
على سقف العالم في “كابول”.. هل جاء الدور على الصين في مقبرة الإمبراطوريات؟
“التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه غالبًا ما يكون بإيقاع واحد”.. ولذلك ما إن تيقنت بكين من خروج القوات الأجنبية من الأراضي الأفغانية المجاورة دون قيد أو شرط حتى بدأت في إعداد العدة للانقضاض على مواطن الفراغ، أما الطريق لتدشين الدخول الحصري بالنسبة لبكين فهو معروف ” طريق الحرير” المشروع الذي تراهن عليه السلطات في بكين.
أما طالبان التي ودعت الولايات المتحدة الأمريكية بكلتا يديها تبدو أكثر ترحيبًا بوجود صيني يملأ الفراغ الأمريكي، وحسب التقديرات فإن مشروع طريق الحرير والذي يستهدف ربط آسيا بأفريقيا وأوروبا عن طريق شبكات من الطرق البرية والبحرية سيكلف الصين حوالي 4 تريليون دولار. وذكرت مصادر مقربة من الحكومة الأفغانية أن السلطات في كابول كانت تعمل بدأب مع الجانب الصيني في محاولات لتمديد الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني والذي تبغ تكلفته منفردًا حوالي 62 مليون دولار وهو الجزء الرئيس من مبادرة الحزام والطريق والتي تتضمن بناء طرق سريعة وسكك حديد وخطوط أنابيب للطاقة بين باكستان والصين إلى أفغانستان. ويشار إلى النسخة الحالية من طريق الحرير بوصفها نسخة القرن الواحد والعشرين من الطريق القديم للحرير والذي سبق الاعتماد عليه في جلب البضائع إلى أوروبا وتدعيم النفوذ الصيني عبر القارات.
وحسب المعطيات الحالية فإن الصين بدلًا من أن تعادي طالبان من المحتمل أن تتعاون معها، وقد انعكس هذا على تصريحات الجانب الصيني التي أكدت فيها بكين أنها على استعداد للتعاون مع حركة طالبان بعد سقوط كابول، ذلك أن السلطات الصينية تدرك من جانبها أن بلدًا مثل أفغانستان عانى طويلًا من فوران الدماء من الصعب معاداة الحركة التي تقوم على حكمه، وإلا فلترحب بكين بعرقلة مشروع ” طريق الحرير”.
ولكن يبدو أن الصين تراهن على سراب، خصوصًا وأن أفغانستان ابتلعت من الامبراطوريات من هو أعتى، نذكر منها تاريخيًا امبراطورية إسكندر الأكبر وجنكيز خان وآخر السطر الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الوقت الذي خرجت فيه القوات الأجنبية بسرعة البرق تضع الصين أقدامها داخل البلد الإسلامي بحذر لعدد من الاعتبارات أهمها الخوف من الفشل ومخاطر التعاون مع نظام متطرف وحتى وإن كان الهدف النهائي لبكين هو أن ترث واشنطن في أفغانستان.
بكين.. المنقذ
يمكننا أن نضيف إلى ما تقدم أن الصين تقدم نفسها بصورة المنقذ وهو ما انعكس في تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية” هوا تشونينغ” في مايو الماضي عندما أشارت إلى أن تصاعد العنف في أفغانستان يرجع إلى الانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية دون أن تهيئ المشهد من بعدها.
ولذلك فإنه منذ الإعلان عن اتفاق الدوحة في فبراير 2021 سعت الدبلوماسية الصينية لملء الفراغات واحتواء كل ما هو سلبي من تداعيات. لأن بكين -وإضافة للمكاسب الاقتصادية التي تسعى إلى تحقيقها- تدرك أن انهيار دولة مثل أفغانستان يهدد استقرار الإقليم بأكمله؛ خاصة وأنها تتشارك مع أفغانستان في حدود طولها 80 كلم في منطقة شديدة الحساسية بالنسبة للسلطات الصينية وهي منطقة “تشينج يانج” التي تضم الأغلبية المسلمة المنتمية لقومية الإيجور. وما زاد المخاوف أن طالبان أصبحت بالفعل متحكمة في ممر واخان بالكامل مهددة مشروع طريق الحرير في مقتل.
ويمكننا الإشارة هنا إلى أن مشاريع الصين الاقتصادية في أفغانستان لا تقتصر على طريق الحرير فقط لأنه يعد أحد المشاريع الاستثمارية هناك أما المصالح الاقتصادية لبكين داخل البلد الآسيوي لا متناهية؛ فعلى صعيد واحد فقط تستثمر الصين 4 مليار دولار في منجم ” أيناك” للنحاس جنوب العاصمة كابول وعمومًا تبدو بكين قلقة للغاية حيال استثماراتها في قطاع التعدين في أفغانستان والتي تقدر بتريليونات الدولارات لأن الصين تبني مستقبلها الاقتصادي على معدن الليثيوم الذي تعد الأراضي الأفغانية من أغنى الأراضي به وهو المستخدم بشكل مكثف في الصناعات التكنولوجية والرقمية. وتظهر فرضية أخرى في مراكز الفكر الصينية تشير إلى أن استخراج المعادن من أرض بكر كأفغانستان سيكون عالي التكلفة مقارنة بعائده الاقتصادي وربما تحتاج في هذا الصدد إلى مساعدة طالبان.
طالبان لديها طموحات أيضَا
على جانب آخر لا يمكن النظر للعلاقات بين الصين وأفغانستان باعتبارها تعتمد على الطموحات الصينية فقط ويرجع السبب في ذلك إلى أن الجانب الأفغاني ممثلًا في الوقت الحالي في طالبان يدرك أن له مصالح جمة مع الجانب الصيني بل أنه يعلق عليه كل الطموحات الاستثمارية والاقتصادية وفي طريقها إلى هذا تعتمد طالبان على تمرير صفقة “أمن الحدود مقابل الاستثمارات”. ولكن السؤال هنا هو هل تثق الصين بما فيه الكفاية في هذه المعادلة، خصوصًا وأن لها تاريخ ” منعدم الثقة” بالحركة وتحديدًا في سبتمبر 2011 عندما وفرت قيادات في حركة طالبان ملاذًا آمنًا لمقاتلي الإيجور الذين يقاومون السلطات الصينية مقاومة مسلحة على حد تعبير الحكومة المركزية هناك.
والإجابة أن السلطات الصينية قد لا تتشكك في نوايا طالبان بقدر تشككها في قدرة طالبان على إدارة المشهد الأمني داخل أفغانستان، فطالبان التي تتلمس طريقها في إيجاد صيغة للتعامل مع داعش في ولاية خراسان لا تستطيع التحكم في المنشقين عن صفوفها والراغبين في الانضمام إلى داعش في خراسان مما يسبب القلق للسلطات الصينية خوفًا من انفلات الأمور خصوصًا أن محاولات بكين للحصول على قاعدة عسكرية في إقليم بادخشان الأفغاني باءت بالفشل. ولكن الصين التي تتحسس مواقع خطواتها جيدًا لن تورط نفسها في دعم كامل للمنظومة الأمنية في أفغانستان وعوضًا عن ذلك فقد تقوم ببعض عمليات التدريب المؤقت لوحدات من الأمن الأفغاني ويتماشى ذلك في أن الصين حديثة العهد للغاية في مسألة مكافحة الإرهاب على نطاق واسع لأنها ترغب فقط في تأمين حدودها.
ولكن يجب أن نضع في الاعتبار أن التقدم السريع لحركة طالبان لا يطمئن الحكومة الصينية لأن ذلك في نهاية المطاف سيؤدي إلى تعقد الأمور، ويرجع السبب في ذلك إلى أن سيطرة حكومة موالية للغرب بشكل كامل على أفغانستان يهدد مصالح الصين في تلك المنطقة وهي التي كانت تأمل في التوصل لاتفاق سلام يجمع الأطراف الأفغانية قبل الانسحاب الغربي الذي ترك الجمل بما حمل لطالبان. مع الوضع بالاعتبار أن تقدم طالبان السريع والمضطرد قد هدم طموحات الصين في هذا الاتجاه فأدركت أن الأمر متروك لطالبان برمته لتتحكم فيه كيفما شاءت مع نشوء مخاطر تتمثل في عدم استقرار الأوضاع بل والاتجاه إلى نوع من الاقتتال الأهلي بسبب الخلاف على نتائج الانتخابات التي ستعقد عاجلًا أم آجلًا.
الصين وحمى التنافس
يخطئ من يعتقد أن النفوذ الأمريكي في الصين سينتهي بانتهاء الانسحاب في سبتمبر القادم، لأن واشنطن لا تزال اللاعب الأقوى رغم الانسحاب وخصوصًا فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب وإن كانت واشنطن في استمرار مكافحتها للإرهاب قد تقوم بعمليات عسكرية من خارج الحدود الأفغانية إلا أن الصين ستظل بشكل أو آخر قلقة من طبيعة العمليات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية لأنه يشكل استمرار للنفوذ والهيمنة الغربية على أفغانستان مما يهدد مصالح الصينيين خصوصًا في ظل توقعات بأن تتحول أفغانستان لساحة مواجهة مفتوحة بين الهند وباكستان.
على الناحية الأخرى سينشأ تنافس بين الصين وروسيا على اقتسام الكعكة في أفغانستان على خلفية تضارب المصالح بين القطبين، فبكين التي حسمت أمرها ورسمت طريق المصالح وطريق الحرير عبر أفغانستان تسعى أيضًا إلى عقد تحالف مع أفغانستان وباكستان إضافة لطموحاتها بالحصول على قاعدة عسكرية متوجة ذلك بكيان اقتصادي وهو منظمة ” شنجهاي” للتعاون وهو ما يهدد النفوذ والوجود الروسي في منطقتي وسط وجنوب آسيا كمناطق نفوذ تقليدية وتاريخية للاتحاد السوفيتي ووريثته روسيا.
وفي الوقت الذي يتبنى اتجاه آخر أن بكين ستقوم باللعب على وتر باكستان التي طالما كانت الوسيط الموثوق بينها وبين أفغانستان في تحقيق مصالحها في كابول يرجح طرف آخر أن إسلام آباد فقدت بالفعل الكثير من نفوذها داخل أفغانستان بعد سيطرة طالبان على مقاليد الحكم وفي هذا الإطار فإن الصين لن تنجح في ضرب النفوذ الهندي في كابول عن طريق باكستان ولا شك أن الهند تعقد الكثير من الآمال على هذا السيناريو بعد تحولها إلى الطرف الأضعف في المعادلة الأفغانية بعد الانسحاب الأمريكي. وقد تسعى الهند إلى دعم جماعات مناهضة لطالبان داخل أفغانستان في الوقت الذي يتوقع فيه خبراء أن تحجم الصين عن إرسال قوات إلى هناك لأنها تدرك أن بنيتها التحتية وعتادها ستشكل أهدافًا سهلة بالنسبة إلى الصين.
ووسط كل هذه الاختلافات والخلافات يظهر للصين حليف داخل أفغانستان على الأقل فيما يتعلق بالطموحات، فالتقارب بين إيران والصين داخل أفغانستان يتعلق برفض النفوذ الغربي المتنامي في ذلك البلد وما يرتبط به من ضرب مصالحهما هناك.
وفي نهاية المطاف فإنه على الرغم من التصريحات المطمئنة من طالبان إلى الصين، فمازالت بيكين لا تثق بشكل كامل في الحركة، خشية من نتائج الفراغ الأمني الناتج عن انسحاب القوات الغربية. ورغم ذلك، ستحاول الصين العمل مع الحركة، وتعزيز استثماراتها في أفغانستان عبر باكستان. إدراكًا من بكين في أن تحقيق “الحلم الصيني 2050” يعتمد على سلمية واستقرار أفغانستان. فهل تنجح الصين حيث فشلت امبراطوريات العالم؟
باحث أول بالمرصد المصري