السد الإثيوبي

ماذا يُتوقع من عودة ملف سد النهضة إلى الاتحاد الإفريقي بعد بيان مجلس الأمن؟

بعد مناقشة مجلس الأمن، في يوليو الماضي، لأزمة سد النهضة بين الدول الثلاث؛ كثاني مرة تعرض فيها القضية على المجلس، بعد أن تعذر التوصل لحل سلمي يراعي الاعتبارات والمصالح الاستراتيجية للأطراف المعنية؛ جاء البيان الرئاسي للمجلس في 15 سبتمبر الجاري ليؤكد على محدودية التوقعات بشأن إمكانية التوصل لحلّ حاسم في إطار مجلس الأمن، إلا أنها خطوة قانونية  ودبلوماسية تعيّن اتباعها في مسألة معقدة كتلك التي نحن إزاءها الآن؛ ليس فقط لكونها مهددة للسلم والأمن الإقليمي، بما يقع في نطاق ولاية المجلس؛ ولكن أيضًا لطرح الأزمة أمام المجتمع الدولي، خاصة مع حرص الجانب الإثيوبي على الإبقاء على الأزمة بين الدول الثلاث؛ ورفضه أيّ تدخل لأطراف أخرى إقليمية أو دولية.

ولم تحرص إثيوبيا على عدم تدخل أي طرف دولي في شكل وسيط، بل إنها كانت ترفض أي مراقب على المفاوضات، وابتغت من وراء ذلك المماطلة وإضاعة الوقت، لتفرض في النهاية أمرًا واقعًا جديدًا على دولتي المصبّ؛ تأبى الأخيرتان الرضوخ له بأي شكل من الأشكال. 

وجاء بيان المجلس داعيًا الأطراف الثلاثة للعودة إلى المفاوضات في إطار الاتحاد الإفريقي، مع إشراك المراقبين الذين يرتضيهم الأطراف الثلاثة مجتمعين، ذلك في وقت معقول. وأشار البيان إلى اتفاق المبادئ بوصفه المرجعية المناسبة، التي يمكن أن يستند إليها الأطراف في التفاوض. 

وشدّد البيان على أن هذا البيان لا يعد سابقة في أي من المنازعات للمياه العابرة للحدود، لكون قضايا المياه لا تدخل ضمن جدول أعمال مجلس الأمن، وهو الموقف الذي أكدّ عليه مندوب الهند، على نحوٍ يعكس التخوفات التي تعتري الدول الأعضاء في مجلس الأمن، من قيام المجلس بدور في هذا الصدد، قد يشكل سابقة قانونية، في ظل مشاكل المياه، التي يتورط بها الكثير من الدول الأعضاء بمجلس الأمن. 

” إعلان المبادئ”.. ضمانة للحقوق القانونية 

بعد سنوات من المفاوضات الفنية، التي كانت ترعاها وزارت الموارد المائية والزراعة في الدول الثلاث تنامى الإدراك أن الخلاف الأساسي ينبع من الخلافات السياسية والتعنت الإثيوبي؛ بما دفع القيادة السياسة المصرية لإدراج المفاوضات تحت رعاية رؤساء الدول الثلاث، عام 2014، بعد أن أصدر الرئيس السيسي وكل من هايلي ديسالين وعمر البشير، بيانًا مشتركًا حول القمة التي جمعتهم في العاصمة الغينية مالابو، تضمن ذلك البيان تشكيل لجنة عليا تحت إشرافهم المباشر لتناول جميع الجوانب الثنائية والقضايا محل الاهتمام المشترك.

واتصالًا بالتعاطي الدبلوماسي مع الأزمة، وقّعت الدول الثلاث “اتفاق إعلان المبادئ، مارس 2015″؛ في خطوة تدحض المزاعم الإثيوبية بشأن “السيادة المطلقة على النهر”، بما يمثل اعترافًا ضمنيًا بضرورة التواصل بغرض الإخطار وتبادل المعلومات وعدم القيام بأعمال من شأنها إيقاع ضرر بدولتي المصبّ، ناهيك عن الإقرار بمبدأ حسن النية في المفاوضات. 

فهذه الخطوة السياسية والقانونية، ضمنت حقّ دولتي المصبّ القانوني، بعدما أقدمت إثيوبيا على وضع حجر الأساس دون اخطار مسبق، بدعوى رفض كافة الاتفاقيات التاريخية التي تضمن الحقوق المائية لمصر والسودان. غير أن تلك الخطوة، هي التي أقرت بالحقوق التاريخية بشكلٍ ضمنيّ.

فإذا كانت إثيوبيا ترفض الاعتراف بحقوق دولتي المصبّ في التشارك المنصف والعادل، كما أقرته القواعد التاريخية والقانونية؛ فإنها أبطلت حجتها بالجلوس لتوقيع إعلان مبادئ، أقرت من خلاله بكلّ ما كانت تمعن في التحلل منه، منذ الإعلان عن إطلاق المشروع، في إبريل 2011.

ومنذ توقيع إعلان المبادئ، قطعت الدول الثلاث أشواطًا ماراثونية في مفاوضات، ساهمت في تفنيد كافة الحجج والبنود الفنية، دون أن تحدث أيّ تقدم ذي شأن، نظرًا للسلوك الإثيوبي، الذي ينطلق من دوافع سياسية، وشارك في التفاوض من أجل التفاوض، وليس الوصول إلى حلّ حقيقي.

وقد أكدّ مجلس الأمن على العودة إلى التفاوض في ضوء اتفاق إعلان المبادئ، بوصفه المرجعية القانونية التي يمكن أن يتسند إليها الأطراف في توفيق أوضاعهم. ذلك بالإضافة إلى التقارير المنفصلة للدول الثلاث، التي قدّموها لمكتب الاتحاد الإفريقي العام الماضي، وفشل الاتحاد في إصدار تقرير توافقي مشترك، لاستمرار الخلاف على بعض القضايا الفنية والتشغيلية.

” اللجوء لمجلس الأمن”.. خطوة على الطريق

بعد سنوات من المفاوضات الفنية والسياسية، انكشفت المراوغة الإثيوبية للمفاوض المصري، بما دفع القيادة السياسية للبحث عن خيارات أخرى من شأنها فرض ضغوطٍ على الجانب الإثيوبي الذي لن يفضي المسار التفاوضي معه إلى شيء. 

وكان طرح الرئيس السيسي للأزمة أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2019، الخطوة الأولى نحو تدويل الأزمة. ذلك بعد حرص شديد من الجانب الإثيوبي على إبقاء الأمر بين الدول الثلاث بوصفه شأنًا داخليًا وشأنًا من شؤون السيادة، لا مبرر لتدخل أطراف أخرى فيه، رغم إقرار إعلان المبادئ بذلك، حال فشل الأطراف الثلاثة في التوصل لحل. وعقب تلك الخطوة، تدخلت الولايات المتحدة والبنك الدولي، برعاية جولة من المفاوضات، فشلت في إشراك الطرف الإثيوبي للتوقيع على وثيقة الاتفاق النهائية في واشنطن 2020

وما بين فشل جولات واشنطن وانعقاد جلسة الأمن الأولى، في يونيو من العام الماضي، بذلت مصر والسودان العديد من المساعي الدبلوماسية والسياسية؛ بهدف تهيئة السياق الإقليمي والدولي على السواء. فاستطاعت مصر انتزاع دعم دبلوماسي من جامعة الدول العربية، في مارس من العام الماضي، وعملت على إيضاح موقفها في جولات مكوكية لوزير الخارجية سامح شكري لأغلب العواصم الأوروبية والإفريقية والعربية. 

وتوجهت مصر بخطابين لمجلس الأمن في مايو ويونيو 2020، وهي الجهود التي قابلها محاكاة من الطرف الإثيوبي، الذي راسل مجلس الأمن هو الآخر، ردًا على الخطابات المصرية. ونفس الخطوة اتبعها السودان، على نحو فرض القضية على المجلس الأمن، للاضطلاع بدوره، في أزمة من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين.

وبدوره، أحال المجلس القضية للاتحاد الإفريقي، العام الماضي، الذي بدوره أشرف على مفاوضات امتدت عامًا، في ظل رئاسة جنوب إفريقيا، لم تؤد للمرجوّ منها؛ بل اتجهت إثيوبيا للإعلان عن “الملء الأول”، يوليو 2020، بالتوازي مع سير المسار التفاوضي في إطار الاتحاد، ودون إخطار مسبق؛ على نحوٍ أوقع أضرارًا بالغة بالسودان.

وبعد نحو عام، وبعد تعطل مسيرة التفاوض برعاية إفريقية، التي استكملتها الكونغو الديمقراطية، الرئيس الحالي للاتحاد، والتي أعلنت في إبريل الماضي عن فشل المفاوضات؛ عادت الدول الثلاث لمجلس الأمن مرة أخرى، بعد دعوة السودان بمشاركة مصر لعقد المجلس لجلسة طارئة، بعد أن أعلنت إثيوبيا إقدامها على الملء الثاني، دون التوصل لاتفاق، ودون تبادل المعلومات الفنية مع البلدين.

وانحازت تونس، العضو غير الدائم بالمجلس، في دورته الحالية، والتي قدمت مشروع قرار للمجلس طالبت فيه بضرورة إلزام إثيوبيا بوقف الملء حتى التوصل لاتفاق. وبعد انعقاد الجلسة، في 8 يوليو الماضي، وتصاعد الترجيحات بعدم تقديم المجلس أية حلول منحازة للمصلحة المصرية السودانية، في ظلّ توزانات القوة والتقاطعات السياسية في إطار المجلس، والتي اتضحت بشكلٍ جليّ في مواقف الدول الأعضاء؛ بات البحث عن الخيارات التالية على خطوة “مجلس الأمن”، السؤال المطروح، ليس على صانع القرار فحسب، بل بات الرأي العام المصري-السوداني، يترقب ما هو قادم وما ينتظر شعبي وادي النيل في الأفق.

ومن بين خيارات وجهود متعددة، كانت خطوة اللجوء لمجلس الأمن؛ كخطوة دبلوماسية وقانونية، تضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته للحيلولة دون تفاقم الأزمة بما يهدد السلم والأمن من جهة، وانطلاقًا من المسؤولية الدولية، فإن مجلس الأمن من جهة أخرى هو الجهة التي من شأنها التدخل في القضايا التي تهدد السلم والأمن الدوليين. وبذلك، فإن الافتراءات الإثيوبية بشأن ولاية مجلس الأمن في ذلك النوع من القضايا، يبطله ما يترتب عليها من تهديد السلم، وهو صميم اختصاص المجلس وفقًا لميثاق الأمم المتحدة. وهو ما أوضحته كلمة الوزيرة السودانية، بدعوة المجلس لإرساء سابقة في الإنذار المبكر والدبلوماسية والوقائية.

لكن، كافة التفاعلات في إطار المجلس أشارت إلى تعذر استصدار قرار من شأنه إلزام إثيوبيا بالتزاماتها الدولية، مع تخوف الدول الأعضاء بالمجلس من أن يشكل سابقة قانونية، تمكّن المجلس من التدخل في قضايا المياه فيما بعد. وهو الأمر الذي أعاد الملف مرة أخرى للاتحاد الإفريقي.

العودة للبيت الإفريقي.. مسار غامض

كانت إحالة المجلس القضية مرة أخرى للاتحاد الإفريقي شيئًا متوقعًا بشكل كبير، لكن يظل السؤال، هل تعود مصر مرة أخرى للاتحاد، مع رسوخ قناعة بعدم إمكانية التوصل لحل في إطاره، بوصفها خطوة يجب تخطيها، وماذا بعد الاتحاد، حال فشله مرة أخرى في إرغام إثيوبيا على إبداء مرونة، وهو الأمر المتوقع، في ظل فشل الاتحاد في التدخل لحل الصراع الذي يهدد تماسك الدولة الإثيوبية؟

وقبل بيان مجلس الأمن بيوم، أجرى رئيس الكونغو، فليكس تشيسكيدي، الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي اتصالًا هاتفيًا بالرئيس عبد الفتاح السيسي؛ وأكدّ الرئيسان على أهمية دعم وتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين. واليوم التالي على البيان؛ استقبل وزير الخارجية المصري سامح شكري، نظيره الكونغولي”كريستوف لوتوندولا”، الذي يزور مصر في إطار جولته التي شملت أديس أبابا والخرطوم، بتوجيه من الرئيس الكونغولي، في رسالة تعيد الثقة والأمل في استئناف التفاوض. وخلال مؤتمر صحفي جمع الطرفين؛ أكدّ الوزير الكونغولي أهمية استئناف المفاوضات في أسرع وقت، مشيرًا إلى الجهود التي تبذلها الكونغو، بهدف دعم المفاوضات، من خلال توفير الهيئات التي تسهم في دعم القضية.

وأكد الوزير كذلك وضع بلاده جدول زمني للعملية التفاوضية، وفق ما أوصى به بيان مجلس الأمن. وبدوره شدّد الوزير المصري على أهمية وجود الضمانات الكافية، وعدم تعامل الأطراف الدولية بحسن نية فقط في تلك الأزمة، وكذلك دراسة مصر للمقترح الذي تقدّمت به الكونغو، معربًا عن تطلع في تلّقي الدعوة من الكونغو في أقرب وقت لاستئناف العملية التفاوضية.

وخلال كلمة شكري، أكدّ عنصر الوقت، بوصفه العنصر الحاسم والذي أكدّ عليه بيان مجلس الأمن، عبر دعوته لاستئناف المفاوضات في أسرع وقت ممكن، وكذلك التوصل إلى حلّ قاطع خلال وقت معقول، على نحوٍ يحول دون الإجراءات الأحادية، وسياسة الأمر الواقع. 

ورغم الجدّية التي تبديها الكونغو في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، وما تبذله من جهود على المستوى السياسي وكذلك الفني، على سبيل استقدام الهيئات وأصحاب الخبرات في قضايا المياه، فإن الإرادة السياسية لإثيوبيا، تظل حجر الزاوية. ومع صعوبة المجتمع الإفريقي والدولي على السواء في ممارسة ضعوط سياسية على إثيوبيا في أزمتها الداخلية، فمن غير المتوقع أن يحدث تغيير جوهري في سلوك المفاوض الإثيوبي.

أخيرًا، يعد اللجوء لمجلس الأمن، خطوة دبلوماسية وقانونية، تعكس الإدراك المصري السوادني التام للمسارات المتعبة، وكذلك سياسة الصبر الاستراتيجي والنفس الطويل، لاستنفاد كل الحلول، التي من شأنها الحيلولة دون اتخاذ الأزمة منعطفًا لن يحقق مصالح أي من الأطراف. فلا يزال التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، يضمن الحقوق القانونية والتاريخية في مياه النيل هو الهدف، وكذلك إرساء نموذج للتعاون في إطار حوض النيل، يضمن التصويت المصري على أية أعمال مستقبلية على منابع النيل، في إطار يحقق المصلحة والتنمية لكافة دول الحوض. 

ولا زالت العودة إلى الاتحاد الإفريقي محفوفة بالمخاطر، لكنها خطوة لا يمكن الفرار منها، لكن يتعين على صانع القرار، البحث عن الخيارات المستقبلية، مع الإيمان بعدم إمكانية الاتحاد الإفريقي لعب هذا الدور. ورغم تعثر الملء الثاني والتحديات التي تحيط بمشروع السدّ، على النحو الذي أعطى فسحة من الوقت لدولتي المصبّ، إلا أن الغاية النهائية من انتزاع اعتراف جماعي في حوض النيل، بحقوق دولتي المصبّ، هي الغاية التي لا يتعيّن أن تغيب عن الأذهان، في ظل التحديات المناخية والتنموية المستقبلية، التي تلاحق دول حوض النيل.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى