العراق

“مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” … خطوة تؤسس لمرحلة إقليمية جديدة

رغم المصاعب متعددة الأوجه، “جمعت” دولة العراق مجموعة من أهم الدول الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، بجانب رأس الدولة الفرنسية، على طاولة حوار واحدة، لتؤسس ” توجها إقليميا جديدا”، يعتمد بشكل رئيسي على تعظيم المصالح المشتركة بين دول المنطقة، وتقليل التوترات الثنائية التي تلقي بظلال قاتمة على مستقبل شعوب الشرق الأوسط، وتوفر بيئة خصبة للتطرف والإرهاب.

ربما يمكن اعتبار نجاح العراق في عقد هذا المؤتمر على الشكل المطلوب، في ظل ظروفه الاقتصادية والأمنية الحالية، بمثابة الإنجاز الأبرز الذي تحقق اليوم، حيث أستهدف العراق بشكل أساسي استعادة تأثيره الإقليمي خاصة على المستوى السياسي، خاصة أنه لم يشهد مؤتمرات على نفس هذا المستوى، منذ استضافته القمة العربية الثالثة والعشرين عام 2012.

انعقاد يعد انجازا في حد ذاته

مؤتمر اليوم كان تكريساً لتوجهات حكومية عراقية بدأت عام 2019، بهدف تنشيط الجهود الدبلوماسية والسياسية للدولة العراقية على المستويين الإقليمي والدولي، من خلال مجموعة من الزيارات والاجتماعات، أهمها تدشين اجتماعات دورية بين قادة العراق ومصر والأردن، كان أولها في مارس 2019، وثانيها في أغسطس 2020، واحتضنت بغداد الجولة الثالثة من هذه الاجتماعات للمرة الأولى في يونيو الماضي، وهي اجتماعات شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات التجارية والصناعية بين البلدان الثلاثة، وشكلت نموذجاً للتعاون العربي المشترك. يضاف إلى ذلك استضافة بغداد لمؤتمر رؤساء برلمانات دول جوار العراق في أبريل الماضي، ومؤخراً قيام عدد من المسؤولين العراقيين بعدة زيارات إلى دول المنطقة، خاصة المملكة العربية السعودية والأمارات العربية المتحدة والكويت.

على مستوى الحضور، تميز هذا المؤتمر إجمالاً بحضور مميز من جانب الدول المدعوة للمشاركة فيه، خاصة مصر التي مثلها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وفرنسا التي مثلها الرئيس إيمانويل ماكرون، وقطر التي مثلها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والأمارات العربية المتحدة التي مثلها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات ورئيس مجلس الوزراء، والكويت التي مثلها الشيخ صباح الخالد الصباح رئيس الوزراء. يضاف إلى ذلك تمثيل المملكة العربية السعودية عبر وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، وتركيا عبر وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلوا، وإيران عبر وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان. كذلك شاركت بعض المؤسسات الإقليمية والدولية مثل جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي.

من أهم الملامح التي يمكن ذكرها فيما يتعلق بهذا المؤتمر، اللقاءات الثنائية والثلاثية المهمة التي تمت بالتزامن مع انعقاده، خاصة اللقاء الذي جمع بين الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ووزير الخارجية الإيراني، وكذلك الاجتماع الذي جمع بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وأمير دولة قطر، بالإضافة إلى المباحثات التي جمعت بين رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وكبار الحاضرين كل على حدة، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني، الذي التقى أيضاً أمير قطر. لقاء رئيس الوزراء العراقي مع نظيره الكويتي كان من اللقاءات اللافتة، والتي ستساهم بشكل كبير في تحسين العلاقات بين الجانبين، وحل بعض الملفات العالقة بينهم مثل ملف تعويضات حرب الخليج.

هذه اللقاءات كانت لها أهمية خاصة بالنظر إلى طبيعة الأهداف التي ترغب بغداد في تحقيقها من خلال هذا المؤتمر، فمن ناحية تستعيد الدور العراقي على المستوى العربي والإقليمي، خاصة وأن نجاح بغداد في جمع كافة هذه الدول السالف ذكرها على طاولة واحدة، يمكن اعتباره “إنجازا دبلوماسيا”، قد يكون بمثابة فاتحة لبدء سلسلة من مبادرات التهدئة والحوار والتعاون على المستوى الإقليمي، ومن ناحية أخرى ستساهم قطعاً مثل هذه اللقاءات وما يتبعها من إجراءات سياسية واقتصادية في تخفيف وطأة التأثيرات الإقليمية السلبية على الوضع الداخلي في العراق، والنأي بالبلاد عن أية تجاذبات إقليمية تتخذ من المسرح العراقي ساحة للمواجهة

يضاف إلى ذلك، تعزيز الرغبة العراقية في تحسين العلاقات مع الدول المحيطة، وبشكل خاص دول الخليج العربي، حيث بدأ العراق منذ فترة في العمل على تطوير وتدعيم علاقاته مع المملكة العربية السعودية، فقبل أيام استقبل الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله وزير الخارجية السعودي نظيره العراقي فؤاد محمد حسين، حيث جرى خلال اللقاء استعراض أوجه العلاقات السعودية العراقية، وسبل دعمها إضافة إلى تعزيز التنسيق الثنائي المشترك، علماً انه قبل نحو شهر زار وزير التجارة السعودي ماجد بن عبدالله القصبي وألتقى بكل من الرئيس العراقي برهم صالح  ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وقبل هذه الزيارة بشهرين زار نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان العراق في زيارة تعد الأولى من نوعها، وسبقتها زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى العاصمة السعودية في مارس الماضي.

هذا المعنى عكسته الكلمة التي أدلى بها ممثل المملكة العربية السعودية في هذا المؤتمر، وزير الخارجية الشيخ فيصل بن فرحان، الذي أكد خلال كلمته دعم بلاده الكامل للعراق، وأشاد بالمنجزات التي حققها مؤخراً مجلس التنسيق السعودي العراقي في دورته الرابعة، وآخرها  افتتاح معبر عرعر الحدودي بين المملكة والعراق على مساحة مليون ونصف المليون متر مربع، وتأسيس صندوق سعودي عراقي مشترك يقدر رأس ماله بثلاثة مليارات دولار، لدعم الاستثمارات السعودية في العراق بمشاركة القطاع الخاص في كلا البلدين، بجانب تكثيف التعاون بينهما في مجالات الطاقة والطاقة المتجددة، والعمل على إنجاز مشروع الربط الكهربائي الرابط بينهما.

كلمة رئيس الوزراء الكويتي الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح عكست هذا الجو أيضاً، حيث أكد الصباح أن استقرار الأمن فى العراق يسهم فى استقرار المنطقة، مشددًا على أن العراق أحد الركائز الأمنية والاقتصادية فى المنطقة، مشيراً إلى إن علاقات بلاده مع العراق تسير بثقة فى كافة المجالات، مثمنا على تعاون بغداد فى إغلاق ملف المفقودين والأرشيف الوطني. في نفس الإطار جاءت كلمة أمين عام مجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف، الذي أكد ان المجلس يستعد لعقد مؤتمر جديد حول إعادة إعمار العراق، تدشيناً لتنفيذ مخرجات عدة اجتماعات تمت في هذا الصدد بين دول الخليج والعراق، بحيث يتم دعم جهود ربط شبكة الكهرباء في جنوب العراق بشبكة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون الخليجي.

الحفاوة الكبيرة التي استقبل بها رئيس الوزراء العراقي كل من الرئيس عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني عبد الله الثاني، كانت تأكيداً على العلاقات الاستراتيجية المميزة التي باتت تربط الدول الثلاث، خاصة بعد تدشين مشروع “الشام الجديد”، والاتفاق فيما بينهم خلال ثلاث جولات من المباحثات السابقة، على تفعيل التعاون الاقتصادي والتجاري بشكل أكبر. هذه العلاقة تناولها الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال كلمته في المؤتمر، حيث ثمن الإنجازات المهمة التي تحققت في العراق خلال الفترة الماضية، وسمحت بنجاح مؤسسات الدولة في التعامل الأمثل مع التحديات الكبرى التي واجهت الشعب العراقي، خاصة على المستوى الأمني. وقد أكد الرئيس السيسي أيضاً في كلمته على دعم مصر الكامل للحكومة العراقية في جميع جهودها الرامية لتحقيق استقرار العراق، واستعادة مكانته التاريخية ودوره العربي والإقليمي الفاعل، ورفض كافة التدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية، والاعتداءات غير الشرعية على أراضيها أيا كان مصدرها.

كان الوجود الأبرز على الجانب الأوروبي في هذا المؤتمر من نصيب فرنسا، حيث أعتبر الفرنسي  إيمانويل ماكرون عقد هذا المؤتمر “انتصارا كبيراً لدعم سيادة العراق”، وأكد في كلمته خلال المؤتمر ان عقده جاء “ثمرة للنقاشات بين باريس وبغداد”، وأن باريس ستبقى ملتزمة بدعم العراق على كافة المستويات، خاصة المستوى الاقتصادي عبر عدد من مشاريع البنية التحتية والتعليم والتدريب والصحة والطاقة والمياه، وكذا دعم الجيش العراقي في مهماته القتالية ومهام التدريب. سياسياً قال ماكرون أن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة سيرسلون مراقبين للانتخابات العراقية المقبلة، معتبراً أن عقد الانتخابات القادمة يبقى المسار الصحيح لدعم استقرار العراق، مشيداً بالتزام الحكومة العراقية بالجدول الزمني المقرر للانتخابات المقبلة.

أما فيما يتعلق بوزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، فقد ركز في كلمته على أهمية التعاون الأقتصادي بين بلاده والعراق، وأشار إلى استعداد بلاده للمساهمة في إنشاء بنية تحتية وطرق بين معبر “فيش خابور” الحدودي بين العراق وسوريا وتركيا، وبين العاصمة العراقية بغداد، وكذا إعادة تأهيل الطرق السريعة والسكك الحديدية بين بغداد والبصرة، وإنشاء منطقة صناعية في الموصل، وتطوير ميناء الفاو وتطوير المشاريع في مجال الري وإدارة المياه، وهذا الملف بشكل خاص يعتبر من أوجه الخلاف الأساسية بين البلدين. على الجانب الأمني جدد أوغلو رفض بلاده لوجود حزب العمال الكردستاني في العراق، وأعرب عن استعداد بلاده لدعم بغداد في مواجهة هذا الحزب. 

البيان الختامي لمؤتمر اليوم تضمن الإشارة إلى أن المشاركين فيه شددوا على ضرورة توحيد الجهود الاقليمية والدولية بما ينعكس ايجابا على استقرار المنطقة وأمنها، ورحبوا بالجهود الدبلوماسية العراقية للوصول الى ارضية من المشتركات مع المحيطين الاقليمي والدولي، وجددوا دعمهم لجهود الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وإجراء الانتخابات الممثلة للشعب العراقي. الأهداف الرئيسية للعراق من هذا المؤتمر لخصها وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في مؤتمر صحفي عقده بعد انتهاء فعالياته، حيث قال ان بغداد نجحت في الجمع بين جول بينها خلافات مهمة على طاولة حوار واحدة، وهذا سيؤثر بشكل إيجابي على الوضع العراقي الداخلي وكذلك على الوضع الأقليمي، بشكل يفتح مجال العمل المشترك في المحيط الإقليمي عبر الحوار بدلا من الصراعات. كذلك أكد  الوزير العراقي أن الدول المشاركة في المؤتمر التزمت بدعم العراق أمنيا واقتصادياً، وسيتم العمل على عقد مؤتمرات مماثلة في المدى المنظور، وتوسيع قاعدة المشاركة الإقليمية والدولية فيها.

إذن يمكن القول إن مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة يمثل خطوة مهمة تؤسس لمناخ إقليمي إيجابي، يتم فيه تحاور الدول بشكل مباشر بين بعضها البعض حول القضايا الخلافية المختلفة. بالطبع كانت التوقعات تشير إلى إمكانية عقد لقاءات بين الجانبين السعودي والإيراني، لكن بدا من تخفيض كل من السعودية وإيران لمستوى تمثيلهما في هذه القمة، أن الجانبين يرغبان في التريث في هذه الخطوة، أو على الأقل القيام بها بشكل مشابه للقاءات التي احتضنتها بغداد خلال الأشهر الماضية بينهما، لكن رغم ذلك تضمن المؤتمر عدة لقاءات مهمة بين ممثلي دول كانت ومازالت على خلاف كبير حول عدد من الملفات السياسية والاقتصادية، ويبقى الوقت هو السبيل الوحيد للحكم على هذه التجربة، ما إذا كانت ستتكرر وتستمر في الفترات المقبلة، ام تنضم إلى مبادرات سياسية واقتصادية مماثلة لم يكتب لها العمر الطويل.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى