مكافحة الإرهاب

عرض كتاب : نظرة على الحركة “السلفية” في الاتحاد الروسي

عرض- داليا يسري

في كل قضية دولية عامة، مثل أي قصة أخرى، عادة ما يكون هناك زاويتان للرؤية، أحدهما ظاهرة للعيان، والأخرى مخفية في الزوايا الخلفية الرمادية اللون، والتي دائما ما تتوارى عن الأنظار. ولطالما مثلت العلاقة المتشابكة بين دولة الاتحاد الروسي والإسلام والمسلمين نقطة تقع في تلك البِقاع الرمادية، التي لا هي واضحة حد الرؤية المعلومة المفهومة، ولا هي مظلمة حد العتمة التي تستحيل معها رؤية أي شيء. 

لذلك، يستهل الدكتور عمرو الديب، المحاضر والباحث الأكاديمي لدى معهد العلاقات الدولية والتاريخ العالمي، بجامعة إقليم “نيجيني نوفجورد” الحكومية الروسية، والذي يشغل، في الوقت نفسه، منصب رئيس مركز خبراء “رياليست”، للدراسات الاستراتيجية في نسخته العربية، كتابهُ الصادر عن المؤسسة المصرية الروسية للعلوم والثقافة بالقاهرة، بعنوان “الحركة السلفية- الوهابية في الاتحاد الروسي”، شارحًا طبيعة التشابك بين روسيا والإسلام والمسلمين، ساردًا العديد من التفاصيل في هذا السياق، أملاً في إضفاء المزيد من الإضاءة على هذه النقاط الرمادية المُتشابكة.

ويلفت الديب في كتابه، إلى أن الإسلام هو ثاني أكثر الديانات انتشارًا في الاتحاد الروسي بعد الأرثوذكسية. ويعيش في روسيا نحو 20 مليون مسلم، وهذا العدد يمثل نحو 15% من مجموع السكان. كما لفت الكاتب إلى أن ما توصل إليه باحثو الجامعة المالية الحكومية الروسية في العام 2014، واللذين قدروا استنادًا إلى حقيقة النمو السكاني للمسلمين في روسيا في الفترة ما بين 2000 -2014، قد تضاعفت بمعدل ثلاث مرات تقريبًا من 5.5% إلى 16%، في حين توقع رئيس مجلس المفتيين في روسيا، “راوي عين الدين”، أن تتضاعف نسبة المسلمين في بلاده خلال الأعوام الـ 15 القادمة لتصل الى مجموع 15% من السكان، وطبقًا لهذه الوتيرة، فإننا نقف الآن أمام حقيقة مفادها أن المسلمين سيمثلون 80% من السكان بحلول عام 2050. 

وينفي الديب في كتابه أي إساءة من الاتحاد الروسي صادرة بحق المسلمين، بل على العكس من ذلك، فهو يشير إلى أن روسيا بلد مُتعدد الديانات، والمسلمون الروس يعتبروا من سكانه الأصليين. لكن كأي حكومة في العالم يجب أن يكون كل الشعب بجميع أطيافه ودياناته وثقافته محافظين على وحدة الأراضي التابعة للوطن، الذي يشملهم وأن يكونوا موالين له. أما المنظمات الإسلامية، التي تتعارض مع الاتحاد الروسي لسبب أو لآخر فهي محظورة تمامًا. 

ويدلل الديب على ذلك، بأن يلفت إلى تصريح الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين” في سبتمبر 2015، “إن الإسلام التقليدي جزء لا يتجزأ من الحياة الروحية لبلادنا”. ولقد قال هذا التصريح في مناسبة افتتاح مسجد موسكو الكبير. وجدير بالذكر أن بوتين اختص في كلمته الإسلام الحقيقي بمفهومه المتسامح الودود، لكن الإسلام الراديكالي الذي تم تحريفه على يد الجماعات المتطرفة، فهذه النسخة تقف أمامها كل سلطات الدولة الروسية السياسية والأمنية. 

تأويل مصطلح “السلفية-الوهابية”

وينطلق بعد ذلك الديب، في شرح المقصود من مصطلح “السلفية-الوهابية”، المذكورة على عنوان الكتاب. ويقول، أن الدولة الروسية الحديثة عادة ما تُطلق هذا المُصطلح على مجمل فروع الإسلام العدواني المتطرف، والتي يُنظر لها على اعتبار أنها خطرًا على أمن روسيا. ويحمل هذا التعريف طابع سياسي أكثر منه عقائدي، فهذا الكتاب بين أيدينا، يتناول في الأساس، التيار السلفي الوهابي من الناحية السياسية وليست الدينية، وهي لفظة تشتمل على كل التيارات الإسلامية المتطرفة التي تحارب الاتحاد الروسي، أو تقوم بنشر الأفكار الراديكالية، وتسعى إلى تكوين دولة الخلافة مرة أخرى وتقويم المجتمع وفقًا لرغباتهم. 

ويُتابع الديب، لافتًا إلى أن “السلفية- الوهابية”، بالمنطق الروسي، هي تيار غير مُتجانس للغاية، يمكن تعريف مجموعاته الرئيسية على النحو التالي؛ “الإخوان المسلمون، وأتباع حزب التحرير الإسلامي الإرهابي، والتبليغين أي أتباع الطائفة الباكستانية المُتطرفة، تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”. وإجمالي كل هؤلاء، تُعرفِهُم هيئات إنفاذ القانون، والصحفيون، وحتى كبار الباحثين في روسيا على إنهم سلفيون.  

ووفقًا للكاتب، يعود تاريخ بدايات الحركة السلفية في الأراضي الروسية إلى نهايات الحقبة السوفيتية، عندما ظهرت بعض الجماعات التابعة لها في شمال القوقاز. ففي الفترة ما بين 1982-1984، قامت السُلطات السوفيتية وعلى رأسها جهاز “الكي جي بي”، ووزارة الداخلية الروسية بقمع هذه الجماعات، إلا أن ذلك كان يجري بشكل مؤقت فقط. فسرعان ما تغيرت الأوضاع داخل الاتحاد السوفيتي بعد أن أوهنته سياسات “البيريسترويكا”، التي أثرت بالسلب على الحالة الأمنية الداخلية، فترتب على ذلك أن تسلل أول أمراء السلفية الوهابية من خلال أفغانستان، وأسسوا خلاياهم في طاجيكستان ووادي فرغانة. واستباحوا حُرمات الدولة، وانفردوا بجانب من أطرافها، بل وتجرأت بعض مناطقها- بتحريض من المال السعودي والسلاح الأمريكي والغربي، على إعلان الاستقلال. 

نظرة على نشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة في الاتحاد الروسي 

يروي الديب، أن أول ظهور للجماعات الإسلامية المتطرفة في منطقة القوقاز كان في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، تحديدًا في داغستان. تاريخيًا، كانت داغستان هي الجسر الرئيسي لنشر الإسلام في شمال القوقاز. حيث نمت الحركة السلفية – الوهابية بشكل متسارع، على يد أتباع الداعية “بهاء الدين محمدوف”، والذي كان قد اشتهر بموقفه الجامد وناقد لرجال الدين الرسميين، بسبب تعاونهم مع السلطات الأمنية الكافرة، من وجهة نظره. وبالتدريج، أصبحت جماعته السلفية هي الأكثر عددًا وتأثيرًا في داغستان، ونشطت بشكل عملي في كافة أنحاء الجمهورية باستثناء بعض مناطق داغستان الجنوبية. وأدى سعى هذه الجماعة الدؤوب لفرض أحكامهم الخاصة على سائر المجتمع –الذي يتألف من مسلمون غير تابعون لهم- أدى الأمر في النهاية الى اندلاع أعمال عنف بينهم وبين باقي المجتمع الإسلامي الداغستاني. واستمرت هذه المواجهات في الفترة ما بين 1992 و1995، في مناطق “كيزيليورت”، “كازبك”، و”محج قلعة”. 

وينتقل الكاتب بعد ذلك ليشرح خارطة انتشار التيار “السلفي-الوهابي” في الجمهورية الشيشانية المجاورة، بقيادة رئيسها آنذاك “جوهر دوداييف”، الذي راهن على المنظمات الإسلامية الدولية في إحياء النسخة المتطرفة من الإسلام. وبالنسبة لجمهوريات شمال القوقاز الأخرى، لم يكن انتشار “الإسلام الراديكالي” المُتمثل في الحركة “السلفية- الوهابية”، واسع الانتشار كما هو الحال في داغستان والشيشان. فقد تمكنت جمهورية “أيديجا”، من تجنب هذه المشكلة تمامًا، وفي إنجوشيا، تم بسرعة تحجيم الحركة السلفية الناشئة بسبب الجهود المشتركة، التي بذلها رجال الدين المسلمون والسُلطات الفيدرالية. إلا أن الجمهوريات الثلاث المُتبقية: “قراتشاي- تشيركيسيا”، و”قباردينو-بلقاريا”، و”أوسيتيا الشمالية”، عانت من خسائر كبيرة بسبب الوهابيين، لكنها تمكنت من تهميش هذه الحركة ومساواة اتباعها مع قطاع العاديين. 

وجود التيار السلفي في الاتحاد الروسي

يُظهر لنا الكتاب خارطة التيارات السلفية في الاتحاد الروسي في الوقت الراهن، ويلفت إلى أن الحركة السلفية تنشط وتتواجد في مناطق كثيرة في معظم مناطق روسيا. حيث تعدت هذه الحركة المناطق التقليدية التي نشأت وازدهرت فيها كشمال القوقاز او في حوض نهر الفولجا، لتنتشر في منطقة الاورال والعاصمة موسكو وسانت بطرسبرج وغيرها من أقاليم روسيا، باستثناء منطقة تشوكوتكا الذاتية الحكم. وتُصنف داغستان كواحدة من المناطق التي تحتوي على الأنشطة السلفية الأكثر خطورة، فبالإضافة إلى “قباردينو بلقاريا”، و”إنجوشيا”، لوحظ أيضًا تزايد الأنشطة الوهابية في إقليم “ستافروبول”، و”أوسيتيا الشمالية”. 

ويشير الديب في السياق نفسه، إلى أنه لا يوجد خلاف على أن أيدلوجية تنظيم الدولة الإسلامية نابعة في الأصل من “السلفية-الوهابية”، لكن بشكل أكثر تطرفًا. ولقد تلقى تنظيم “داعش”، دعمًا كبيرًا وولاءً من التنظيمات السلفية الوهابية من روسيا. كما أن الوضع يزداد تعقيدًا بسبب ذهاب العديد من مواطني الاتحاد الروسي للقتال إلى جانب داعش على الجبهة في سوريا، وهؤلاء اكتسبوا خبرات قتالية، وأقاموا علاقات يمكن استخدامها في المستقبل.

ويُذكر في هذا السياق، ما أعلنه “إدوارد ريبنتسيف”، رئيس مركز مكافحة التطرف، في المديرية الرئيسية لوزارة الشؤون الداخلية في منطقة شمال القوقاز الفيدرالية، حيث قال “هناك نحو عدة آلاف من المواطنين الروس يُقاتلوا في صفوف داعش في سوريا”. في الحين نفسه، صرح مدير جهاز الأمن الفيدرالي، “يفجيني سيسوف”، إن “حوالي سبعة آلاف روسي ومهاجر من دول رابطة الدول المستقلة يقاتلون إلى جانب داعش في نهاية عام 2015”. وأعلنت وزارة الشؤون الداخلية الروسية، في مارس 2016، “إن نحو 3417 مواطنًا روسياً يقاتلون في صفوف داعش ومئات آخرون انضموا إلى جماعات خارج داعش. وهكذا يشكل مواطنو روسيا واحدة من أكبر فرق المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق”. ويترتب على ذلك، أن تحول التيار السلفي الروسي إلى خطر كبير على أمن الاتحاد الروسي. 

ويُعدد الديب بعد ذلك، الطرق والمداخل التي يعتمد عليها المتطرفون في اجتذاب المزيد من العناصر إلى صفوف فكرهم المتطرف. وتلك تتنوع ما بين؛ شبكات التواصل الاجتماعي، أو تجنيد الطُلاب من خلال المدارس التي تحتوي على غالبية مسلمة داخل الاتحاد الروسي، وتجنيد رواد الأعمال، كما تعتبر السجون واحدة من أهم الأماكن التي يتم من خلالها تجنيد واجتذاب المزيد من العناصر، ويتم ذلك بمساعدة العناصر المتطرفة الأخرى أثناء خضوعها للاحتجاج.

واستطرد الديب بعد ذلك متمعنًا في شرح تفاصيل التجربة الروسية في مكافحة الجماعات المتطرفة والإرهاب، سواء على مستوى الأجهزة الأمنية، أو على المستوى الأيدولوجيا.  ويعلق على إجمالي ما ورد بالكتاب من جهود بذلتها الدولة الروسية في هذا المضمار، لافتًا إلى أن روسيا لم تستطع بتر التيار “السلفي-الوهابي” من داخل المجتمع الروسي، وذلك على الرغم مما بذلته من جهود تشريعية، وعمليات عسكرية، ومداهمات أمنية، وجهود لمكافحة هذا الفكر على المستوى الأيدلوجي. إذ أن مواجهة الفكر السلفي في روسيا أو غيرها من بلاد العالم، أمر في غاية الصعوبة. لذلك يظل دور الدولة مقصورًا على التقليل من مخاطر هذه الجماعات بقدر الإمكان. 

وختامًا، يرى الديب أن انتشار التيار السلفي في روسيا لا يعني بالضرورة أنه ينبغي أن يكون لهذا التيار دورًا في الحياة السياسية الروسية. بل بمقابل هذا الانتشار يتولد تحدي أكبر من جانب الأجهزة الأمنية في القضاء عليه. وهكذا ومنذ أن ظهر التيار السلفي في الاتحاد الروسي، فكل هياكل السُلطة الفيدرالية والمحلية تقاوم هذا الوجود بكل السبل، سواء تشريعية أو أمنية أو أيدلوجية. إذ أنه يوجد هناك رفض واضح لهذا التيار، وهذا الرفض مستمر ما دامت الديانة المسيحية الأرثوذكسية الروسية تُمثل أكثر من 80% من الشعب الروسي. 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى