفترة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، وبجانب القضية الانتخابية، ظهر استياء ماكرون عقب الإخفاق الظاهر لسياسته “لمصالحة الذاكرة بين البلدين” والتي صاغها تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا المولود في الجزائر لأسرة يهودية عام 1950، وقدمه إلى الرئيس الفرنسي في يناير، إلا أنها قوبلت برد فعل غير متحمس من الجزائر ووصفته بأنه “غير موضوعي” منتقدة عدم “اعتراف فرنسا رسميا بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها خلال احتلالها للجزائر”، وظهرت هذه الأزمة لأول مرة عقب إقرار  البرلمان الفرنسي قانوناً يعترف بـ”الدور الإيجابي للاستعمار” في 23 فبراير 2005، وتم إلغاؤه لاحقاً إلا أنه تسبب في إبطال معاهدة الصداقة التي وقعها الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك ونظيره الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. كما صادق أعضاء البرلمان الجزائري، على قانون يجعل من 8 مايو 1945 “يوماً للذاكرة” لعدم نسيان ما وصفه بـ”جرائم الاستعمار” الفرنسي في الجزائر، وأعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بمناسبة الذكرى الـ76 لمجازر 8 مايو 1945، أكد أنه “لن نصل إلى شراكة استراتيجية مع فرنسا دون تسوية ملفات الذاكرة”، وهو ما زاد من توتر العلاقات الندية للطرفين في ظل ما تم تسميته “الصحوة الشعبية” للجزائرين برفض كل ما هو فرنسي ووسمه بالاستعماري.

فتعدت تصريحات ماكرون من مجرد انتقاد نظام الحكم الجزائري إلى التطاول على التاريخ الجزائري بكل ما يحويه من جدل حول الحقبة الاستعمارية بحسب الرؤية الجزائرية، والتي ظهرت في التصريحات المنسوبة إليه حول التشكيك في وجود أمة جزائرية قبل الإستعمار الفرنسي للبلاد، عام 1830 متسائلًا: “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟” ملمحًا لفترة خضوع الجزائر للحكم العثماني، مستكملاً أنه “مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تمامًا الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها.” والتي ما يستخدمها الرؤساء الفرنسيون من خلال النظر إلى الجزائر باعتبارها شريكا أمنيا خلال السنوات الأربع الأولى من أي ولاية أي رئيس فرنسي، ثم تتحول إلى ورقة انتخابية من خلال ابراز قضيتي الهجرة والذاكرة الاستعمارية، من خلال العودة لمغازلة جمهور الناخبين، بقضايا تخاطب توجهاتهم، خاصةً فيما يتعلق بالمرحلة الاستعمارية واستغلال قضايا المهاجرين لفرنسا، أملا في كسب أصوات ناخبي الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تركز خطابها تقليديا على تلك القضايا في ظل ما يراه بعض المحللين السياسيين من تردي الوضع الداخلي في فرنسا وخاصة المشكلات المتعلقة بالبطالة والاقتصاد، وأن ماكرون لم يحقق الكثير مما وعد به الفرنسيين.  

ينظر كذلك الجانب الجزائري لفرنسا في أزمة حرق الغابات أنها لم تشهد تحركات حقيقية من الحكومة الفرنسية التي أظهرت التعاطف وأعلن ماكرون تقديمه للمساعدات؛ وهو ما قابله تجاهل جزائري مثنياً على دول أخرى كإسبانيا وسويسرا وايطاليا وروسيا وتركيا وتونس، في موقف غير معتاد بين البلدين، ويرجع ذلك إلى خلفية اتهامات الجزائر لفرنسا بإيواء عناصر من الحركتين الارهابيتين المتهمين في قضية إشعال الغابات من حركتي “ماك” و “رشاد” الإرهابيتين، واتخاذ الأخيرة من باريس مقرًا لها.

وبالمقابل تنظر فرنسا إلى الجزائر بأن لها دورا خفيا في تقويض وجودها بمنطقة الساحل والصحراء، فسبق وأن أوقفت الجزائر توريد الوقود و”الكيروزان” للقوات الفرنسية في الساحل، في ضوء التقارب الجزائري مع قوى أخرى والتنافس القاري الذي تشهده فرنسا في القارة، فاستغل الجانب التركي هذا التوتر في ظل العلاقات المتشابكة بين البلدين في إحداث نوع من التقارب مع الجزائر على حساب فرنسا لكسب أرضية جديدة في شمال القارة، فأعلن الرئيس التركي أردوغان في 2020 أن الرئيس تبون  أكد له أن فرنسا قتلت أكثر من خمسة ملايين جزائري خلال احتلالها لبلاده، وهو ما تم نفيه من الجزائر فيما بعد، مما يكشف لنا أسباب تطرق ماكرون في التصريحات المنسوبة إليه بما وصفه احتلال عثماني  للجزائر.

ويمككنا القول، إن العلاقات الجزائرية الفرنسية المتشابكة قد تبدو في سيناريو محاولة التخلي عن التعامل “الند للند” مقابل تحقيق استقرار المنطقة.

وفي ظل التنافس مع القوى الإقليمية الأخرى للعودة لقيادة الدفة، في ظل حالة من الحراك الجزائري تمثلت قضية الصحوة الشعبية ومصالحة الذاكرة لرئيسين لم يعاصرا فترة الاستعمار، أو سيناريو تغير شبكة التحالفات واستمرار التصعيد في ظل قضايا الانتخابات وتعثر ملف مصالحة الذاكرة، في ظل دخول لاعبين دوليين جدد في منطقة الساحل والصحراء، ستعيد من تشكيل التحالفات.

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى