
“خيار اللحظة الحرجة”.. قراءة في تكليف نجلاء بودن بتشكيل الحكومة التونسية
قطع الرئيس التونسي قيس سعيد حالة الترقب التي سادت المشهد السياسي التونسي على مدار الشهرين الماضيين، منذ تدابير الخامس والعشرين من يوليو الاستثنائية، بشأن ماهية الحكومة الجديدة التي ستكون منوطة بإدارة واجتياز مرحلة شديدة الحساسية من تاريخ البلاد تتشابك فيها التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والصحية، مُعلنًا تكليف السيدة نجلاء بودن حرم رمضان بتشكيل الحكومة.
دلالات التوقيت
يحمل توقيت التكليف ومضمونه مجموعة من الدلالات كونه يأتي في سياق مشهد ضبابي ومضطرب يضع الدولة التونسية على مشارف مرحلة سياسية جديدة، ومن هذه الدلالات:
• الأول، يأتي القرار عملًا بأحكام الأمر الرئاسي رقم 117 لسنة 2021 الصادر بتاريخ 22 سبتمبر الجاري، والذي ينص في أحد بنوده على ممارسة لرئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس الحكومة، ويتولى تنظيم الدولة وضبط سياساتها العامة واختياراتها الأساسية ورئاسة مجلس الوزراء، ويسهر على تنفيذ القوانين ويمارس السلطة الترتيبية العامة.
• الثاني، ينتهي تشكيل الحكومة حالة الغموض والضبابية المخيمة على المشهد التونسي، التي يبدو أنها أحد أدوات الرئيس سعيد في مواجهة خصومه، ويشير إلى إرادة حقيقية لاستئناف المسار السياسي عبر المؤسسات الدستورية.
• الثالث، يقطع القرار الطريق على محاولات جماعة الإخوان الإرهابية والأطراف المحسوبة عليها في الداخل التونسي إحداث انقسام في الرأي العام وتقليص الثقة في القيادة السياسية والتشكيك في نواياها، مستغلة حالة الفراغ السياسي الناشئة عن تعطيل العمل بالدستور وتجميد عمل البرلمان، حيث قاد حزب النهضة وتحالف الكرامة المتشدد تظاهرتين؛ الأولى مئوية شهدها شارع الحبيب بورقيبة في 18 سبتمبر، والثانية ضمت نحو 2000 شخصًا على مدار يومي 25 و26 سبتمبر الجاري.
• الرابع: يمثل اختيار “امرأة” لقيادة الحكومة التونسية قطعية مع الفكر الظلامي المناهض لحقوق المرأة والساعي لانتزاع مكتسباتها، والذي حاولت التيارات الرجعية ترسيخه بعكس الإرث التاريخي للدولة التونسية الذي وضع المرأة في قلب عمليات التحرير والتصحيح. إضافة إلى أن الاختيار يحمل طابعًا غير سياسيًا يتفق ورؤية الرئيس سعيد المناهضة للسياسيين الفاسدين، كما يتسق مع مزاج الشارع الذي سأم الأحزاب والسياسيين الذين انشغلوا بالمشاحنات وجني المكاسب الشخصية.
ملفات صعبة
لا يزال الحديث عن توجهات الحكومة التونسية المقبلة مبكرًا، وهو أمر سيتكشف تدريجيًا مع اختيار الفريق الحكومي وإعلان برنامج عملها خلال المرحلة المقبلة، لكن المؤشرات المرتبطة بالخلفيات العلمية والعملية لرئيستها نجلاء بودن تشي بأن تونس مقبلة على حكومة تكنوقراط؛ فسيرة الذاتية لبودن تدلل على شخصيتها المستقلة؛ إذ لم تنخرط في الحياة السياسية ولا يُعرف عنها أي انتماء سياسي على الإطلاق؛ فقد عملت أستاذة تعليم عالي في المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس، وكانت مختصة في علوم الجيولوجيا، وفي 2011، عُينت مديرة عامة مكلفة بالجودة بوزارة التعليم العالي، وعلمت في منصب رئيسة وحدة تصرف حسب الأهداف بالوزارة، وفي 2015، كُلفت بوظيفة في ديوان وزير التعليم العالي السابق شهاب بودن، وتعمل حاليًا ضمن تنفيذ خطة برنامج البنك الدولي بالوزارة.
ومع ذلك، ستقف بودن أمام مشهد سياسي متشابك يثقله حالة من التجاذبات والمشاحنات السياسية المتواصلة، وسط أزمة صحية متفاقمة، وأوضاع اقتصادية واجتماعية متدهورة، وسيكون منوط بها التركيز على الملفات العاجلة وفك تعقيدات المشهد الحالي وفق رؤية مشتركة مع الرئيس قيس سعيد، ويُمكن استعراض أهم الملفات على أجندة الحكومة التونسية المقبلة، على النحو التالي:
• إدارة عملية الانتقال السياسي: عبر تفعيل آلية حوار وطني ينخرط فيه كافة المكونات السياسية وممثلي المجتمع المدني بغية إنهاء حالة الجمود الحالي وإطلاق عملية سياسية من شأنها أن تُفضي إلى مرحلة جديدة تُفرز مؤسسات دستورية قادرة على التعاطي مع متطلبات الواقع السياسي والاقتصادي والأمني، وتستفيد من دروس عقد كامل اتسم باضطرابات سياسية تخللتها فترات قصيرة من الاستقرار الهش. ولعل صياغة دستور جديد للبلاد أو على الأقل إجراء تعديلات جذرية على الدستور الحالي، سيشكل جوهر عملية الانتقال السياسي، بحيث ينص العقد الاجتماعي على إقامة نظام رئاسي أو شبه رئاسي عنوانه التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما يضمن عدم تكرار أزمة الرئاسات الثلاثة (رئيس الجمهورية – رئيس مجلس النواب – رئيس الحكومة) التي ميزت المشهد السياسي التونسي لحوالي عامين، نتيجة تغول الأخيرين على صلاحيات الأول المقررة بموجب الدستور، وبما لا يتفق مع كون رئيس الجمهورية يُنتخب بالاقتراع المباشر من الشعب.
وتبقى الإشكالية التي ستطرح نفسها على الساحة مستقبلًا هل تلك المتعلقة بأسبقيات المرحلة الانتقالية، فبينما يلمح الرئيس قيس سعيد لأسبقية التعديلات الدستورية، يرى بعض الفاعلين السياسيين وعلى رأسهم الاتحاد التونسي العام للشغل، الأولوية لإجراء انتخابات مبكرة تفرز برلمانا جديدًا يتولى مهمة مناقشة الدستور الجديد وإعادة صياغة النظام السياسي التونسي.
• التصدي للمخاطر الأمنية: تحدق بتونس جملة من التهديدات الأمنية النابعة من التداخل بين البيئة الداخلية المضطربة والتحولات الإقليمية السريعة؛ حيث استغلت حركة النهضة السيولة الأمنية لدول جوار تونس وانتشار القوات الأجنبية والمرتزقة، لحشد العناصر الإرهابية عبر الحدود الشرقية بغية إرباك مؤسسات الدولة وإحداث اضطرابات أمنية وحالة من الفوضى وعدم الاستقرار. وقد شهدت الأيام الأخيرة قيام حركة النهضة بتسهيل نفاذ عناصر تابعة لجماعة بوكو حرام النيجيرية، وجماعة الإخوان، ومقاتلين من أفغانستان، إلى داخل البلاد، في وقت نتنشط بعض المساجد التابعة للحركة لتوفير غطاء لقيادات تنظيم داعش.
وتمثل الارتباطات الأيديولوجية بين العناصر التابعة لجماعة الإخوان الإرهابية المنتشرة في مديني طرابلس والزاوية الليبيتين، وتمركز القوات العسكرية التركية والمرتزقة السوريين التابعين لها في الغرب الليبي، وتركز عناصر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بالجزائر، التحديات الأبرز أمام المؤسسات الأمنية التونسية.
• إقرار منظومة للإصلاح الاقتصادي: يقع على الحكومة الجديدة عبئ اتخاذ حزمة من الإجراءات الاقتصادية لتحريك الأزمة الأعمق التي اشعلت حركة الاحتجاجات في 25 يوليو الماضي؛ إذ سيكون مدى نجاح التفاعل معها وقطع خطوات جادة نحو التخفيف من أثارها وتداعياتها على المواطن التونسي أحد العوامل الأساسية في تقييم أداء الحكومة الانتقالية، فضلًا عن كونه محفزًا للاستقرار الأمني والسياسي.
• وضع حد لقضية الفساد: تضطلع الحكومة الجديدة بمهمة إجراء إصلاحات مؤسساتية هيكلية وإقامة منظومة تشريعية تغلق أبواب الفساد الذي ضرب جذور المؤسسات التونسية بما فيها القضاء، وانتشر بين كافة قطاعات الدولة الرئيسية، وتغلل وسط طبقة السياسيين، بالتزامن مع استمرار جملة مكافحة الفساد التي أطلقها الرئيس قيس سعيد وشملت أحزاب وسياسيين وقضاة وغيرهم، وفتح ملفات الرموز السياسية المسكوت عنها بما فيها ملفي الجهاز السري لحركة النهضة والاغتيالات السياسية.
ختامًا، يبدو أن النظام السياسي التونسي على اعتاب تغيرات جذرية بعدما بدأت الظروف تتهيأ لعملية انتقال سياسي على أسس دستورية وقانونية مختلفة، يتوقف إقرارها وبالتالي المدة المقررة للمرحلة الانتقالية على قدرة الرئيس قيس سعيد والحكومة الجديدة على اقناع الأطراف السياسية بها.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية