أوروبا

“مراجعة الإنفاق”.. لماذا خفضت بريطانيا مساهماتها في المساعدات الخارجية؟

السياسة ليست فقط فن الممكن، بل السعي وراء إظهار التضامن العالمي، والتباهي بالإنفاق والمساعدات الخارجية على التعليم والصحة والبنية التحتية. وعلى مدى سنوات، أشادت الحكومات البريطانية بالأهمية السياسية لبرنامج المساعدات الخارجية. وقال ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في خطاب ألقاه عام 2012: “لم تكن التنمية أبدًا تتعلق بالمساعدات أو الأموال فحسب، لكنني فخور بأن بريطانيا بلد يفي بوعوده لأفقر الناس في العالم”. ولكن، بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والضربة التي لحقت بالاقتصاد البريطاني من جائحة فيروس كورونا، دفعت الحكومة لاتخاذ قرارات متعلقة بخفض الإنفاق على المساعدات الخارجية، وهو القرار الذي قد يضعف الثقة ويقوض العلاقات بين المملكة المتحدة والدول النامية.

بخروجها من الاتحاد الأوروبي كان للمملكة المتحدة رؤية واضحة، فبريطانيا ستبدأ عهد جديد على صعيد العلاقات الدولية، سواء على المنحى السياسي أو الاقتصادي، ولدعم التطلع البريطاني تحتاج المملكة إلى تعزيز دورها خاصة في مناطق ذات اهتمام عالمي من الشرق الأوسط إلى أفريقيا، ولكن وسط ما تسبب فيه وباء كورونا منذ مطلع العام الماضي من أزمات اقتصادية أثرت على أقوى اقتصادات العالم، أعلنت لندن عن خفض مساعداتها الخارجية في فترة حساسة، إلا إن القرار قوبل برفض واسع في الأوساط السياسية في بريطانيا. 

ففي 13 يوليو، أقر البرلمان اقتراحًا يؤكد خفض ميزانية المساعدات، حيث تم التصويت لصالحه بأغلبية 333 صوتًا ومعارضة 298 صوتًا. وتزامن قرار الحكومة مع توقعات، بأن الاقتصاد البريطاني سيسجل انكماشا بمعدل 11.3% من إجمالي الناتج المحلي خلال العام الحالي، وهو ما يعني مواجهة أسوأ ركود اقتصادي تشهده بريطانيا منذ عقودا طويلة. ووفقًا لوزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك خفضت بريطانيا حصة المساعدات الخارجية من 0.7٪ من إجمالي الناتج المحلي إلى 0.5٪ حتى تحسن موقفها المالي.

 وظهرت الدعوات التي تطالب الحكومة بالتراجع عن تحركاتها لخفض المساعدات الخارجية. وقادت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي تمردًا على جونسون لإسقاط هذا القانون الذي ترى فيه إضرارًا بصورة ومكانة بريطانيا دوليًا، إلا أن جونسون نجح في تمرير القانون مستندًا إلى أغلبيته المريحة وقدرته على حشد الدعم في صفوف حزبه. ونزل القرار كالصاعقة على العشرات من مؤسسات العمل الخيري عبر العالم، خاصة أن بريطانيا تعتبر من أكبر الدول المانحة في مجال المساعدات الإنسانية، وسيدفع اللاجئون في الدول العربية والإسلامية الثمن الأكبر من هذا القرار الذي سيزيد من تعقيد وضعهم. وأعلنت مجموعة من الجهات الخيرية أنها ستساعد في سد الفجوة التي سيحدثها القرار، خاصة أن الخفض البريطاني يعادل نحو أربعة مليارات جنية أسترليني.

رسم بياني

بريطانيا العالمية

لعبت المملكة المتحدة دورًا رائدًا في إنشاء هيكل المؤسسات المتعددة الأطراف بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الأمم المتحدة. وكانت دائمًا داعم بارز للعمل المتعدد الأطراف لمعالجة الفقر والصراع والأزمات الإنسانية في العالم. وفي عام 2013، أصبحت المملكة المتحدة البلد الوحيد في مجموعة السبع الذي التزم بتقديم 0.7 في المائة من الدخل القومي الإجمالي في شكل مساعدات، حيث سعت إلى تعزيز “الخيط الذهبي” المتمثل في استقرار الحكومة وحقوق الإنسان وسيادة القانون والشفافية في الحكم العالمي.

تاريخيًا، كانت المملكة المتحدة واحدة من أكبر المساهمين في المساعدات الخارجية. لطالما كان يُنظر إليه داخل الحكومة على أنه جزء من الالتزام الأخلاقي للدول الأغنى بمساعدة الدول الفقيرة وكوسيلة لبناء روابط وثيقة مع الدول النامية. لكن التراجع عن تعهداتها المالية في تقديم مساعدات للدول الأكثر فقرًا قد يضر بالمملكة أكثر من نفعه. وبررت حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون القرار بصعوبة الموقف المالي الحالي المتأثر بجائحة كورونا، لكن وسط الدفع السابق بالانفتاح على العالم بعد بريكست يبدو أن القرار البريطاني يعاكس جميع المفاهيم التي قد تساعد على تأسيس بريطانيا لعلاقات أكثر في الشرق الأوسط.

رسم بياني

ويستمد الاهتمام بتراجع المساعدات الإنسانية البريطانية قوته من كون لندن ثاني أكبر مساهم في المساعدات الدولية، من حيث ناتجها الإجمالي، بعد ألمانيا (التي تخصص 0.73% من الناتج الإجمالي)، ووفقًا لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وهي نادٍ يضم في معظمه دولًا غنية، كانت المملكة المتحدة في عام 2020 واحدة من ستة بلدان فقط من بينها ألمانيا والسويد التي تحقق أو تتجاوز هدف ال 0.7 في المائة. وبالتالي فقد قوبل قرارها بخفض المساعدات الخارجية بصدمة من جانب العاملين في قطاع المعونة الذين اعتبروا المملكة المتحدة شريكا إنمائيًا موثوقًا به. وبدأوا يشكون في الاستراتيجية الدولية للمملكة المتحدة، خاصة أن كل تقليص في المساعدات سيؤدي إلى تراجع كبير في الميزانية العالمية المخصصة للعمل الإنساني، وخلال العام الحالي خصصت بريطانيا 14.5 مليار جنيه إسترليني لهذه المساعدات.

وقد تعهدت الحكومة البريطانية في المراجعة الحكومية الجديدة The Integrated Review، التي جاءت تحت عنوان “بريطانيا العالمية في عصر المنافسة”، بالعودة إلى الالتزام بإنفاق 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي على المساعدات عندما يسمح الوضع المالي بذلك. ولكن قرار الحكومة بخفض المساعدات الخارجية يقوض فكرة “بريطانيا العالمية”، ويرسل إشارة واضحة إلى العالم بأن المملكة المتحدة قد تراجعت خطوة إلى الوراء، تاركة فراغًا محتملًا في القيادة العالمية، خاصة أن خفض المساعدات يحدث في عالم يعيد التوازن ويتجه نحو الصين الصاعدة التي تسعى لكسب النفوذ من خلال مبادرات مثل دبلوماسية اللقاحات ومبادرة الحزام والطريق.

وكانت تأمل الحكومة البريطانية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، أن يشهد عام 2021 هيمنتها على الساحة العالمية وتعزيز علاقاتها مع الاقتصادات الناشئة، حيث استضافت قمة عالمية للتعليم مع كينيا في يوليو من العام، واستضاف رئيس الوزراء بوريس جونسون قمة مجموعة السبع في كورنوال ودعا إلى التعاون الدولي بشأن القضايا الرئيسية مثل التعافي من الوباء، وقادت المملكة المتحدة الدعوات لتطعيم سكان العالم ضد كوفيد-19 بحلول نهاية عام 2022. ومن المقرر أن تستضيف المملكة المتحدة الدورة السادسة والعشرون لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في نوفمبر المقبل.

وعلى الرغم من هذه الأحداث والمناسبات الرمزية، فإن خطة خفض المساعدات قد تخاطر بمكانة بريطانيا العالمية باعتبارها الدولة الوحيدة في مجموعة السبع التي تخفض التزاماتها، في حين أبدت كل من فرنسا والولايات المتحدة عزمهما على زيادة الإنفاق على المساعدات الخارجية في السنوات المقبلة. فضلاً عن أن تخفيض المساعدات البريطانية على المدى الطويل سيؤثر على القوة الناعمة التي اكتسبتها المملكة المتحدة بشق الأنفس كقائدة عالمية في مجال التنمية.

تداعيات خفض الإنفاق

أعلنت منظمة الصحة العالمية أن تقليص ميزانية المساعدات سيجعل ملايين الأشخاص عرضة للموت بسبب أمراض المناطق المدارية المهملة، وليس هناك مصدر بديل واضح للتمويل لسد فجوات التمويل التي سيتركها وقف البرنامج. كما سيطال تقليص حجم المساعدات دولاً من أكثر البلدان حاجة للدعم بالمنطقة في مقدمتها اليمن وسوريا وليبيا وجنوب السودان والصومال. كما أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” أن تمويلها سوف يتراجع بنسبة 60%، وانتقدت منظمة أطباء بلا حدود القرار الذي من شأنه أن يؤثر على الكثير من المشاريع المهمة بالنسبة لعمل المنظمة. وأعلنت لجنة الإنقاذ الدولية في بيان لها أن تمويل مشاريعها في سوريا سوف يتقلص بنسبة 75% بعد هذا القرار.

وفي اليمن حيث الأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم، فإن التزامات بريطانيا للمساعدة في تخفيف معاناة اليمنيين تراجعت خلال العام الحالي إلى 87 مليون جنيه إسترليني من 139 مليون جنيه في العام الماضي، والوضع نفسه ينطبق على اللاجئين الروهينغيا الذين تراجعت المخصصات الموجهة إليهم (321 مليون جنيه إسترليني) بنسبة 42%.

رسم بياني

ورغم تفاقم الفقر الشديد والصراعات في ظل جائحة كورونا، سيتم خفض المساعدات بمقدار النصف لكل من سوريا والصومال والكونغو الديمقراطية وجنوب السودان وليبيا ونيجيريا ولبنان. وستشمل التخفيضات خططًا لوقف ميزانية CSSF بأكملها في السودان، وهو صندوق لمكافحة الصراع وتعزيز الاستقرار والأمن، ويعد جزءًا من برنامج المساعدات البريطانية للسودان. وحذرت منظمة “كريستيان إيد” في جنوب السودان من أن التخفيضات على النطاق المبلغ عنها تأتي في وقت سيء بالنسبة لبلد يمر بأزمة. وقال مدير المنظمة في جنوب السودان جيمس واني إن “محادثات السلام تمر بمرحلة حساسة للغاية، وبدون تمويل لتحقيق السلام، قد تفشل المحادثات. وبدون السلام، لا يمكن أن تتحقق التنمية ولا أن ينجح العمل الإنساني”.

وتظهر الأرقام أن نسب التخفيضات ستكون 88٪ في لبنان و67٪ في سوريا و63٪ في ليبيا و60٪ في الصومال والكونغو الديمقراطية، و59٪ في جنوب السودان و58% في نيجيريا، وغرب البلقان 50 في المئة. وحذرت لجنة الطوارئ المعنية بالكوارث من المجاعة في العديد من تلك الدول، لأن الوباء يغذي الأزمة الاقتصادية والإنسانية القائمة. وقالت إن عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية في الصومال ارتفع بمقدار 700 ألف طفل وأن 190 ألف طفل لم يتلقوا التطعيم العام الماضي. ووفقًا للبنك الدولي، من المتوقع أن يقع 7 ملايين شخص آخرين في براثن الفقر هذا العام في نيجيريا.

كما حذرت عدد من وكالات الإغاثة العاملة في قارة آسيا وزير شئون آسيا بوزارة الخارجية البريطانية من أن تخفيضات المساعدات البريطانية بنسبة 42٪ مقارنة بقيمتها الحالية ستترك نحو 70 ألف شخص بدون خدمات صحية و100 ألف بدون ماء في مخيم كوكس بازار، أكبر مخيم للاجئين في العالم، قبل موسم الأعاصير المميت.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى