
تأمين الهيمنة.. تداعيات تحالف “أوكوس” على السياسة العالمية
في المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، وقع حدث بارز، سيكون له تداعيات على السياسة العالمية بأكملها. فقد أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا عن تشكيل شراكة أمنية ثلاثية موسعة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ (أوكوس) AUKUS، تشمل مساعدة أستراليا على حيازة غواصات نووية لأول مرة في تاريخها في ظل تنامي النفوذ الصيني في المنطقة. ولأهمية وخطورة هذا الاتفاقية وكونها انقلاباً استراتيجياً كبيراً فقد وُضعت في مصاف الأحداث الهامة الباقية في الذاكرة الحية مثل: حرب السويس في عام 1956، وزيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى الصين في عام 1972 وسقوط جدار برلين في عام 1989، والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والانسحاب الأمريكي الفاشل من أفغانستان في 2021.
بينما تم التوصل إلى الاتفاق وسط أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين الولايات المتحدة وفرنسا، فإن الجانب السلبي الرئيسي لتحالف “أوكوس” الجديد هو القطيعة مع قوة أخرى في غرب المحيطين الهندي والهادئ. حيث ستتخلى أستراليا عن خطتها البالغة 43 مليار دولار لبناء غواصات فرنسية تقليدية، على إثر ذلك اتهمت فرنسا كلا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة “بطعنها فى الظهر”، كما اتهم بيان رسمي سياسة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة “بغياب التماسك”.
الأمر بالنسبة لفرنسا الآن أصبح يتجاوز خسارة عقد عملاق لأنها تعلق أهمية كبيرة على دورها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ حيث تحتفظ بحوالي 7000 جندي ولديها ما يقرب من مليوني مواطن في أراضي جزر مثل كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية، ولذلك عملت دوما على بناء علاقة أوثق مع أستراليا. والبيان الصادر عن المشاورات الوزارية الأسترالية الفرنسية رفيعة المستوى في أغسطس الماضي عبر عن “قوة الشراكة الاستراتيجية” بين البلدين في العديد من المجالات، وشدد على “أهمية برنامج المستقبل للغواصات”. ومع ذلك، لم يتم إخطار فرنسا بالاجتماعات التي جرت حول اتفاقية الأوكوس على مدار ستة أشهر.
في المقابل، تدافع الدول الموقعة على الشراكة الأمنية بأنه ليس لفرنسا الحق في الإصرار على استمرار أستراليا في اتفاق شراء غواصات تم توقيعه في عام 2016 وأصبح متأخرًا كثيرًا عن الجدول الزمني، فقد أصبحت هذه الغواصات تكنولوجيا رديئة في مواجهة التهديد الصيني المتصاعد. ولكنه من المعقول أن يطرح الفرنسيون أسئلة حول سبب عدم إعطائهم إشعاراً مسبقاً حول تلك الصفقة الجديدة التي تفاوض عليها الحلفاء لمدة ستة أشهر من وراء ظهرها.
وبالتالي، يطرح الاتفاق الأمني الثلاثي، أسئلة كثيرة حول مدى قدرته في مواجهة صعود الصين؟ وهل سيعزز الاتفاق من مكانة بريطانيا العالمية؟ وتأثيره على مستقبل حلف شمال الأطلسي؟
أوكوس في مواجهة الصين
تتضمن اتفاقية الـ”أوكوس” مجموعة واسعة من أشكال التعاون الدبلوماسي والتكنولوجي والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي وتشكيل أسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية لأستراليا. وتعد الاتفاقية تحولا كبيرا بالنسبة للولايات المتحدة في تصميمها على مواجهة ما تعتبره تهديدا متزايدا من قبل الصين وبخاصة التحدي البحري الذي تشكله في المحيط الهادئ. ومشاركة أمريكا لا تقتصر على جواهر التاج للتكنولوجيا العسكرية ومحطة الدفع للغواصات النووية مع بريطانيا ولكنها تشير بقوة إلى التزامها طويل الأمد تجاه “منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة”.
وتؤكد الاتفاقية أن إدارة بايدن تعمل وفقًا لاستراتيجية المحيطين الهندى والهادئ التي صاغتها إدارة ترامب ورفعت عنها السرية في وقت سابق من هذا العام قبل أسابيع من تنصيب بايدن. وطرحت الوثيقة ثلاثة أسئلة رئيسية: أولاً، كيفية الحفاظ على التفوق الاستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندى والهادئ ومعارضة جهود الصين لإنشاء مجالات نفوذ غير ليبرالية جديدة. ثانيًا، كيفية منع كوريا الشمالية من تهديد الولايات المتحدة وحلفائها. وثالثًا، كيفية دفع عجلة القيادة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة.
وبالتالي، يظهر تشكيل أوكوس أن واشنطن تركز على العنصر العسكري في ردع الصين. ويؤثر هذا التشكيل أيضا، وإن بشكل غير مباشر حتى الآن، على روسيا، حيث تظهر دولة أخرى غير صديقة لموسكو (أستراليا) في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لديها أسطول غواصات نووية. وأصبحت أستراليا، القريبة نسبيا من بحر الصين الجنوبي، رابطاً لا غنى عنه في الخطط الأمريكية. وامتلاك غواصات نووية في المستقبل سيسمح لأستراليا بالقيام بدوريات طويلة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
كما أن مواجهة إصرار الصين المتزايد وتهديدها للقيم الغربية يحتم على الدول أن تعمل معا وأن فرنسا، بصفتها الفاعل الاستراتيجي الرئيسي في الاتحاد الأوروبي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لديها دور مهم تلعبه، حتى لو رفضت في بعض الأحيان نهج أمريكا المتشدد تجاه الصين.
وبشكل عام، تعد الشراكة الدفاعية التي تم تشكيلها حديثا محاولة محفوفة بالمخاطر من إدارة بايدن لاستعادة الهيمنة الأمريكية في العالم. فـ “أوكوس” يقيد الصين من جهة المحيط الهادئ، وظروف الانسحاب الأمريكي من أفغانستان خلقت مشاكل للصين (وبالتالي، لروسيا) من جهة الغرب، في آسيا الوسطى. على هذه الخلفية، تؤكد الصين على تزايد أهمية دور منظمة شنغهاي للتعاون في تحقيق الاستقرار في العالم والدور الخاص للتعاون الاستراتيجي بين روسيا والصين اللتين تشكلان نواة هذه المنظمة.
محاولة استعادة بريطانيا العظمى
قد تكون بريطانيا هي الطرف الأقل أهمية بين ثلاثي الـ”أوكوس” وهو الأمر الذي تجلى في قرار فرنسا بعدم استدعاء سفيرها في لندن ووصفها لبريطانيا بأنها العجلة الثالثة في الاتفاقية، إلا أن هذه الاتفاقية بالنسبة لرئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” توضح الدور المتغير لبلاده في العالم وتتناغم بشكل جيد مع جهود ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والترويج لـ “بريطانيا العالمية” وتشير لـ “الاتجاه نحو المحيطين الهندي والهادئ” على النحو الذي تم تبنيه في المراجعة الشاملة للسياسة الخارجية والدفاعية البريطانية التي نُشرت في مارس الماضي.
كما أن الصفقة ليست مجرد انقلاب سياسي لجونسون حول رؤيته لبريطانيا العالمية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، ولكنها بمثابة إهانة للرئيس الفرنسي ماكرون، الذي لم يكن لدى حكومته أي فكرة عن الاتفاقية. وعلى الرغم من أن ماكرون لن ينال تعاطفا كبيرا من البريطانيين كونه كان أكبر المتعنتين ضد بريطانيا خلال مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي في عام 2017. إلا أن الشماتة لن تجعل العالم أكثر أمانًا، لأن فرنسا حليف مهم للناتو وأحد أكبر المساهمين في الحلف، ولأنها أخذت بزمام المبادرة في المهام القتالية ضد الإرهابيين العاملين في منطقة الساحل والذين يشكلون تهديدًا مباشرًا لأوروبا، بما في ذلك بريطانيا، ففي 16 سبتمبر الجاري، قتلت القوات الفرنسية قائد تنظيم “الدولة الإسلامية” في الصحراء الكبرى عدنان أبو وليد الصحراوي.
وبالتالي، تتعالى الأصوات في بريطانيا بضرورة احتضان فرنسا من أجل تقوية التحالف الغربي وإنه يجب على جونسون أن يقترح على بايدن إدراج الفرنسيين في الاتفاقية الجديدة. ومن الضروري ألا تؤدي هذه الاتفاقية إلى مزيد من التدهور في العلاقات بين بريطانيا وفرنسا التي هي بالفعل في أدنى مستوياتها في الذاكرة الحديثة، مع وجود خلاف بين الحكومتين حول ضوابط الحدود بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبروتوكول إيرلندا الشمالية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن بريطانيا وفرنسا هما القوتان العسكريتان الرائدتان في أوروبا ولديهما مصالح استراتيجية مشتركة في منطقة جوار أشارت الولايات المتحدة إلى أنها تفقد الاهتمام بها بشكل واضح. وإن إحدى الطرق التي يمكن من خلالها للجانبين وضع علاقتهما على أسس أكثر ضمانًا هي أن يقبل جونسون عرضًا من الاتحاد الأوروبي باتفاق أمني ودفاعي جديد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
مستقبل حلف الناتو
تشكل كلاً من بريطانيا وفرنسا القوتين العسكريتين الأوروبيتين الرئيسيتين في حلف شمال الأطلسي، ويعتمد الحلف بشكل كبير على التعاون الطويل الأمد بين لندن وباريس للحفاظ على فعاليته. ولكن، دخول بريطانيا مع الولايات المتحدة وأستراليا في التحالف الأمني الجديد، تسبب في حدوث خلاف دبلوماسي كبير، ألقى بظلاله على الاتحاد الأوروبي الذي يقف الآن مع حلف شمال الاطلسي (ناتو) أمام معضلة سياسية قد تغير الهيكل الأمني الغربي وتخلق تبعات دولية على نطاق واسع. وقد تثير هذه التداعيات شكوكاً لدى شركاء حلف الناتو حول مستقبل الحلف واهميته.
وأمام هذه التطورات، فإن ما ضاعف غضب الاتحاد الاوروبي هو أن بريطانيا التي خرجت من عضوية الاتحاد هي الحليف الاوروبي الوحيد الذي تم دعوته الى تصدر الطاولة. وتجاهل الولايات المتحدة للاتحاد الاوروبي وحلف ناتو في اعلان المعاهدة الأمنية الجديدة قد يكون له تداعيات سلبية طويلة الأمد على رمزية ومصداقية المنظمتين. كما أنه يعد نوعا من أنواع الضغط على أوروبا وعلى رأسهم باريس التي تقود بمشاركة برلين تحركات تأسيس جيش أوروبي بدلا من الاعتماد العسكري المباشر على الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد كان إنشاء قوة دفاع مستقلة تابعة للاتحاد الأوروبي موضع نقاش لسنوات عديدة، لكنه فشل في خلق زخم كبير حوله بسبب الاعتراضات التي أثارتها بريطانيا، وكذلك عدد من الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية. وبالتالي فإن الاتفاق الأمني الثلاثي قد يحمل خطر انقسام الغرب الى شطرين أحدهم (انجلو ساكسوني) يفترض أن يضمن مواجهة الصين وآخر (اوروبي أطلسي) مع حلف الناتو لمواجهة روسيا. وهذين الشطرين يمثلان نظامي تحالف متوازيين ومختلفين مع وجود واشنطن عند نقطة الارتكاز.
وطالما استمرت التوترات بين لندن وباريس بشأن اتفاقية الـ”أوكوس”، فسوف تزداد احتمالية إنشاء الاتحاد الأوروبي لقوته المستقلة، وهي خطوة قد يكون لها تداعيات خطيرة على مستقبل الناتو. حيث أحيت بروكسل خططًا لتطوير قدراتها العسكرية الخاصة لتمكينها من التصرف بشكل مستقل عن الناتو. وتحدثت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” عقب الانسحاب الأمريكي الكارثي من أفغانستان، ودعت الاتحاد الأوروبي إلى تطوير قوته الخاصة لتكوين قوة عسكرية موازية للناتو تمنحها استقلالية قرار الحرب والانسحاب. وستتم مناقشة الخطة بمزيد من التفصيل في قمة الدفاع بالاتحاد الأوروبي التي من المقرر أن تستضيفها فرنسا العام المقبل.
وقد اعتبرت فرنسا أن إلغاء أستراليا صفقة الغواصات معها واستبدالها بأخرى أمريكية سيؤثر مستقبلاً على حلف الناتو الذي يعمل على مواجهة التهديدات الصينية – الروسية، لاسيما أن فرنسا لديها تحفظات على دور الحلف في الحرب على الإرهاب، وتحملها أعباء مواجهة التنظيمات المتطرفة بمفردها في دول الساحل والصحراء وسوريا والعراق، وأن أوروبا تدرك جيدا أن نتائج الحروب التي جمعت الناتو والولايات المتحدة تحملتها وحدها.
وتتمثل إحدى الأفكار التي تدور رحاها في أروقة الإليزيه بانسحاب فرنسا من هيكل القيادة العسكرية المتكاملة لحلف الناتو، وكانت فرنسا قد انسحبت من هيكل القيادة العسكرية للناتو العام 1966، واقتصر تواجدها على عضوية الحلف. وعادت للانضمام إليه عام 2009، بعد غياب دام 43 عاما.
وعلى الرغم من تصريحات ماكرون عام 2019 بقوله إن الناتو “ميت سريريا”، فإن فكرة انسحاب فرنسا من حلف الناتو ستكون خطوة “راديكالية”. وترى بعض التحليلات أنه حتى لو انسحبت فرنسا من الحلف فلن تخسر شيئاً، فهي تمتلك نفوذا في الشرق الأوسط تسعى للحفاظ عليه، لذا ستتحرك الفترة المقبلة في سياسات مستقلة خارج حلف شمال الأطلسي لتسهل على نفسها إقامة علاقات عسكرية مع روسيا وتجارية مع الصين، في ظل تراجع أهمية الناتو والتعاون العسكري بين الشركاء. وقد خطت الحكومة الفرنسية الآن خطوة أبعد في تصعيد مواجهتها مع بريطانيا بإلغاء القمة المزمع عقدها هذا الأسبوع بين فلورنس بارلي، وزيرة الجيوش الفرنسية، ووزير الدفاع البريطاني بن والاس.
ختامًا، إن اتفاقية الـ”أوكوس” قد تؤدي إلى تورط المملكة المتحدة في نزاع بين الصين وتايوان أو صراع بين الصين واليابان، وهو صراع ميؤوس منه عسكرياً واقتصادياً. ويبدو أن أمريكا – بايدن تسير نحو تغيير وتبديل جيوسياسي في علاقتها الدولية. والعالم مقبل على انعطافه جديدة وارتباط مختلف في تشكيل خريطة العلاقات الدولية، فما بعد أفغانستان يحمل الكثير من المفاجآت الأمريكية على صعيد الصراع مع الصين والحلفاء التقليديين، وتعقيد اشتباك الصراع في آسيا من تجاري ودبلوماسي الى نووي ساخن ومتوتر.