ليبيا

تكريس الاستقطاب … ماذا بعد سحب الثقة من حكومة الدبيبة؟

في خطوة لم تكن مفاجئة لمعظم المراقبين، صوت البرلمان الليبي، في جلسته المنعقدة اليوم في مدينة طبرق، على سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة. هذه الخطوة كانت محطة طبيعية لسلسلة من التفاعلات والتوترات التي دارت رحاها بين مختلف المكونات السياسية الليبية خلال الأشهر القليلة الماضية، وكان عنوانها الأساسي هو “تكريس الاستقطاب”.

رفع الثقة عن حكومة الدبيبة جاء بعد أن قام أحد عشر نائبًا من نواب البرلمان بتوجيه خطاب منتصف الشهر الماضي إلى رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح، يطالبون فيه بسحب الثقة عن هذه الحكومة، على خلفية فشلها في تحسين الواقع الخدمي والمعيشي للمواطن الليبي، رغم إنفاقها مبالغ طائلة، ومرور الجزء الأكبر من المدة الزمنية الممنوحة لها. وقد اتهم هؤلاء النواب حينها الدبيبة بالفشل في الالتزام بتعهداته أمام البرلمان خلال جلسة منح الثقة لحكومته في مارس الماضي.

تعزز هذا الخطاب، بخطاب آخر وجهه في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، 29 نائبًا من نواب البرلمان، يمثلون جميعًا إقليم “برقة”، طالبوا فيه بالتصويت على سحب الثقة من هذه الحكومة، التي اعتبروها حكومة مناطقية تكرس الانقسام والمركزية، كانت طريقتها في العمل بعيدة كل البعد عن الأسلوب التوافقي والتضامني الذي كان منتظرًا منها، كونها تسمى “حكومة الوحدة الوطنية”، وجاءت نتيجة لتوافق تم بين جميع الأطياف الليبية التي ضمها ملتقى الحوار الوطني.

على إثر هذا الخطاب، دعا مجلس النواب حكومة الدبيبة إلى جلسة استجواب في 30 أغسطس الماضي، تم تأجيلها بسبب وجود الدبيبة حينها في العاصمة الأردنية عمّان، ثم أقيمت هذه الجلسة في السابع من الشهر الجاري، وحينها اتضح بشكل كبير حجم الانتقادات الموجهة إلى هذه الحكومة، خاصة أن ردود حكومة الدبيبة على هذه الانتقادات لم تكن مقنعة لنواب المجلس، ما أفضى إلى تحديد جلسة لبحث سحب الثقة من هذه الحكومة أمس، تم تأجيلها إلى اليوم.

تم بالفعل سحب الثقة من حكومة الدبيبة، بعد تصويت 89 نائبًا بالموافقة، من إجمالي 113 نائب حضروا جلسة اليوم، علمًا بأن نحو 11 نائبًا لم يحضروا هذه الجلسة، قاموا في وقت سابق بإرسال خطابات إلى رئاسة مجلس النواب، يعلنون فيها موافقتهم على سحب الثقة من حكومة الدبيبة، لكن لم يتم احتساب أصواتهم ضمن الأصوات الموافقة.

بهذا باتت حكومة الدبيبة من وجهة نظر الجسم التشريعي الأول في ليبيا، حكومة تصريف أعمال، ستستمر في مهامها إلى حين إجراء الانتخابات التشريعية في الرابع والعشرين من ديسمبر القادم. جدير بالذكر ان البرلمان قرر كذلك تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق مع الحكومة حول الاتفاقيات والتكليفات والقرارات التي اتخذتها في عدد من الملفات، على أن تنجز أعمالها في غضون أسبوعين، وقرر المجلس أيضًا تشكيل لجنة لدراسة القانون رقم 10 لسنة 2014 بشأن انتخاب مجلس النواب، بهدف تقديم مقترح بالتعديلات اللازمة عليه، على أن تقدم مقترحها خلال جلسة تُعقد الأسبوع القادم.

تكريس “المركزية” و”المناطقية”

الانتقاد الأساسي الذي وُجه لحكومة الدبيبة على المستوى الإداري كان اتخاذها نفس النهج الذي اتخذته حكومة الوفاق الوطني السابقة، والذي كانت أبرز سماته هي “المركزية الشديدة”، حيث استمر الدبيبة في التركيز بشكل كامل على غرب البلاد خدميًا وإداريًا، مع بعض الاهتمام بالمنطقة الجنوبية، وتجاهل شبه تام للمنطقتين الشرقية والوسطى.

هذه المنهجية ظهرت بشكل كبير في التعيينات الدبلوماسية والقنصلية الأخيرة، التي كان أغلب المشمولين بها من مدينة مصراته والمناطق الغربية للبلاد، ناهيك عن أن هذا النهج تسبب في نشوب نزاعات مختلفة حول الصلاحيات داخل متن السلطة الليبية نفسها، وتحديدًا بين المجلس الرئاسي ووزارة الخارجية والتعاون الدولي؛ فقد أعرب رئيس المجلس محمد المنفي عن اعتراضه على إعفاء وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش للسفراء ورؤساء البعثات الليبية في الخارج مؤخرًا، ومنهم مندوب ليبيا الدائم في جامعة الدول العربية صالح الشماخي. 

المفارقة هنا أن مقر الممثلية الليبية في جامعة الدول العربية، شهد اشتباكًا بين عدد من الموظفين المؤيدين للمندوب المقال، مع موظفين آخرين تابعين لإيمان الفيتوري، المندوبة المعينة حديثًا. وقد كان فشل حكومة الدبيبة في توحيد المؤسسات الحكومية الليبية، واستمرار انقسام بعض هذه الهيئات، من أسباب اتباع هذه الحكومة للنهج المناطقي المشار إليه سابقًا، وتسبب في تبعات إدارية وامنية خطيرة، يمكن عدها مؤشرًا إضافيًا على تقلص هامش الثقة الشعبية والتشريعية في هذه الحكومة. 

من الأمثلة البارزة في هذا الصدد، ملف العلاقة بين المؤسسة الوطنية للنفط، ووزارة النفط المستحدثة في حكومة الدبيبة؛ فقد أصدر وزير النفط محمد عون في وقت سابق قرارًا تحت الرقم “35” بإيقاف رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله عن العمل، وهو ما قابله صنع الله برفض قاطع، وهاجم الوزير عون بشكل عنيف على وسائل التواصل الاجتماعي. اللافت هنا أن الدبيبة اجتمع بكلا الرجلين، وأصدر قرارًا تحت الرقم “292” يقضى بسحب قرار وزير النفط الخاص بإقالة صنع الله، وهو ما يضعف بشكل كبير الأداء الحكومي، ويجعله خاضعًا للخواطر والتسويات البعيدة عن المسارات القانونية والإدارية.

هذا المناخ انعكس على كافة المؤسسات الحكومية في العاصمة الليبية، حيث شهد مقر هيئة الرقابة الإدارية خلال الأسابيع الماضية اشتباكًا بين مجموعتين مسلحتين تابعتين لكل من وكيل الهيئة خالد سعيد، ورئيس الهيئة سليمان الشنطي، بسبب الخلاف حول صلاحيات كل منهما، علمًا أن الأول عينه مجلس النواب في طبرق، والثاني عينه رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري. وهذه الحادثة تعد فصلًا من فصول الخلافات المتفاقمة بين الجانبين، سواء على التعيينات الحكومية، أو على الصلاحيات التشريعية. هذا الواقع خلق قناعة بأن هذه الحكومة لا تمثل سوى جزء من البلاد فقط، وهذا انعكس بشكل كبير على التقدم في ملف “المصالحة الوطنية”، الذي انحصر التقدم فيه على محاولة الدبيبة الحصول على تأييد بعض المكونات الليبية التي كانت خلال الفترات الماضية خارج التفاعلات السياسية. 

المسار الأمني … خطورة متزايدة للأوضاع القائمة

ربما كان الأداء الأمني لحكومة الدبيبة من أبرز الملفات المتشابكة التي أفضت إلى وصول المسار الليبي إلى هذه النقطة الحرجة، فقد كان ملف المرتزقة والقوات الأجنبية والميليشيات، على رأس الملفات التي تعهد الدبيبة بالعمل على إيجاد حلول جذرية لها، إلا أن واقع الحال جاء عكس ما كان متوقعًا، فقد استمر وتكرس وجود القوات الأجنبية على أراضي البلاد، مثلها في ذلك مثل مئات المرتزقة السوريين الذي خرجوا منذ أسابيع في شوارع الأحياء الجنوبية للعاصمة طرابلس، للاحتجاج على عدم سداد رواتبهم المتأخرة، ثم هدأت ثورتهم واحتفلوا بعد ذلك بعد أن تلقوا هذه الرواتب، وسط زيارات متوالية ومستمرة لطائرات الشحن العسكرية إلى مطارات غرب ليبيا.

وقائع القرارات الأخيرة لحكومة الدبيبة، تشي بأنها “تجاهلت” ملفي المرتزقة والميليشيات، وقامت عوضًا عن ذلك بتأكيد قبولها للأوضاع القائمة في هذا الصدد، وتطويرها للعلاقات مع الدول التي تحتفظ بقوات أجنبية على أراضي البلاد، وهو ما يتعارض بشكل أساسي مع ملف توحيد المؤسسة العسكرية، وإعلاء سلطة القانون في البلاد، ويثير حفيظة أطراف ليبية عديدة، تسعى جاهدة لإخراج البلاد من دائرة الصراعات الإقليمية والدولية.

هذا النهج يظهر بشكل كبير من خلال توافق حكومة الدبيبة مع المجلس الرئاسي، لاستحداث منطقة عسكرية جديدة تحت اسم “المنطقة العسكرية بالساحل الغربي”، تم تحديد نطاق عملها ما بين الساحل الغربي الليبي والحدود التونسية، واللافت هنا أن قاعدة الوطية الجوية، التي تتمركز فيها وحدات عسكرية تابعة للجيش التركي، تقع ضمن هذه المنطقة. عُين لقيادة هذه المنطقة اللواء صلاح الدين النمروش، وهو أحد القادة العسكريين الليبيين الموالين بشدة لأنقرة. يضاف إلى ذلك تكثيف زيارة عدد من الضباط التابعين لحكومة الوفاق السابقة إلى تركيا، منهم رئيس الأركان السابق محمد الحداد، الذي عقد مؤخرًا لقاء مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، وخرج بعده يهاجم اللجنة العسكرية المشتركة.

خلال هذه الزيارة أكد آكار أن جنود بلاده في ليبيا ليسوا أجانب، وأنهم سيواصلون حضورهم هناك، وهو نفس الموقف الذي أكد عليه خلال الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة إلى أنقرة، والتي صاحبه فيها محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، وتم الاتفاق خلالها على عقد الاجتماع الثاني لمجلس التعاون الاستراتيجي الليبي – التركي، بحضور الرئيس التركي شخصيًا. 

العلاقة بين الدبيبة واللجنة العسكرية المشتركة، كانت أيضًا من أسباب تقلص الثقة البرلمانية فيه، حيث تمثل اللجنة العسكرية المشتركة – التي يطلق عليها لجنة 5 + 5 – الجهة الوحيدة التي حققت إنجازات على الأرض في المسار العسكري،  فقد داومت هذه اللجنة التي تم تشكيلها من قيادات عسكرية تابعة لكل من القيادة العامة للجيش الليبي، ورئاسة الأركان العامة التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها، على الاجتماع بشكل دوري في مدينة سرت، وحققت عدة خطوات متقدمة بشأن الملفات الميدانية التي تضمنها اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر الماضي، مثل إزالة الألغام الموجودة على الطريق الساحلي بين مدينة سرت وغرب البلاد، وتبادل الأسرى بين شرق وغرب البلاد.

الإنجاز الأكبر لهذه اللجنة كان الإعلان عن الفتح الكامل للطريق الساحلي الرابط بين شرق وغرب البلاد أواخر يوليو الماضي، وشروعها في التجهيز لفتح طريق أبو قرين – الجفرة، الذي يعد الطريق الرئيسي وسط ليبيا. شرارة الخلاف بين هذه اللجنة وحكومة الدبيبة، كان إصدارها بيانًا يطالب بسرعة تعيين وزير للدفاع، وكذلك إعلانها البدء في الإجراءات التحضيرية لإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من كافة الأراضي الليبية، ومخاطبتها المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، لتجميد كافة الاتفاقيات العسكرية ومذكرات التفاهم الموقعة مع أي دولة. 

تجاهلت حكومة الدبيبة بشكل كامل الرد على مطالبات اللجنة الخاصة بتجميد الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع دول اخرى، وهذا قد يعتبر بمثابة رفض ضمني على تناول الدبيبة وحكومته هذا الملف، خاصة أنه يتعلق بشكل أساسي بالاتفاقيات العسكرية مع تركيا، وقد بات من نافلة القول ذكر أن كافة المكونات السياسية وشبه العسكرية في غرب البلاد، أصبحت تنظر إلى هذه الاتفاقية على أنها “مسألة حياة أو موت”، وهي نظرة تعززها العلاقات الإيجابية المتصاعدة بين الدبيبة وأنقرة. وتجاهلت حكومة الدبيبة الرد على الأسئلة المتعلقة بملف الميليشيات الموجودة في غرب البلاد، خاصة تلك التي تعمل بشكل مستقل عن الأجهزة الحكومية ماليًا وإداريًا، مثل “جهاز دعم الاستقرار” و”الأمن العام” و”قوة الردع الخاصة”.

ملف الميليشيات شهد خلال حكومة الدبيبة استمرارًا للأوضاع السابقة، وتزايد عمليات الحشد الميداني في عدة مدن بالساحل الغربي الليبي، خاصة في مدن مثل العجيلات والزاوية ومصراته وطرابلس، لعشرات الميليشيات المسلحة التابعة لوزارة الدفاع والداخلية والمجلس الرئاسي، في مشهد يبدو مقدمة لما يمكن أن نطلق عليه “حرب إلغاء”، تتصارع فيها الميليشيات المختلفة على النفوذ والسيطرة، وهو مشهد يكرس الأوضاع الأمنية بالغة السوء التي تعيشها العاصمة، ويؤكد أيضًا فشل الحكومة الحالية في تمهيد الأرضية الأمنية أمام الانتخابات المقبلة. 

عمليات الحشد والاشتباكات المستمرة بين الميليشيات المختلفة طالت العاصمة نفسها، وتضمنت عدة اغتيالات لمجموعة من القيادات الميليشياوية، منهم طارق قلية، أحد قياديي ميليشيا “المحجوب” الموالية لتركيا، ونفذت هذه العملية عناصر تتبع إحدى ميليشيات مدينة الزاوية غربي العاصمة، وقد شهدت مدينة الزاوية عمليات اغتيال مماثلة. 

جدير بالذكر أن الصراع الأساسي داخل العاصمة يبقى بين طرفين أساسيين، الأول هو ميليشيا “جهاز حفظ الاستقرار” التي تتبع المجلس الرئاسي، ويقودها المدعو عبد الغني الككلي، وميليشيا “الردع” التي يقودها المدعو عبدالرؤوف كارة، حيث تبادلتا عمليات الاقتحام والاغتيال خلال الشهرين الأخيرين بشكل مستمر، ما جعل الوضع الميداني داخل العاصمة أقرب إلى الحالة التي كانت سائدة العام الماضي، خاصة أن عشرات الآليات والمقاتلين قد وصلت إلى العاصمة للمشاركة في هذا الصراع من مدينة الزنتان ومدن أخرى، وهو ما حوّل العاصمة إلى غابة للميليشيات، وعادت عمليات الخطف إلى الواجهة مرة أخرى، وكان آخر ضحاياها النائب الأول لعبد الحميد الدبيبة، الذي تم اختطافه لبضعة أيام أثناء وجوده في العاصمة.

الملف الخدمي … انهيار الآمال الكبيرة

جلسة استجواب الحكومة الليبية السالف الإشارة إليها، كانت معبرة بشكل كبير عن خيبة الأمل التي أصابت أغلب نواب البرلمان من أداء حكومة الدبيبة، التي -وإن كانت مؤقتة إلى حين عقد انتخابات ديسمبر المقبل- كان متوقعًا منها أن تقوم بحلحلة الأزمات التي يعاني منها المواطن الليبي منذ سنوات، وهو ما لم يحدث على أرض الواقع.

على المستوى الخدمي، ورغم إنفاق حكومة الدبيبة لما يناهز 48 مليار دينار بموجب اتفاق مع البنك المركزي الليبي، نظرًا لعدم إقرار البرلمان للميزانية العامة المقدمة من هذه الحكومة، الا أن القطاعات الخدمية الليبية كافة شهدت استمرارًا في التراجع والتدهور، على رأسها ملف مكافحة جائحة كورونا، حيث أنتقد بعض النواب فشل حكومة الدبيبة في تحسين أوضاع هذا الملف، خاصة فيما يتعلق بتوفير اللقاحات اللازمة لكافة المناطق الليبية، وكذا الخاصة بمن تلقوا الجرعة الأولى من اللقاحات، الذين لم يتجاوز عددهم حتى الآن نصف مليون شخص. 

ناهيك عن تصاعد أعداد المصابين في معظم المناطق، خاصة المناطق الجنوبية مثل واحة الكفرة، نتيجة لدخول البلاد في يوليو الماضي موجة جديدة من موجات هذه الجائحة، علمًا أن السلطات الطبية في البلاد مازالت حتى الآن غير متأكدة ما إذا كانت سلالات متحورة من هذا الفيروس قد دخلت إلى البلاد أم لا، بسبب عدم توافر المعدات الطبية الكافية في مراكز العزل والإيواء، التي عانت بدورها من تكرر حوادث انقطاع الأكسجين.

تضمنت الأسئلة التي تم توجيهها لحكومة الدبيبة في جلسة المسألة، ملف الكهرباء الذي رأى النواب أن الحكومة أخفقت فيه بشكل كبير، لاستمرار انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، ووجود شبهات فساد حول بعض عقود تطوير هذا القطاع. شملت الأسئلة أيضًا دور وتبعية وآلية عمل الهيئة العامة لرعاية أسر الجرحى والشهداء والمفقودين، وكيفية تعاطي الحكومة مع مشاكل القطاع الصناعي الليبي، خاصة المصانع المتوقفة عن العمل. يضاف إلى ذلك أسئلة تتعلق بقضايا خدمية اخرى، منها استمرار أزمة السيولة النقدية وضعف القوة الشرائية، وتأخر منح الموظفين الحكوميين رواتبهم خلال الفترات الماضية.

لجنة الخارجية والتعاون الدولي في البرلمان طرحت خلال هذه الجلسة العديد من النقاط حول طبيعة التمثيل الدبلوماسي الليبي في مؤتمر دول الجوار المنعقد مؤخرًا في الجزائر، وكذا عدم الإيفاء بوعود تقليص ضغط النفقات وتقليل السفراء بالخارج، وعدم إحاطة مجلس النواب بخطة استقرار ليبيا المعلنة في مؤتمر برلين الثاني بشأن ليبيا.

البرلمان ومجلس الدولة … علاقة مرشحة لمزيد من التوتر

رغم أن البرلمان الليبي استند في قراره سحب الثقة من حكومة الدبيبة، على المادة 194 من نظامه الداخلي، التي تنص على اعتبار الحكومة مستقيلة إذا ما قرر أغلب أعضاء البرلمان سحب الثقة منها، إلا أن هذا القرار أشعل مزيدًا من التوتر في العلاقة بينه وبين المجلس الأعلى للدولة، الذي يتنازع منذ سنوات مع البرلمان حول الصلاحيات التشريعية، حيث شكك بعض أعضاء المجلس في القاعدة القانونية التي استند عليها البرلمان في قراره، ورأوا أن الأغلبية التي يمكن من خلالها سحب الثقة يجب ألا تقل عن 120 عضوًا من أعضاء البرلمان، حسب ما نصت عليه الفقرة الخامسة من اتفاق الصخيرات السياسي. لذا لم يكن مستغربًا أن يصدر المجلس الأعلى للدولة بيانًا يعد فيه قرار البرلمان سحب الثقة من حكومة الدبيبة باطلًا ومخالفًا للإعلان الدستوري.

الخلاف بين الجانبين بدأ في التصاعد بشكل أساسي بعد إقرار البرلمان الليبي لقانون الانتخابات الرئاسية الشهر الماضي، فقد اعترض المجلس الرئاسي على هذه الخطوة، نظرًا لأنه يعتبر ان اتفاق الصخيرات السياسي، المضمن في الإعلان الدستوري عام 2015، ينص في المادة 23 منه على أن إعداد قانون الانتخابات العامة والاستفتاء على الدستور هو من اختصاص لجنة مشتركة لمجلس الدولة ومجلس النواب، وهو ما يرى المجلس أنه لم يحدث، في حين يرى مجلس النواب أن هذه اللجنة تم بالفعل تشكيلها واجتمعت في مدينتي القاهرة والغردقة خلال شهري يناير وفبراير الماضيين، وبحثت كافة القضايا المتعلقة بالمسار الدستوري.

الخلاف الأبرز بين الجانبين في هذا الصدد يبدو حول عقد الانتخابات نفسها، فمجلس النواب يرى ضرورة عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية معًا، في حين يرى المجلس الأعلى للدولة ضرورة عقد انتخابات تشريعية فقط، يتم قبلها أو بعدها فترة وجيزة الاستفتاء على الدستور، وهو توجه يخالف ما تم التوافق عليه في لجنة الحوار الوطني. هذا التوجه عبر عنه رئيس المجلس خالد المشري بشكل واضح خلال مؤتمر صحفي عقده مؤخرًا في العاصمة الليبي، قدم فيه مقترح يقضي بإجراء انتخابات تشريعية، تفضي لإنشاء مجلس نواب بغرفتين، مع تأجيل عقد الانتخابات الرئاسية إلى ما بعد الاستفتاء على مشروع الدستور.

في هذا الإطار يمكن قراءة إعلان المجلس الأعلى للدولة عن انتهائه من مناقشة القاعدة الدستورية للانتخابات، وقانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وعن نيته عرض ما توصل إليه على مجلس النواب من اجل المناقشة والاعتماد، وهو هنا يفرض وجوده على المشهد التشريعي، نظرًا لفشل ملتقى الحوار الوطني في إقرار القاعدة الدستورية للانتخابات حتى الآن، بجانب رغبة المجلس في اعتراض خطوة البرلمان الذي أقر في وقت سابق قانون الانتخابات الرئاسية.

ماذا بعد سحب الثقة

فيما يتعلق بالسيناريوهات المتوقعة للفترة القادمة في ليبيا، كنت في مادة سابقة قد أشرت إلى أنها تتلخص في ثلاثة سيناريوهات، هي:

  • السيناريو الأول هو اشتباك الغرب والشرق الليبي مرة أخرى، وبالنظر إلى حجم التسليح الذي باتت عليه القوى العسكرية المختلفة في الداخل الليبي، فإن هذا الاشتباك قد يتطور إلى حرب واسعة النطاق، وليست محصورة في تخوم العاصمة كما كان الوضع عليه سابقًا. 
  • السيناريو الثاني يتمثل في تدخل البرلمان، في حالة استمرار الوضع القائم، وقيامه بسحب الثقة من حكومة الدبيبة، وإعلانه تشكيل حكومة جديدة في شرق البلاد، ما يعيد المشهد السياسي إلى ما كان عليه العام الماضي، في ظل حكومتي “الثني – السراج”، علمًا بأن هذا السيناريو ألمح إليه رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح في حوار صحفي مؤخرًا. 
  • السيناريو الثالث، وهو الذي تحاول بعض القوى الإسلامية في لجنة الحوار الدفع في اتجاهه، هو عقد الانتخابات البرلمانية فقط نهاية العام الجاري، بحيث يتم قبلها أو بعدها بفترة وجيزة الاستفتاء على مشروع الدستور، وهو طرح يقتضي عدم إقامة الانتخابات الرئاسية، وبالتالي يضع خارطة الطريق السياسية تحت سيف التعديلات المستمرة، ما يطيل من أمد الأوضاع القائمة في البلاد.

تشير التطورات الأخيرة إلى تحقق السيناريو الثاني جزئيًا، حيث تم سحب الثقة من حكومة الدبيبة، لكن لم يتحقق النصف الثاني من هذا السيناريو، وهو إعلان البرلمان عن تشكيلة حكومية جديدة، وهو ما يبدو تحققه بعيد المنال، نظرًا لاعتبار البرلمان حكومة الدبيبة “حكومة تصريف أعمال”. هنا تظهر معضلة رد فعل الدبيبة على هذا القرار، فخياراته تنحصر في الوقت الحالي في خيارين أساسيين:

  • الأول هو رفض قرار مجلس النواب، واعتبار حكومته قائمة، وهو ما يفتح الباب واسعًا امام تشكيل البرلمان لحكومة موازية، تعيد البلاد إلى الانقسام الحكومي السابق. هذا السيناريو ربما يتضمن اتكاء الدبيبة على دعم بعض المكونات الليبية القبلية في غرب وجنوب البلاد، وهي مكونات تواصل معها الدبيبة بشكل مكثف خلال الأشهر الأخيرة. ويُتوقع أن يستند الدبيبة في موقفه على أطراف سياسية أعلنت رفضها لقرار البرلمان الليبي، مثل المجلس الأعلى للدولة، وشخصيات سياسية مثل عبد الرحمن السويحلي، الذي كان لافتًا اعتباره قرار البرلمان الأخير، محاولة لتصفية الحسابات من جانب قوائم أخرى كانت متنافسة مع قائمة الدبيبة خلال عملية تشكيل الحكومة الجديدة، وتحديدًا القائمة التي شكلها كل من رئيس البرلمان عقيلة صالح، ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا.
  • الثاني هو قبول قرار مجلس النواب، والاستمرار في موقعه كرئيس لحكومة تصريف الأعمال، وهو ما يجعله في صدام مع بعض مكونات الغرب الليبي، التي رفضت قرار البرلمان واعتبرته غير قانوني، مثل المجلس الأعلى للدولة. 

رغم هذا الوضع، إلا أن حلولًا وسطى يمكن أن تنجم عن بعض المبادرات التي ظهرت خلال الفترة الأخيرة، مثل مقترح عضوي المجلس الرئاسي موسى الكوني وعبد الله اللافي بعقد اجتماع موسع يضم الأطراف السياسية المعنية بالعملية الانتخابية وإنفاذ خريطة الطريق، بهدف تشكيل ميثاق وطني ملزم لكل الأطراف المشاركة، وهو ما قد يتضمن بحث حل وسط لأزمة سحب الثقة عن حكومة الدبيبة.

وأخيرًا، يمكن القول إن  الخلاف حول الرئيس المقبل للبلاد، هو النقطة الأساسية التي تنبع منها كافة الخلافات السياسية الحالية في ليبيا، خاصة مع بدء بعض الشخصيات السياسية مثل رئيس البرلمان عقيلة صالح، ورئيس الوزراء الليبي السابق علي زيدان، ونجل الزعيم الراحل معمر القذافي سيف الإسلام، عن نيتهم الترشح في هذه الانتخابات، ناهيك عن إمكانية ترشح شخصيات عسكرية ليبية في هذه الانتخابات، نظرًا لأن قانون الانتخابات الرئاسية الذي أقره البرلمان الليبي يسمح بذلك في حالة استقالتهم قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر. لذا يحاول تيار الإسلام السياسي باستماته الحيلولة دون إقامة هذه الانتخابات، والاكتفاء بعقد الانتخابات التشريعية، ولهذا كان رد فعل المجلس الأعلى للدولة، الذي يرأسه أحد أقطاب حزب العدالة والبناء المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، عنيفًا على إقرار  البرلمان قانون الانتخابات الرئاسية، بجانب شخصيات أخرى تنتمي لهذا الحزب، مثل العضو المؤسس فيه عبد الرازق العرادي.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى