
الاقتحام الأصعب.. ماذا يحدث في جنوب سوريا؟
بعد ثمانِية أشهر من توقف المعارك الكبرى في سوريا إثر تثبيت نقاط تماس بين الخمسة جيوش المنخرطة في المعارك (الأمريكي – الروسي – السوري – الإيراني – التركي) على أربع مناطق نفوذ؛ تعود المعارك الكبرى مجدداً في سوريا، وهذه المرة من بوابتها الأولى والجنوبية محافظة “درعا” التي شهدت شرارة انطلاق ما يُسمى “بالثوة السورية – مارس 2011″، وتحولت بعد ذلك لواحدة من أقسى فصول التدمير الذاتي في التاريخ المعاصر، جراء تضارب حسابات القوى الإقليمية والدولية وأجهزة استخباراتها الفاعلة التي قامت بعضها بإعاشة ورعاية التنظيمات بصورة مباشرة، مروراً لتعقيدات الحالة الديمغرافية السورية، ووصولاً لتفاصيل المعالجة العسكرية السورية لحرب المدن وخطط بسط السيطرة على الأجزاء الحيوية من الميدان بما يُمكن دمشق من الاستمرار كفاعل يصعُب تجاهله في تسويات ما بعد المعارك الكبرى.

ولعل مدينة درعا لها من الخصوصية والرمزية في هذه الحرب وتفاصيلها المروعة؛ ما يجعلها تستحق وبحق، أن تحوز على أضواء إقفال مسرح الحرب السورية. فبغض النظر عن كونها شرارة انطلاق الحرب؛ فإن درعا بمثابة الخاصرة الرخوة لدمشق، وتباعاً النافذة البرية لتل أبيب على مجريات الحرب. فلم يغب عن ذاكرة المشهد السوري إدارة إسرائيل لأكبر عمليات إجلاء لعناصر “الخوذ البيضاء” المرتبطة بشبكة تنظيم القاعدة، والعديد من العناصر المسلحة شديدة الخطورة من درعا فور تقدم الجيش السوري باتجاه المدينة صيف العام 2018.
تعيش درعا حالة من التوترات الأمنية منذ 29 يوليو الفائت، حيث شن الجيش السوري هجوماً عليها بواسطة الفرقة الرابعة والتاسعة التي تمثل نخبة القوات المسلحة السورية حالياً، لتعود درعا لواجهة الميدان حاملةً معها جملة الخصوصية الكبيرة وجملة التعقيدات السالف ذكرها، وأيضاً مجموعة من التساؤلات حول أسباب الهجوم وديناميته وتأثيراته المحتملة؟
حسابات دمشق وقرار حاسم.. أسباب الهجوم السوري على درعا
لم يخف على أحد التحول في موازين المعركة في سوريا منذ أن تدخلت الآلة العسكرية الروسية لصالح دمشق، في سبتمبر 2015؛ حيث مكنت الحكومة السورية في السيطرة على أكثر من ثلثي مساحة البلاد، بعدما كانت تسيطر بالكاد على أقل 40% من مساحة البلاد في 2014.
هذا التحول جاء بتغيير نوعي في المفاهيم التكتيكية للجيش السوري الرامية لبسط واستعادة السيطرة على الأراضي، فتجنّب الجيش السوري الإعداد للسيطرة على كامل المحافظات، واكتفى فقط بالتوجه نحو المدن الرئيسية بمجهود عسكري مُركّز كان أساسه بلا شك المكون البري (المشاة الميكانيكي)، ولهذا رأينا اندلاع المعارك الرئيسية في كل من حلب وحمص وحماة وتدمر أولاً وتباعاً أريافها. ومن هذا التغيير التكتيكي وبمساعدة من سلاح الجو الروسي والميليشيات المرتبطة بالقرار الاستراتيجي لطهران؛ نجح الجيش السوري في بسط سيطرته على ثلثي مساحة سوريا، وتبقت فقط بعض الجيوب العسكرية في الشمال والجنوب (إدلب + درعا). حظيت هذه الجيوب العسكرية بمساحة في خطابات الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تعهد بالقضاء على الإرهاب في كافة الأراضي السورية.

ولما حلت الانتخابات الرئاسية وحقق بشار الأسد فوزاً كبيراً له بولاية رئاسية رابعة، اتجهت دمشق للبحث عن انتصار في مهد “الاحتجاجات” التي انطلقت قبل 10 أعوام، ولاسيما بعدما قرأت دمشق عدة تطورات جيوسياسية منها موجة تطبيع بعض العواصم العربية مع إسرائيل، وقرار الأردن بفتح حدوده مع سوريا، فضلاً عن وجود تفاهمات صلبة روسية تركية في إدلب، وأمريكية روسية في شمال شرق سوريا “الجزيرة السورية”؛ تعززت مكانة درعا كهدف قادم لا محالة لما تبقي من مكينة الحرب للجيش السوري، التزاماً بالتعهدات الرئاسية بالسيطرة على كافة مناطق البلاد.
وعليه، بدأ بالفعل الهجوم السوري على المدينة فجر يوم الخميس الماضي، وأُسنِد لعمليات الهجوم الفرقة التاسعة، والفرقة الرابعة تحت قيادة شقيق الرئيس السوري، اللواء ماهر الأسد. وتمثل الفرقة الرابعة نخبة قوات الجيش السوري تدريباً وتسليحاً، ووصلاً لمستوى الولاء. ولتوضيح محاور الهجوم السوري الأخير ينبغي أولاً الوقوف على وضع مدينة درعا قبل اتفاق التسوية الموقع صيف العام 2018. توضح الخريطة السابقة توزيع السيطرة العسكرية على المدينة وأريافها في العام 2017-2018. اللون الأحمر يمثل الجيش السوري، بينما اللون الأخضر يمثل فصائل المعارضة المسلحة.

توجه الجيش السوري صيف العام 2018 إلى جبهة الجنوب وبدأ عملية عسكرية موسعة، بغطاء جوي روسي بهدف السيطرة المنطقة الجنوبية وانتزاع مدينة درعا. حيث انطلق الهجوم في احدى مناطق خفض التصعيد التي اتفقت عليها روسيا وتركيا وإيران في مايو 2017، ومع اشتداد موجة الهجوم السوري، ظهرت صفقة “الجنوب” نتيجة مفاوضات أمريكية – روسية – أردنية، و”إسرائيلية”، أفضت إلى عودة قوات الحكومة السورية إلى الجنوب مع تسيير دوريات روسية وتخلي واشنطن عن دعمها للفصائل المسلحة وتسليم سلاحها الثقيل، في مقابل إبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدود الأردن وخط الفصل في الجولان المحتل. ومن هذه اللحظة تقريباً اقترن الزحف البري السوري بآخر إيراني عن طريق وكلاء “ميليشيات” محلية وأجنبية. وتغير الوضع الميداني في الجنوب السوري ولاسيما درعا، ليسفر عن هذا التوزيع العسكري.

حيث قطّعت الآلة العسكرية السورية وحلفائها الجنوب، وحصرت الفصائل المسلحة ضمن ثلاثة مناطق معزولة “الدوائر الحمراء” (طفس – درعا – بصري الشام).
وبالغوص أكثر في دائرة درعا، نجد أن الجيش السوري يسطر على شطر المدينة “درعا المحطة” بينما تتقاسم معه الفصائل المسلحة على شطر “درعا البلد” التي يقطنها قرابة الـ 50 ألف نسمة.
وجاء الهجوم السوري من خلال ثلاثة محاور “النخلة – القبة – قصاد”، وبصورة أشمل ركز الجيش السوري على الالتفاف على المدينة من خلال أريافها الشرقية والغربية واحتدم القتال بين الجيش السوري والفصائل المحلية حتى توجهت الأنظار لشرطي منطقة الجنوب “روسيا”، روجل استخباراتها العسكرية “ألكسندر زورين “، ووكيلها الميليشاوي “الفيلق الخامس”، فكيف تطورت الأوضاع؟
المعادلة الروسية.. ضبط إيقاع الميدان
منذ أن نجحت روسيا في توفير الغطاء الجوي لقوات الجيش السوري في هجومها على الجنوب صيف 2018، سعت موسكو لتسوية أوضاع مقاتلي فصائل “التسويات”. والكيانات العسكرية النشطة في الحزام الجنوبي وحتى المواطنين العاديين. فجاءت موسكو بفكرة جريئة، مفادها تخليق كيان عسكري مكون من عناصر المعارضة المسلحة، ولكنه يدين بالولاء لروسيا. أي جناح عسكري روسي ضمن هياكل التنظيمات العسكرية التابعة للمعارضة السورية، والسورية النظامية، حيث كان التأسيس الفعلي لهذا الفيلق من قِبل الحكومة السورية في العام 2016 لحل معضلات المتخلفين عن أداء الخدمة العسكرية، فدشنت موسكو “الفيلق الخامس” وضمت في تشكيلاته أبناء المحافظات الجنوبية.

وعينت أمير الحرب “أحمد العودة” قائداً له، وهو بمثابة رجل موسكو في الجنوب.

وقدّم الفيلق الخامس وعوداً بأن يكون انضمام أبناء المنطقة الجنوبية إليه مُحتسباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش السوري، وتسوية أوضاعهم سواء كانوا منشقين عن متخلفين عن الخدمة أو منشقين، على أن يكون انتشارهم محصوراً ضمن المنطقة الجنوبية فقط.
ومع الرواتب الشهرية المجزية، نجح الفيلق الخامس في تكوين وحداته العسكرية واستقطاب العديد من العناصر، ومنذ ذلك الحين أضطلع الفيلق بمهام “الوكالة” لدي موسكو، واصطدم بالجيش السوري في عدة اشتباكات للسيطرة على حواجز درعا، واقتصرت خدماته على تجنيد المرتزقة السوريين لصالح روسيا لإرسالهم للميدان الليبي في مفارقة عجيبة، جعلت السوريين يتقابلون في ليبيا ضمن معسكرين متحاربين.
https://twitter.com/TCG_CrisisRisks/status/1259639015189262336?s=20
مثّل موقف الفيلق الخامس، المحايد من الهجوم الأخير للجيش السوري على درعا، استياء موسكو من القرار السوري بالتوجه نحو درعا، إذ لم توفر موسكو حتى اللحظة أي غطاء جوي للقوات السورية.

يأتي هذا بإرسال موسكو لرجل استخباراتها العسكرية “ألكسندر زورين” إلى درعا “بصري الشام” وقد استقبله “احمد العودة”، بل هو من رتب له الزيارة وأرسل له قافلة عسكرية لدمشق لنقله مباشرةً لمقر اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس في بصري الشام. وأخبر”زورين” مضيفه “العودة”، بأن موسكو لن تقدم الدعم الجوي لعمليات الجيش السوري. وبعدها تمدد الفيلق الخامس في أرياف درعا الشرقية والغربية، وفوجئ الجيش السوري فور بدء هجومه بمقاومة شديدة من الفصائل المسلحة التي سيطرت على 18 حاجز أمني و11 منطقة شرق درعا.
وزير الدفاع السوري في درعا

وصل وزير الدفاع السوري العماد على أيوب، إلى درعا، يوم الإثنين الماضي، وحلّ في مبنى حزب البعث في حي المطار بدرعا المحطة للاجتماع مع اللجنة الأمنية التابعة للحكومة السورية، وتزامن ذلك مع دخول وفد روسي لدرعا بهدف إكمال عملية التفاوض مع اللجان المركزية التابعة لمختلف مناطق درعا، بعد انتهاء التفاوض مع الحكومة السورية. وذلك في إطار الجهود الروسية للحفاظ على التهدئة المبرمة منذ السبت الماضي.
ولم تكشف نتائج الاجتماعات الأخيرة، إلا أن الشواهد الميدانية ترجح أن تتجه دمشق لتطوير الهجوم في ضوء التعزيزات العسكرية التي وصلت للفرقة الرابعة من مدينة جاسم السورية. حيث جرى تعزيز النقاط في النعيمة شرق درعا، وإرسال تعزيزات إلى معبر نصيب الحدودي مع الأردن وتعزيزات أخرى إلى الشيخ سعد بريف درعا الغربي. وتباعاً قد تنخرط موسكو أكثر في ترتيبات اجتماعات بين ممثلي الجيش السوري وممثلي درعا لبحث إيجاد تسوية جديدة، قد تراعي خصوصية حالة درعا، وتتضمن إبعاد العديد من مقاتلي الفصائل للشمال السوري، وعودة رمزية لحواجز الجيش السوري في الجيب الجنوبي الأخير، وفتح طريق عمان – دمشق مع الاحتفاظ بدور لـ “الفيلق الخامس” وفتح ممر آمن في درعا البلد لأكثر من 50 ألف نسمة. إلا أن مخاطر ذلك تبدوا واضحة بالنسبة لتل أبيب التي تراقب الوضع من على بعد عدة كيلومترات، وتري في التقدم البري السوري تمهيداً لتواجد أو تسلل إيراني بعناصر محلية ولاسيما بعد ورود تقارير تتناول تحول ثكنات الفرقة الرابعة إلى ثكنات تضم ميليشيات إيرانية وعراقية، خصوصاً “منطقة الري” التي تعد من أهم المواقع العسكرية هناك، ما يدفع بتساؤل آخر حول احتمالية اقتراب ايران لخط الفصل في الجولان بعد أن أبعدتها تسوية 2018 ما يقرب من 80 كم، واحتمالية أن توظف إيران ذلك في حال – نجاحه – ضمن سياقات التنافس الحاد مع إسرائيل ونفوذها في المنطقة بصورة عامة وخاصة بعد ورود تقارير تتحدث عن اختراق مسيرات إيرانية للمجال الجوي للأردن.



