
الانتخابات الرئاسية.. ما وراء سحب الثقة عن الدبيبة
لم تخرج ردود فعل حكومة الدبيبة على قرار مجلس النواب في طبرق سحب الثقة عنها، عن السيناريوهات المتوقعة والتي تبقى للمفارقة متطابقة بشكل شبه كامل، فالحكومة سواء قبلت قرار مجلس النواب أم لم تقبله، ستظل في موقع المسؤولية حتى الانتخابات – المحتملة – في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل.
رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية القاطع لقرار مجلس النواب، واحتكامه للشارع الطرابلسي، وتصويبه بشكل مباشر على شرعية البرلمان ودوره الحالي، كشف بشكل أوضح خلفيات قرار سحب الثقة عن حكومته، وأظهر ملامح الاستراتيجية التي أتبعها على مدار 277 يوم، كانت فيها الحكومة تحظى بثقة المجلس.
الدبيبة أعلن من ميدان الشهداء في طرابلس مساء أمس، استمرار حكومته في أداء مهامها ورفضه قرار مجلس النواب، وهو إعلان رغم دلالاته يبقى توصيفًا لواقع ثابت على الأرض – سواء قبل الدبيبة أو رفض قرار مجلس النواب – فهي حكومة باقية في كل الحالات حتى الانتخابات المقبلة، لكن كان لافتًا توجيهه الدعوة للتظاهر غدًا في ميدان الشهداء رفضًا لقرار مجلس النواب، وهي دعوة تحمل في طياتها محاولة للاستقطاب، وعودة واضحة لمعادلة “الشرق والغرب”. من النقاط اللافتة في هذا الصدد دعوته لتظاهرات ضد المجلس غدًا تحت شعار “جمعة إسقاط مجلس النواب”، وهي الدعوة التي تلقفتها أطراف ليبية عديدة، تنتمي في غالبيتها العظمى لتيار الإسلام السياسي.
الجانب الرافض لقرار سحب الثقة
ردود الفعل في الداخل الليبي على قرار مجلس النواب كانت في مجملها – حتى الوقت الراهن – رافضة بدرجات متفاوتة لهذه الخطوة، رغم اختلاف توجهات واعتبارات الجهات الصادرة عنها. اللافت هنا أن بعض المجالس البلدية، – ومنها مجالس في المنطقة الشرقية – أصدرت بيانات رافضة لقرار البرلمان، منها بلدية طبرق، وبلديات أخرى في منطقة “البطنان” شرقي البلاد، بجانب المجلس البلدي في مدينة “مصراته”، وبلدية “زوارة”، وبلدية “واحة الكفرة” جنوبي البلاد، علمًا أن الواحة شهدت تظاهرة محدودة دعمًا للدبيبة.
الموضوعية تقتضي هنا الإشارة إلى أن هذه الأطراف لها تشابكات معينة مع حكومة الدبيبة، فمثلاً تعد مدينة مصراته من أشد الداعمين لحكومة الدبيبة – بالنظر إلى الاستقطاب القائم حاليًا بحكم الأمر الواقع – وقد خصص لها الدبيبة نحو 23 مليون ونصف المليون دينار في الباب الثالث من الميزانية العامة المقترحة، وهذا هو نفس الوضع في ما يتعلق بالبلديات الأخرى، التي كان قرارها في هذا الصدد متأثرًا بالوعود التي قطعها الدبيبة على نفسه إليها خلال جولاته الميدانية، خاصة في المنطقة الجنوبية.
المجلس الأعلى للدولة تصدر المواقف الرافضة لقرار مجلس النواب، فبعد التصريحات المتكررة لرئيسه خالد المشري حول هذا الموضوع – آخرها كان خلال الزيارة التي يقوم بها حاليًا إلى المغرب – أدلى عدد من اعضاء المجلس بمواقف مماثلة ترفض قرار المجلس، مثل صالح جعودة وعبد الرحمن السويحلي وعادل كرموس وعبد القادر الحويلي. ممثلي تيار الإسلام السياسي كان أساسيًا في موجة الرفض لقرار مجلس النواب، منهم كل من محمد مرغم وعلي الصلابي وعبد الرزاق العرادي، القياديين بجماعة الإخوان المسلمين وقيادات في حزب “الجبهة الليبية للإنقاذ”، بجانب سامي الساعدي أحد قياديي “الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة”.
الناطق باسم حكومة الدبيبة، محمد حمودة، تناول بشكل شامل المآخذ التي ترى حكومته أنها شابت قرار مجلس النواب سحب الثقة عنها، حيث تحدث عن عدم توفر النصاب الكافي لاتخاذ هذا القرار، مرتكزًا على عدة مؤشرات منها بيان أصدره نحو 39 عضو من أعضاء مجلس النواب، قالوا فيه أن عدد الموافقين على سحب الثقة كان 73 نائب فقط، وان النصاب القانوني لم يكن متوفرًا لحظة التصويت على هذا القرار. هنا لابد من الإشارة إلى أن أحد الأسماء التي ظهرت في هذا البيان، وهو النائب محمد العباني، نفى توقيعه عليه أو موافقته على ما جاء به.
كذلك يجادل بعض الرافضين لقرار سحب الثقة عن حكومة الدبيبة، بالقول أن أتفاق الصخيرات السياسي ينص على أن سحب الثقة يجب أن يكون بناء على طلب مقدم من 50 عضو من أعضاء مجلس النواب، يتم عرضه أولاً على المجلس الأعلى للدولة – الذي يعتبر نظريًا بمثابة الغرفة الثانية لمجلس النواب – ثم يتم بعد ذلك التصويت على سحب الثقة بحد ادنى 120 عضو. يضاف إلى ما سبق، اعتبار بعض المكونات المؤيدة لحكومة الدبيبة، أن مجلس النواب قام متعمدًا بعدم اعتماد الميزانية العامة المقدمة من هذه الحكومة، ما دفع الأخيرة إلى الأنفاق بشكل مؤقت وفقًا لقاعدة (12/1) من الميزانية المقترحة.
المعسكر الرافض لقرار سحب الثقة عن حكومة الدبيبة، ربما يرتكز في المرحلة الراهنة على اللجوء للشارع، والتصويب بشكل مباشر على “شرعية مجلس النواب”، خاصة في ظل استقطاب هذا المعسكر عدة أطراف سياسية هامة مثل تيار “يا بلادي”، الذي أعلن مشاركته في تظاهرات الغد، لكن تبقى احتمالات تزايد حدة التصعيد قائمة في حالة ما إذا أقدم مجلس النواب على خطوات إضافية في ما يتعلق بملف الحكومة، فعلى الرغم من تأكيدات رئيس مجلس النواب على أن حكومة الدبيبة قائمة كحكومة تصريف أعمال، إلا أن واقع الحال يقول أن احتمالية تكوين حكومة موازية في الشرق الليبي تبقى احتمالية قائمة، خاصة في ظل تلويح بعض المكونات الرافضة لقرار سحب الثقة، بإمكانية تفعيل الدائرة القضائية الدستورية بهدف بحث مدى دستورية وقانونية قرار سحب الثقة، وهي الخطوة التي حذرت منها لجنة الدفاع والأمن القومي في مجلس النواب، حيث أصدرت بيان تحذر فيه من فتح هذه الدائرة بصورة انتقائية، دون النظر في الطعون الخاصة بدستورية بعض قرارات حكومة الدبيبة.
حذر إقليمي من الأوضاع السياسية الحرجة في طرابلس
على مستوى المواقف الإقليمية والدولية من قرار مجلس النواب، يمكن القول أن هذه المواقف خلطت في مجملها بين تأييد وجود حكومة الوحدة الوطنية في حد ذاته، وبين رفض قرار مجلس النواب، وهي ثنائية جعلت لكل طرف من طرفي هذه الأزمة، فهمه الخاص للمواقف الإقليمية والدولية. هذه القراءة تظهر بشكل واضح في ما يتعلق ببيان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والذي كان رد الفعل الدولي الأول على قرار سحب الثقة عن حكومة الدبيبة، فقد أكد هذا البيان على أن حكومة الدبيبة تظل هي الحكومة الشرعية، وهو نص فسره المعسكر المؤيد لسحب الثقة على أنه لا يختلف مع معنى “حكومة تصريف الإعمال”، وفسره في المقابل الطرف الرافض للقرار على أنه “رفض ضمني لقرار سحب الثقة”.
هذه النقطة أثارها رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح، حيث قال أن رئيس البعثة الأممية للدعم في ليبيا يان كوبيش، قام بالاتصال به، وكان يظن أن الحكومة قد تمت إقالتها بصورة نهائية، لكن قال له أن الحكومة مازالت قائمة كحكومة تسيير أعمال، تستمر في تقديم الخدمات للمواطنين، وتعمل على إقامة الانتخابات في موعدها. اللافت هنا أن بيان البعثة الأممية، أحتوى على نقطة هامة، تتعلق بمناشدة البعثة مجلس النواب العمل على استكمال قانون الانتخابات النيابية، وهي إشارة مبطنة بأن البعثة تعتبر المجلس حتى الآن هو الجهة التشريعية الوحيدة في البلاد، وهو ما يخالف قناعة المجلس الأعلى للدولة.
المواقف الدولية حول هذا الملف صدرت بشكل شبه كامل من نيويورك، التي تحتضن أعمال الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بمشاركة كل من وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي. كليهما أكدا خلال لقاءاتهما المكثفة مع شخصيات دولية عديدة، على استمرار حكومة الدبيبة في أداء مهامها.
شملت هذه اللقاءات على المستوى العربي، لقاء مع وزير الخارجية الجزائري رمضان العمامرة، الذي أكد خلال اللقاء، وخلال حوار أجراه مع احدى القنوات الأمريكية، عن نظرة بلاده المتساوية لكل الأطراف الليبية، وعن استمرارها في دعم هذه الأطراف من أجل الوصول إلى انتخابات ديسمبر المقبل. التقى المنفي أيضًا بوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله، ورئيس وزراء دولة الكويت، الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، الذي أكد على دعم الكويت للمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطني، بجانب لقاء مع أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، وقد كان لأبو الغيط موقف لافت خلال مداخلته في مؤتمر متابعة تنفيذ مخرجات مؤتمر برلين، الذي احتضنه مقر البعثة الألمانية الدائمة لدى الأمم المتحدة، بمشاركة عدد من وزراء خارجية الدول العربية، بجانب وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة أنتوني بلينكن، وألمانيا هيكو ماس، وإيطاليا لويجي دي مايو، وفرنسا جان إيف لودريان.
اعتبر أبو الغيط في كلمته أن قيام مجلس النواب الليبي بسحب الثقة من حكومة الدبيبة يعد أمرًا مقلقًا، مضيفًا أنه رغم أن هذه الخطوة تعد ممارسة سياسية عادية في الظروف الطبيعية إلا أنه في إطار الوضع الليبي العام، يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة تغيير في مسار العملية السياسية، قد يؤثر على المنحى الذي أيده المجتمع الدولي من خلال مسار برلين ومجلس الأمن الدولي. أضاف أبو الغيط أن النقطتين الأساسيتين في هذا الصدد هي، إنه يجب الحرص على تجنب أي تأخير في عقد الانتخابات، وأنه يجب إيجاد حل لملف التواجد العسكري الأجنبي على الأراضي الليبية في أقرب فرصة.
عقب اجتماع متابعة تنفيذ مخرجات مؤتمر برلين، أدلى وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس بتصريحات صحفية، عبر فيها عن قلق الدول الأوروبية الأربعة المشاركة في هذا الاجتماع من التطورات الأخيرة في ليبيا، علمًا أن وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، أكد على دعم الولايات المتحدة للأطراف السياسية الليبية كافة، من أجل تنفيذ مخرجات مؤتمر جنيف، خاصة ما يتعلق منها بالوضع الأمني. هذا المعنى أكده مصدر مسؤول في الخارجية الأمريكية، الذي صرح لموقع قناة “الحرة” الأمريكية، أن دور الحكومة الانتقالية في ليبيا يتعلق بشكل أساسي بتنظيم الانتخابات في موعدها المحدد في ديسمبر المقبل.
تركيا.. تأييد واضح لحكومة الدبيبة
بمجرد صدور قرار سحب الثقة عن حكومة الدبيبة، بادر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بالاتصال برئيس الوزراء الدبيبة، وأعرب عن دعم بلاده الكامل له وحكومته، وهو الموقف الخارجي الأكثر وضوحًا في تأييد هذه الحكومة. هذا المعنى أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك خلال لقائه مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وقد كان لافتًا أن الملفات التي تم بحثها بين المنفي وأردوغان، قد تلخصت حسب بيان للمكتب الإعلامي للأول، على بحث ملف الانتخابات والمصالحة الوطنية وتنفيذ مخرجات مؤتمر جنيف، دون أدنى تطرق لملف القوات التركية والمرتزقة السوريين المتواجدين حاليًا على الأراضي الليبية.
لم يخرج الموقف التركي عن ما هو متوقع في ما يتعلق بهذه المسألة، فقد شهدت الصادرات التركية إلى ليبيا زيادة بلغت 58٪ في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، بما قيمته 826 مليون دولار، ومنذ أبريل الماضي زاد حجم الصادرات التركية إلى ليبيا، بنسبة 228 في المائة، مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، وقد وصلت قيمة الصادرات التركية إلى ليبيا بحلول يوليو الماضي إلى 1.3 مليار دولار أمريكي، يتوقع أن تصل إلى أكثر من 2 مليار دولار بحلول نهاية العام.
وقد شهدت الأيام الأخيرة الإعلان عن بعض التطورات المتعلقة بالجانب الاقتصادي بين الجانبين، منها إعلان قرب استئناف الرحلات البحرية بين مدينتي إزمير ومصراته، بحلول نهاية الشهر الجاري، وكذا البدء في تأسيس سوق لمدينة قونية التركية في مدينة مصراته الليبية، وهي خطوات سوف تتعزز اقتصاديًا وسياسيًا خلال زيارة أردوغان إلى العاصمة الليبية في أكتوبر المقبل، ضمن اجتماعات مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين.
الانتخابات الرئاسية.. في أذهان مكونات الشرق الليبي
كما سبق وتضمنت المادة المعنونة (تكريس الاستقطاب … ماذا بعد سحب الثقة من حكومة الدبيبة؟)، فإن ملف الانتخابات الرئاسية يبقى هو “ملف الظل” الأساسي في الأزمة الليبية حاليًا. هذا التوجه تعزز بعد ان أدلى النائب بمجلس النواب الليبي، صالح افحيمة، بتصريح قال فيه أن المستشار عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، أخبر نواب المجلس خلال جلسة التصويت على سحب الثقة، أن هذه الجلسة ستكون آخر جلسة يترأسها، حيث سيدخل في إجازة حتى الانتخابات المقبلة. وإذا ما وضعنا هذا التطور، جنبًا إلى جنب مع إصدار المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني، قرارًا يفوض فيه رئيس الأركان العامة الفريق عبد الرازق الناظوري، بمهام قائد الجيش حتى الانتخابات القادمة، نفهم أن كلا الرجلين “يلوحان” بإمكانية ترشحهما في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لهذا السبب كان اعتراض المجلس الأعلى للدولة، على إقرار مجلس النواب لقانون الانتخابات الرئاسية حيث تشير إحدى مواده إلى إمكانية ترشح أي عسكري أو مدني لمنصب الرئيس، شريطة توقفه عن أداء مهامه الرسمية قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وبالتالي هذا يضع كلا الرجلين ضمن احتمالية الترشح، رغم أن كليهما أيضًا وضعا في الاعتبار إمكانية عدم ترشحهما أو عدم فوزهما في الانتخابات، لذا كان قراريهما مؤقتين بمدة معينة، تتيح لهما العودة إلى منصبيهما الأساسيين بعد انتهاء هذه المدة.
خلاصة القول، أن الملف الليبي بات على مسافة قصيرة جدًا من العودة لمربع ما قبل عام 2020، وباتت الاحتمالات منذ الغد مفتوحة سواء على المستوى السياسي أو المستوى الميداني، وسط تنامي مطرد لحالة الاستقطاب التي تأتي في ظل ظروف صحية ومعيشية وأمنية صعبة، لم تفلح محاولات حكومة الدبيبة خلال أكثر من مائتي يوم في حلحلتها. السباق نحو انتخابات ديسمبر المقبل بات على أشده، لكنه أشبه بسباق يجري في صحراء واسعة، لا توجد بها نقطة محددة ينتهي عندها السباق، فالانتخابات في ظل الأوضاع الحالية باتت نفسها محل شك كبير.
باحث أول بالمرصد المصري