
إثيوبيا تقرر تقليص بعثاتها الدبلوماسية بالخارج.. الدوافع والمآلات
رتبت الحرب التي شنتها الحكومة الإثيوبية ضد إقليم التيجراي منذ نوفمبر 2020، جملة من التداعيات والتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية، التي أرهقت حكومة آبي أحمد، ووضعتها في مرمى الانتقادات الدولية والاستهداف بالعقوبات الاقتصادية. وها قد بدأت ملامح تداعياتها ترتسم بوضوح لتجسدها تصريحات آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي يوم 5 يوليو الفائت، كاشفًا عزمه تقليص البعثات الدبلوماسية بالخارج بنحو 30 سفارة وقنصلية، من أصل 44 سفارة و49 قنصلية حول العالم، قائلًا إنه “بدلاً من إلقاء دولارات أمريكية في كل مكان يجب إغلاق 30 سفارة على الأقل وأن يكون السفراء هنا بدلاً من ذلك”، كاشفًا أن الحكومة تقوم بتجنيد مجموعة كبيرة من الدبلوماسيين المحتملين الشباب والاستفادة من الجالية الأثيوبية في الخارج لتعزيز مكانة البلاد الدولية.
وفي حين ضرب آبي أحمد المثل بسفارة بلاده في كينيا التي رأى أن سفيرها يُمكن أن يقيم بأديس أبابا ويقوم فقط برحلات ميدانية عندما يكون في مهمة رسمية بينما يتابع الأحداث في نيروبي عبر وسائل الإعلام، سارع السفير الإثيوبي في كينيا إلى نفي إغلاق السفارة، معتبرًا أن تصريحات آبي ما هي إلا مثالًا، لكنها لن تطال كينيا تماشيًا مع أولويات سياسة أديس أبابا الخارجية التي تعطي أهمية أكبر للتكامل الإقليمي.
دوافع القرار الإثيوبي
بعثت وزارة الخارجية الإثيوبية برسالة مؤرخة في 7 يوليو 2021 إلى جميع المواقع الدبلوماسية الخارجية، أكدت فيها على الحاجة إلى إعادة الهيكلة المؤسسية بسبب جائحة كورونا والضغط الاقتصادي الذي أعقب ذلك، واعتبرت أن الهيكل المؤسسي الجديد سيكون لصالح تحسين أدائها. وجاء في الرسالة أنه سيتم إعادة أكثر من 300 موظف يعملون في السفارات المغلقة إلى بلادهم، وسيتم إغلاق سفارات وقنصليات في المملكة المتحدة وأنقرة واسطنبول ولوس أنجلوس، موضحة أن السفارات سيبقى بداخلها رئيس السفراء فقط، بينما في القنصليات سيُترك الخبير المالي والإداري لبيع ممتلكاتها وملحقاتها.
واستدعت أديس أبابا 18 من موظفي السفارة الإثيوبية في واشنطن العاصمة، كما تم استدعاء خمسة موظفين آخرين من البعثة الدائمة لإثيوبيا لدى الأمم المتحدة، مما أدى إلى خفض إجمالي عدد الموظفين في البعثة إلى ثلاثة، وتشير مصادر إلى أنه سيتم إغلاق القنصليات الإثيوبية في لوس أنجلوس وفرانكفورت ومينيسوتا وسيتم استدعاء الموظفين العاملين بها، رغم أن قرار فتح قنصلية عامة في مينيسوتا جاء بعد فترة وجيزة من اعتلاء رئيس الوزراء أبي أحمد منصبه في أبريل 2018. فيما لم يتم تقديم أي مؤشر عن أية سفارات وقنصليات ستندرج ضمن خطة تقليل النفقات ومقدار الأموال التي يوفرها هذا الإجراء.
ويُمكن الإشارة إلى مجموعة من العوامل التي دفعت آبي أحمد لتبني هذا القرار، منها:
• التداعيات الاقتصادية لحرب التيجراي: تضرر الاقتصاد الإثيوبي، الذي يعتمد بشكل كبير على السياحة والزراعة، بشدة من جائحة فيروس كورونا وانتشار الجراد الذي يعد الأسوأ منذ عقود. وجاءت حرب التيجراي في نوفمبر 2020 لتضيف ضغطًا إضافيًا على المالية العامة للدولة؛ إذ أفقدت البلاد حوالي 2.3 مليار دولار، مع التأكيد على أن هذا الرقم لا يأخذ في الاعتبار الإنفاق العسكري، وفقدان الوظائف، والوفيات والإصابات بين المدنيين، إلى جانب فقدان ساعات من الإنتاجية الاقتصادية بسبب فرار المدنيين من الخطر. وقد قدرت وزارة التجارة والصناعة الإثيوبية أن إغلاق المصانع ومواقع التعدين في التيجراي كلف الاقتصاد نحو 20 مليون دولار شهريًا.
ودفع القتال في التيجراي العديد من الشركات إلى تعليق عملياتها في المنطقة، بما في ذلك شركات المنسوجات الأوروبية والآسيوية، والأعمال التجارية الزراعية، وشركات التصنيع. وأشار تقرير شركة “Pangea-Risk” إلى أن النفقات المتعلقة بالأمن ساهمت في تدهور ملحوظ في التوازن المالي واحتياطيات إثيوبيا من النقد الأجنبي. وفي بلد يعتمد اقتصاده بشكل كبير على المساعدات الخارجية، كان لتعليق الاتحاد الأوروبي 109 مليون دولار من المساعدات، وامتناع الولايات المتحدة عن 130 مليون دولار من دعم الميزانية حتى يتم السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى منطقة تيجراي، تأثيرًا مفاقمًا للصعوبات الاقتصادية.
وكان صندوق النقد الدولي قد توقع أن يحقق الناتج المحلي الإجمالي الإثيوبي نموًا نسبته “صفر بالمائة” بالقيمة الحقيقية خلال عام 2021. وفي مارس وضعت موديز التصنيف الائتماني لإثيوبيا عند “B2 –” ما يعني أنه عالي المخاطر. وتعاني إثيوبيا من أعباء الديون التي تتطلع إلى إعادة هيكلتها في إطار الإطار المشترك لمجموعة العشرين لتوفير فترة سماح تصل إلى ست سنوات وتمديد أجل الاستحقاق عشر سنوات. وفي ظل تلك الصعوبات، يشكل تزايد انعدام الأمن أكبر تهديد للتعافي الاقتصادي والقدرة على تحمل الديون.
• ضعف الروابط السياسية: يبدو أن حجم الاتفاق في المصالح السياسية سيلعب دورًا مُحددًا لماهية المنشآت الدبلوماسية التي ستُغلق؛ فاستنادًا إلى توترات سياسية مُعلنة، دعا الإثيوبيون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى إغلاق السفارة الإثيوبية في أيرلندا، ويرجع ذلك إلى أن الدولة العضو غير الدائم في مجلس الأمن بدأت عدة مناقشات بهدف ممارسة ضغوط دبلوماسية وسياسية على إثيوبيا فيما يتعلق بالحالة في التيجراي. وعلى نفس المنوال، تشير المصادر إلى أن قرار سحب 18 موظفًا من مقر السفارة بواشنطن مع إبقاء السفير، يرجع لدعم الولايات المتحدة للجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، ومحاصرة حكومة آبي أحمد سياسيًا واقتصاديًا على خلفية تعارض المصالح الجيوسياسية، ومحاولة واشنطن قطع طريق الحرير وطرد الصين من القرن الأفريقي.
• رؤية آبي أحمد للتكامل الدبلوماسي في القرن الأفريقي: فبعد بضعة أشهر من توليه السلطة، اقترح آبي أحمد أن الدول في القرن الإفريقي يمكنها تقاسم الأدوار الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم لتوفير التكاليف ودفع أجندة مشتركة إلى العالم، وقال خلال كلمته بالمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس (يناير 2019): “ليست هناك حاجة لوجود سفارة أجنبية في سويسرا لكل دولة من دول شرق إفريقيا. يمكننا المشاركة لأننا فقراء. علينا تخصيص تلك الموارد لتغيير حياة مجتمعنا. نحن نعمل من أجل تكامل المنطقة”.
مؤشرات وتداعيات
يرتب القرار المتوقع تنفيذه بعد سبتمبر 2021 عندما تؤدي الحكومة الجديدة اليمين الدستورية، مجموعة من التداعيات الممكن الإشارة إليها على النحو التالي:
• يعكس القرار تراجع السياسة الخارجية على قائمة أولويات آبي أحمد خلال المرحلة المقبلة، لصالح قضايا السياسة الداخلية، كالحرب في التيجراي، والأمن في ظل تصاعد الانقسامات والتوترات العرقية، جنبًا إلى جنب مع قضايا الاقتصاد والتنمية لاحتواء الغضب الشعبي المتصاعد وإعادة توحيد البلاد، مع التركيز في السياسة الخارجية على المسائل الملحة والمرتبطة بالأهداف الداخلية، كالقضايا الحدودية وأزمة سد النهضة. وحتى في تلك القضايا لا تلقي الحكومة الإثيوبية بالًا لوجهات نظر المجتمع الدولي، وهو ما اتضح في إصرار أديس أبابا على عدم اختصاص مجلس الأمن الدولي بنظر قضية سد النهضة، وتجاهل كافة عروض الوساطة الدولية.
• يؤثر القرار بشكل كبير على العلاقات الدبلوماسية القديمة لإثيوبيا، كونه يبعث برسالة سلبية إلى الدولة المضيفة جوهرها عدم الاكتراث بتعميق العلاقات الثنائية، وهو ما ينعكس مباشرة على مستويات المصالح السياسية والاقتصادية والتجارية، فعادة ما تلعب سفارات البلدان النامية أدوارًا رئيسية في جذب استثمارات أجنبية مباشرة وزيادة وصول سلعها وخدماتها إلى الأسواق للمساعدة في تنمية اقتصاداتها. وفي عالم يعتمد بشكل متزايد على بعضه البعض، تحتاج الدول إلى تقييمات دقيقة للفرص والمخاطر والتطورات المحلية لنظرائها بما يتيح لها صياغة سياسات اقتصادية وسياسية وأمنية تخدم مصالحها الاستراتيجية، وهي معلومات رغم إمكانية جمعها باستخدام التكنولوجيا الحديثة، إلا أنها لن تكون بالدقة والجودة ذاتها حينما يكون للدولة أشخاص موجودون على أرض الواقع.
• يؤثر غياب السفارات والقنصليات على التوفير الفعال للخدمات والحماية القنصلية للجاليات الإثيوبية بالخارج التي تقدر بأكثر من 2.5 مليون لا سيما في أمريكا الشمالية وأوروبا والشرق الأوسط.ختامًا، يكشف قرار آبي أحمد حجم المأزق السياسي والاقتصادي الإثيوبي وتأثيراته بالغة الحساسية على علاقات أديس أبابا الدبلوماسية، وهي تداعيات مرشحة للتفاقم في ظل ورود معلومات تفيد بإلغاء الحكومة الإثيوبية قرارها السابق بوقف إطلاق النار في التيجراي وإصدار أوامر للجيش بالتحرك لمواجهة الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



