
روسيا وتطورات “الأزمة الأفغانية”
نجحت حركة “طالبان”، الأحد 15 أغسطس، في دخول العاصمة الأفغانية “كابل” والاستيلاء عليها. وقد علق “زامير كابولوف”، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى أفغانستان، ورئيس دائرة آسيا الثانية لدى وزارة الخارجية الروسية، الاثنين 16 أغسطس، مُعلنًا أن موسكو لديها خطة عمل احتياطية في أفغانستان. حيث قال “لدينا دائما في رؤوسنا وفي قلوبنا خطة (ب)، لكننا لسنا في عجلة من أمرنا أبدًا للاندفاع في الأمر. ومن ناحية أخرى، نحن لا زلنا نعمل وفقًا للخطة (أ)”.
وكانت روسيا أرسلت تعزيزات عسكرية للقاعدة “201” الواقعة في طاجيكستان، مطلع الشهر الجاري على خلفية تطور الأحداث الأخيرة في أفغانستان. كما عقدت روسيا مناورات عسكرية على المنطقة الحدودية مع أفغانستان بمشاركة دولتي طاجيكستان وأوزبكستان، واستمرت المناورات لأكثر من 10 أيام متتالية، بدءا من 30 يوليو إلى 10 أغسطس الراهن.
تلقت القاعدة العسكرية في هذه الأثناء تعزيزات عسكرية مُتعددة، اشتملت على دبابات عسكرية، ومركبات مدرعة خفيفة، ووحدات بنادق آلية، وأجهزة رؤية ومراقبة بانورامية، ومحطات راديو حديثة قادرة على البث في ثبات في ظل أي تأثيرات.
وفي غضون ذلك، صرح وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو”، خلال مفاوضات مع نظيره الطاجيكي، “شيرالي ميرزو”، أن بلاده أرسلت شحنات كبيرة من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى طاجيكستان وأن ذلك يأتي على خلفية تطورات الأوضاع في أفغانستان.
وأضاف شويجو، “إنه تم إرسال شحنات إضافية من الأسلحة والمعدات الروسية لتجهيز الجيش الطاجيكي”. كما أكد أن الجيش الروسي سيساعد الجيش الطاجيكي في عملية تدريب أفراد عسكريين مؤهلين. حيث يجري تدريب الضباط الطاجيك في الجامعات الروسية المتخصصة وفي القاعدة الروسية 201، التي تقع في مدينتي دوشانبي وبختار وتعد أكبر منشأة عسكرية روسية في الأراضي الخارجية.
ووفقًا لشويجو، فإن الجيش الروسي يولي اهتمامًا متزايدًا للإمكانيات القتالية للقاعدة الروسية، وتستعد الدولتان معًا لمنع التسلل المحتمل للمسلحين من أفغانستان.
أبرز تطورات المشهد الأفغاني
في إبريل 2021، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن أنه سيبدأ في سحب القوات الأمريكية من أفغانستان اعتبارًا من أول مايو، بهدف إنهاء أطول حرب أمريكية خارجية. رافضًا بذلك جميع دعوات الإبقاء على القوات الأمريكية لضمان حل سلمي للصراع الأفغاني.
وبدأت القوات الامريكية وقوات حلف الناتو، بتنفيذ الانسحاب الفعلي، بدءً من السبت الموافق 1 مايو، تاركين البلاد أمام مستقبل غامض يزداد سوادًا مع تقدم حركة طالبان في مقابل كل خطوة انسحابية تتخذها القوات الأجنبية على الأراضي الأفغانية.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت الانباء تتوالى عن انتصارات طالبان على الأرض وقهرها للقوات الحكومية الأفغانية. بالإضافة الى نجاحها في احتلال أبرز المواقع الاستراتيجية التي تركها خلفهم الأمريكيون والأوروبيون على رأسها قاعدة “باجرام” الجوية، وغيرها من المدن والأقاليم الأفغانية. واستمرت طالبان في التقدم وإعلان نجاحاتها واحدًا تلو الآخر، حتى امتد الأمر إلى نجاح طالبان أخيرًا، 15 أغسطس، في الدخول للعاصمة الأفغانية كابول وإسقاط الحكومة الأفغانية تمامًا بفرار الرئيس الأفغاني أشرف غني، واستيلاء طالبان على القصر الرئاسي. وسط فوضى عارمة، تابع العالم أجمع مشاهد منها عبر وكالات الأنباء العالمية ومواقع التواصل على مدار اليوم.
التحركات الروسية اثناء الأزمة
أجرى الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، الأحد 15 أغسطس، مكالمة هاتفية مع الرئيس الأوزباكستاني “شوكت ميرزيوييف”، ناقش الطرفان من خلالها التطورات الأخيرة باستفاضة، وتم الاتفاق على تكثيف التفاعل بين الوزارات والإدارات ذات الصلة بين البلدين. وكان “بوتين”، قد سبق وأعلن في أوائل يوليو من العام الجاري عن اعتزام بلاده تقديم الدعم العسكري للدول الأعضاء لدى منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ووعد بوتين كذلك بتقديم الدعم العسكري لطاجيكستان، بسبب تدهور الأوضاع على حدودها.
وصرح متحدث باسم وزارة الخارجية، 15 أغسطس، بأنه لن يتم إجلاء العاملين بالسفارة الروسية في كابول لأن الأوضاع لازالت آمنة أمام الدبلوماسيين الروس. ووفقًا لمصدر مقرب من قوات الأمن الروسية، فإنه من الممكن أن يتم إجلاء العاملون الروس من كابول إذا دعت الحاجة لذلك، وأن الأمر سيتم على غرار عملية الإخلاء التي تمت في عام 1992، وهي ما يتم الإعداد لها بالوقت الراهن. في غضون ذلك، أوضح مصدر مقرب من وزارة الدفاع الروسية إنه لم يتم أيضًا تنظيم عمليات نقل لقوات عسكرية روسية كبيرة بهدف مساعدة طاجيكستان وأوزبكستان. لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن وزير الدفاع “ٍسيرجي شويجو”، قد ناقش تطور الأوضاع في أفغانستان بمشاركة وزير الدفاع الأمريكي، “لويد أوستن”، وقادة عسكريين من الصين.
كما صرح “فلاديمير دجباروف”، النائب الأول لرئيس اللجنة الدولية لمجلس الاتحاد، 15 أغسطس، أن روسيا لن تتدخل في الشؤون السيادية لأفغانستان، لأنها دولة ذات سيادة. مضيفًا، أن الوضع في أفغانستان يحتاج لمناقشة عاجلة في الأمم المتحدة، لأنه من الواضح أن مصير كابول بات أمرًا مفروغًا منه، والجيش الأفغاني محبط تمامًا. ولفت فلاديمير، إلى أن بلاده لا تستبعد أن تهدد طالبان بالتوسع العسكري في دول آسيا الوسطى. لذلك تولي روسيا أهمية كبيرة لتعزيز الحدود الطاجيكية الأفغانية. لكنه أضاف، “يوجد سؤال رئيسي مُلح بالنسبة لنا اليوم هو إلى أين سيذهب اللاجئون من أفغانستان؟”، ويجيب عنه المسؤول الروسي بأن يلفت إلى أنه من المحتم أنه سيتوجهون إلى قيرغيزستان وطاجيكستان، وهو الأمر الذي يهدد بزعزعة استقرار الأوضاع في المنطقة برمتها.
وكان وزير الخارجية الروسي، “ٍسيرجي لافروف”، قد صرح خلال مقابلة أجراها مع وكالة “إنترفاكس” الروسية، 21 يوليو، أن بلاده لن تُرسل قواتها إلى أفغانستان ولا تُخطط لتوجيه ضربات محددة ضد الإرهابيين على أراضي هذا البلد. مضيفًا، “أنكم تخلطون بيننا وبين الأمريكيين أو بالتجربة التي جلبناها معنا من الحقبة السوفيتية”. وأوضح وزير الخارجية الروسي، إنه سيتم إجراء مشاورات فورية لتحديد الإجراءات المتبعة في حالة وقوع أي عدوان على دولة عضو في معاهدة الامن الجماعي.
بينما يرى “بيوتر توبيتشكانوف”، الباحث لدى معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، أنه سوف يتولد عن الأوضاع الجديدة حركة نزوح جماعية للاجئين، ومهام جديدة بخصوص كبح جماح الإرهاب، ومكافحة المخدرات، وضمان أمن البلاد، وجميعها مشكلات لن يتحتم على روسيا مواجهتها وحدها. إذ أنه سيتعين على روسيا وحلفائها في منظمة الأمن الجماعي، وشركائها كذلك أن يقوموا بصياغة استراتيجية لكل نقطة من هذه النقاط والاستعداد للإنفاق الهائل على تنفيذ كل نقطة من هذه المخططات. إذ أن روسيا وحدها لن يكون في مقدورها إحداث تأثيرًا كبيرًا على تطور الأحداث في أفغانستان.
ويذهب “فاسيلي كاشين”، الخبير في مجالات الصحة والسلامة والبيئة، إلى أن الصين بلا شك تُعد هي الشريك الرئيسي لروسيا فيما يتعلق بالاستجابة لتطور الأحداث في أفغانستان. ويرى أنه من المرجح أن خط الصين في التعامل مع الأزمة سيكون مشابهًا لخط روسيا، وسوف يحاول كلاهما التوصل إلى اتفاقات مع طالبان. لكن المشكلة الحقيقية، وفقًا للخبير، ستتمثل في أن أيًا من البلدين لا يملكان القدرة على ضمان وفاء طالبان بوعودها والتزامها باتفاقاتها.
ومن جهتها، ترى “إلينا بانينا”، عضو لجنة مجلس الدوما الروسي للشؤون الدولية، ومديرة معهد الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الدولية، أنه يوجد هناك فرصة للتوصل الى نوع من الاتفاق مع طالبان. ويضيف على رأيها، “سيميون باجداساروف”، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بموسكو “إنه من الضروري تقييم الأوضاع بعناية ودقة، نظرًا لأن؛ أولاً: طالبان على استعداد للتفاوض مع دول آسيا الوسطى بشأن عدم التدخل في شؤونها الداخلية. ثانيًا: إن أفغانستان تُمثل نقطة ضعف للصين وليس لروسيا”.
سيناريوهات محتملة
يذهب السيناريو الأول– الأكثر ترجيحًا- إلى أن تقوم روسيا بمساعدة الصين والقوى الدولية الفاعلة في ممارسة ضغوط كبيرة على طالبان لأجل التوقف عن إراقة الدماء والتحول إلى جماعة سياسية تمارس سلوكيات حضارية. وفي هذه الحالة سيتم استبعاد طالبان من قائمة الجماعات الإرهابية. وهو سيناريو مُحبذ ومدعوم وبدأ التحرك تجاه تنفيذ هذا السيناريو بالفعل، يتم في سياق انعقاد جلسة مجلس الأمن،16 أغسطس، حول تدهور الأوضاع في أفغانستان.
وفي هذا السياق، صرح “زامير كابولوف”، ممثل الرئيس الروسي للشؤون الأفغانية، “أن حركة طالبان لن يتم استبعادها من قائمة المنظمات الإرهابية إلا بعد صدور قرار مناسب من مجلس الأمن الدولي في هذا الخصوص”. لكن يظل هناك معوق رئيسي يحول دون التأكد من نجاحه، ذلك يتمثل في عدم وجود ضمانات على وفاء طالبان بتعهداتها والالتزام بتنفيذ مفهوم السلوكيات الحضارية أمام المجتمع الدولي، بالشكل الذي يشتمل على سبيل المثال، أن تحترم طالبان حقوق المرأة في المأكل والملبس والتعليم والمشاركة في الحياة الوظيفية وغيرها من الحقوق التي لا تُمنح سوى للرجال فقط، وغيرها من السلوكيات البربرية التي تنتهجها عناصر طالبان في شتى مناحي الحياة.
يتجه السيناريو الثاني، يقتضي ذلك بأن تقوم روسيا بمد القوات الطاجيكية والأوزباكستانية بما يلزم من أسلحة وعتاد لأجل مجابهة المد الطالباني على الحدود الشمالية لهم. كما يشتمل هذا السيناريو على مساعدة روسيا ودعمها المادي لهذه البلدان في التعامل مع موجات النازحين الأفغان لأنه من المؤكد أن تنجم أي مواجهات عسكرية بين تلك الأطراف عن موجات نزوح جماعي كبيرة. ويُعد ذلك سيناريو مطروحا بقوة ويجري ترتيبه وتنفيذه في الوقت الحالي. لكن يعوقه أمران؛ أولهما: هو احتمالية عدم كفاية هذا التدخل في مواجهة تنامي نفوذ حركة طالبان “الإرهابية” وفقا للتصنيف الرسمي الروسي. ثانيهما: وهو الأهم، هو موقف الأمريكيين والصينيين من هذه الإمدادات، والذي بالتأكيد سيكون معارضًا لها. بمعنى آخر، محتمل ألا يكون هذا الجهد كافيًا لكبح جماح الحركة ومنع تدفق اللاجئين مما سيتطلب معه تنفيذ جهدًا إضافيًا، أو ربما سيناريوهات أخرى.
ويخلُص السيناريو الثالث، إلى أن تقوم روسيا بالضغط على الحكومة الباكستانية لمنعها عن تقديم الدعم لحركة طالبان. وفي الوقت نفسه مساعدة الجبهة الداخلية المناوئة لطالبان –فلول الجيش الأفغاني المنحل- بتقديم العتاد والتدريب لهم وإعادتهم مرة أخرى إلى جبهة المواجهة المسلحة مع طالبان. ويعد هذا سيناريو غير مرجح بنسبة كبيرة، نظرًا لأن هناك ما يعوقه، وهو أن ذلك سينتج عنه انسياق البلاد نحو حرب أهلية مُحققة، وهو أمر لا ترغب روسيا في وقوعه، كما سيترتب عليه وجود أعداد هائلة من النازحين، وذلك أيضًا لا ترغب روسيا في وقوعه.
يوجد هناك كذلك سيناريو رابع، وهو السيناريو الأكثر جموحًا والأكثر استبعادًا في الوقت نفسه، والذي تقوم فيه روسيا –عند الضرورة القصوى- باحتلال الشمال الأفغاني عسكريًا، وتقسيم أفغانستان إلى دولتين، دولة الجنوب تحت سلطة طالبان، والشمال تحت إدارة السلطة الروسية. وهو سيناريو مستبعد لعدة أسباب، أولها عدم رغبة روسيا الانسياق في حرب جديدة. ثانيهما، أن المجتمع الدولي لن يصمت على هذا التدخل وسيبادر الغرب على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية باستغلال الفرصة لفرض عقوبات اقتصادية جديدة وموجعة على روسيا. ثالثهما، هو أن المجتمع الأفغاني نفسه لن يقبل بالوجود الروسي العسكري، ومن المرجح أن القوات الروسية حال وجودها هناك مرة أخرى ستلقى مقاومة شرسة سواء من طالبان أو من غير طالبان.
أما عن السيناريو الخامس، وهو سيناريو مُرجح بقوة كذلك، فيذهب إلى أن تكتفي روسيا بمعاونة الصين بممارسة الضغوط الدولية على طالبان ومحاولة تشذيب سلوكياتها باستخدام سياسة العصا والجزرة، بالإضافة الى تعزيز التواجد العسكري على الحدود الشمالية لأفغانستان ومتابعة إطلاق التحذيرات لطالبان بعدم محاولة المساس بأمن حدود الدول حلفاء الاتحاد الروسي.
بينما يأخذنا السيناريو السادس، إلى احتمالية أن تقوم روسيا بتغيير موقفها من حركة طالبان وتساعدها على البدء لتسويق نفسها عالميًا كقوة شرعية متوازنة لبلادها. ويأتي هذا السيناريو في ظل اللقاءات الرسمية التي بات العديد من المسؤولون رفيعي المستوى يقدمون على عقدها مع عناصر وقيادات من طالبان، بغض النظر عن أن القانون الروسي يضع هذه الحركة على قائمة المنظمات الإرهابية. مما يجعل من هذه المقابلات نقطة تمثل تضاد بين ما يعارضه القانون الروسي، وما يتم تنفيذه في الواقع.
وكان “ديميتري بيسكوف”، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، قد رد على سؤال طرحه عليه صحفيين من قبل، 9 يوليو، حول مدى استعداد روسيا للاعتراف بطالبان كحكومة أفغانية إذا تمكنت الحركة من السيطرة على كامل أراضي هذا البلد، بأن قال “لا يوجد استنتاجات نهائية واضحة حتى الآن. لذلك لا أعتقد أنه من الممكن الإجابة بطريقة او بأخرى على هذا السؤال”. لذا، فإن روسيا لم تؤكد هذا السيناريو وفي الوقت نفسه لم تنفيه أو تستبعده، وهو سيناريو مُرجح بنسبة كبيرة، لكن يظل هناك أمامه معوق رئيسي يتمثل في مدى إمكانية أن تقوم طالبان بالوفاء بتعهداتها.
باحث أول بالمرصد المصري