
الأزمة الاقتصادية في تونس تأخذ منعطفًا جديدًا بعد قرارات “سعيد”
تشهد تونس خطوات متسارعة على إثر القرارات والإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي “قيس سعيد”، جراء اتساع مساحة الغضب الشعبى نتيجة الأوضاع الإقتصادية المتردية في البلاد، ترجمته العديد من الاحتجاجات اعتراضًا على السياسات التي تبنتها حكومة “هشام المشيشي”، والبرلمان الذي تهيمن عليه حركة “النهضة” الإخوانية بقيادة “راشد الغنوشي”، خاصة بعد الفشل الكبير في إدارة جائحة كورونا، والتردي الذى شهدته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مع ارتفاع مستويات البطالة والفقر وزيادة الدين العام، في ظل خلافات سياسية بين رؤوس السلطة الثلاث في تونس -رئيس الدولة “قيس سعيّد” ورئيس الحكومة “المشيشي” ورئيس البرلمان ” الغنوشي”، ما دفع “سعيد” يوم 25 يوليو إلى اتخاذ عدة قرارات، على رأسها تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، بالإضافة إلى إعفاء رئيس الوزراء “هشام المشيشي” من منصبه.
ولكن ما الذي دفع تونس للوصول إلى هذه النقطة، وما هي مؤشرات التدهور الاقتصادي في البلاد، وكيف أثرت جائحة كورونا في تعميق الأزمة، ومصير مفاوضات صندوق النقد، وهل تقترب تونس من السيناريو اللبناني، وما هي التداعيات المحتملة لقرارات الرئيس التونسي “قيس سعيّد” على الاقتصاد، والخطوات القادمة اللازمة للخروج من الأزمة، هذا ما سنوضحة في السطور التالية.
أولاً: مؤشرات التدهور الاقتصادي في تونس
تشهد تونس أزمة اقتصادية عمّقتها الصراعات السياسية بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة، حيث تشير المؤشرات إلى تدهور حالة الاقتصاد التونسي على مدار الـ10 سنوات الماضية، ويزداد الأمر سوءًا في ظل تفشي جائحة كورونا، مما يدفع باقتصاد تونس نحو مزيد من التأزم، ومن أبرز مؤشرات التدهور الاقتصادي في تونس:
- تراجع معدلات النمو
على الرغم من الإطاحة بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير 2011، بعد مظاهرات حاشدة كان السبب الرئيس لها تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع البطالة وسوء الأحوال المعيشية في البلاد، لم يتعافى الاقتصاد التونسي من وقتها أبدًا، بل على العكس من ذلك، في عام 2020، تفاقم الوضع غير المستقر بالفعل بسبب الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد19، وبلغ معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي قيمة سلبية قدرها -8.8٪ في عام 2020، كما هو موضح في الشكل 1.
شكل1: تطور معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لتونس 2012-2020 – المصدر: بيانات البنك الدولي
ويوضح الشكل 1، استمرار انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي في تونس منذ عام 2012 حيث سجل النمو حينها 4.1%، ثم انخفض إلى 2.8% في عام 2013، وواصل الانخفاض وصولا إلى عام 2020 الذي شهد انكماش بنسبة 8.8%. وشهد الربع الأول من عام 2021، انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3%، مع استمرار الضغوط الناتجة عن جائحة كورونا، وبطء عمليات التلقيح محليا، واستمرار إغلاق المرافق الحيوية. وكان صندوق النقد الدولي قد توقع في أبريل 2021 أن يرتفع نمو الناتج المحلي الإجمالي لتونس إلى 3.8٪ بنهاية عام 2021، ولكن بعد الأحداث الجارية في تونس والأزمات السياسية المتلاحقة يبدو أن توقعات الصندوق كانت متفائلة بعض الشيء وأن تحقيق هذا المعدل أصبح محل شك.
- زيادة الدين العام وعجز الموازنة
بلغ الدين العام لتونس حوالي 87.6٪ في عام 2020، بعد أن كان يمثل 55% من الناتج المحلي الاجمالي لتونس عام 2010، ووفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي المحدثة في أبريل 2021، من المتوقع أن يرتفع إلى 91.2٪ في عام 2021 و93.9٪ في عام 2022. وارتفع الدين الخارجي إلى ما يزيد عن 100% من إجمالي الدخل القومي لتونس عام 2019، في حين أنه كان ينبغي ألا يتجاوز 70% من الناتج المحلي الاجمالي لضمان عدم وقوع البلاد في مرحلة الافلاس، حيث تجاوزت ديون تونس الخارجية سقف 100 مليار دينار (35.7 مليار دولار)، في وقت تصل فيه احتياطات البلاد إلى نحو 7 مليارات يورو فقط.
شكل2: رصيد الدين الخارجي لتونس (% من إجمالي الدخل القومي) – المصدر: بيانات البنك الدولي
في سياق متصل، بلغ متوسط الدين العام المستحق على تونس في عام 2010 حوالي 16 مليار دولار، صعد تدريجيًا خلال سنوات الثورة ليستقر عند 20.63 مليار دولار بنهاية 2016، ثم إلى 25 مليار دولار في 2017، ثم 35.4 مليار دولار بنهاية أبريل من العام الجاري 2021، مسجلًا ارتفاعًا بنسبة 4.8% مقارنة بالعام الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، ارتفع العجز الكلي للموازنة إلى 9.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض العجز بشكل طفيف إلى 9.3٪ في عام 2021 و6.9٪ في عام 2022، وبحسب وكالة “فيتش للتصنيف الإئتماني” فإن تونس قد تجاوزت الخط الأحمر الخاص بنسبة العجز في ميزانية الدولة مقارنة بحجم الناتج المحلي الإجمالي الذي ينبغي ألا تتجاوز عتبة 6.2% كحد أقصى.
ويتعين على تونس خلال العام الجاري تسديد ما يقرب من 4.5 مليار دولار لخدمة الديون، والحصول على نحو 6.5 مليارات دولار إضافية لتمويل الموازنة وسد العجز فيها، بينها قروض خارجية في حدود 4.5 مليار دولار، وقروض داخلية في حدود ملياري دولار.
- ارتفاع معدلات البطالة والفقر
أمام التراجع في نسب النمو، ارتفعت نسب البطالة من متوسط 12% قبل عام 2010، إلى نحو 18% في عام 2011، ثم سجلت 17.3% في 2012 و16% في 2013، ومنذ ذلك الحين لم تسجل نسب البطالة في السوق التونسية أقل من 15%، وبلغت نسبة البطالة في منتصف عام 2020 حوالي 17.5%، و17.8% في الثلث الأول من 2021، بينما وصلت نسبة البطالة بين الشباب إلى حوالي 40%، وهي من بين النسب الأعلى في العالم.
في غضون ذلك، قدر المعهد الوطني للإحصاء في تونس نسبة الفقر بنحو 15.2%، في دراسة له بالتعاون مع البنك الدولي نشرت عام 2020، وأوضحت الدراسة أنّ عدد التونسيين تحت عتبة الفقر يقدّر بنحو 1.7 مليون تونسي، وأنّ نسبة الفقر في تونس متغيرة بحسب المنطقة أو الجهة، وتتراوح بين 0.2% و53.5%. ويذكر أن الطبقة المتوسطة التي طالما تباهت بها تونس تراجع حجمها بعد أن كانت تمثل حوالي 70% من المجتمع التونسي عام 2011، وأضحت لا تتجاوز الـ50 في المئة عام 2020.
- ارتفاع نسبة التضخم وزيادة الأسعار
لم تكن نسب التضخم أفضل حالا من باقي المؤشرات الاقتصادية في تونس، حيث بلغ التضخم في تونس نحو 5.6% خلال 2020، ثم انخفض في بداية عام 2021 إلى 4.9% لكنه عاود الارتفاع في شهر يونيو ليبلغ 5.7% وهو أعلى مستوى منذ يوليو الماضي.
شكل3: معدل التضخم في تونس في الفترة من 2012 حتى 2021
وتوقع صندوق النقد الدولي أبريل الماضي، أن يبلغ معدل التضخم 5.8% العام الحالي مقابل حوالي 5.6% العام الماضي، على أن تتسارع وتيرته ليسجل 6.3% في عام 2022.
بالإضافة إلى ذلك، تحافظ أسعار المواد الاستهلاكية بأنواعها على نسقها التصاعدي، حيث وصل معدل تضخم الأسعار الغذائية إلى 7.2%، كما أن نسبة الزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية فاقت 30 في المئة خلال المدة من ابريل 2020 حتى يوليو 2021، في حين بلغت الزيادة في سعر خدمة شبكة المياه وتوزيعها 37% خلال يونيو 2020، و34% إضافية في يونيو 2021، مما يشكل ضغط على الأسر التونسية.
ويفسر المراقبون ارتفاع الأسعار وانهيار القدرة الشرائية وانتشار الفقر بتفاقم التضخم وانهيار قيمة الدينار التونسي، الذي فقد 40 في المئة من قيمته على امتداد 11 سنة. ويعود هذا إلى ارتفاع نسبة الديون وسوء إدارة الاقتصاد طوال العقد الماضي.
- تراجع مؤشرات القطاعات الحيوية وقطاع السياحة
شهدت العديد من القطاعات الحيوية على غرار صناعة النسيج وأنشطة استخراج الفوسفات شللاً كبيراً منذ نحو عقد من الزمن بسبب الاضطرابات الاجتماعية وتنامي الإضرابات والاعتصامات. وبحسب تقارير اقتصادية فقد تراجع إنتاج البترول، ما أسهم في ارتفاع عجز الطاقة من 5 إلى 55 في المئة سنوياً بين 2011 و2020 إلى جانب انهيار إنتاج الفوسفات، مما حرم تونس من 2.2 إلى 2.9 مليار دولار سنوياً، أي تقريبًا ما بين 22 و29 مليار دولار خلال نحو عشر سنوات.
فضلًا عن تراجع السياحة التي تمثل مصدر دخل أساسي لتونس، حيث تشكل نحو 8% من الناتج المحلي بالبلاد وتتسم بكثافتها التشغيلية، وأظهرت أرقام رسمية أن إيرادات قطاع السياحة الحيوي في تونس هوت 65% العام الماضي بينما هبط عدد السائحين 78%، ولم يفلح القطاع سوى في جلب نحو 746 مليون دولار، في ضربة قوية لاقتصاد البلاد بسبب تأثيرات جائحة فيروس كورونا.
كما أدى تسارع انتشار فيروس كورونا في يونيو 2021 الى إلغاء الموسم السياحي كليا لهذا الصيف، مما يضاعف الخسائر للعام الثاني على التوالي، في وقت تحتاج فيه تونس الى 4.5 مليار دولار من الموارد من العملة الأجنبية لخدمة الدين هذا العام.
وفي سياق متصل، بعث كل من محافظ البنك المركزي التونسي “مروان العباسي” ووزير المالية “نزار يعيش” العام الماضي رسال إلى صندوق النقد الدولي، أظهرت أن السياحة في تونس مهددة بفقدان 400 ألف وظيفة، بواقع 150 ألف وظيفة مباشرة و250 ألف غير مباشرة بسبب تداعيات أزمة فيروس كورونا، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة المرتفعة أصلا، ويدفع مزيد من الشباب التونسي إلى عمليات الهجرة غير الشرعية، ويرفع مستوى الغضب الشعبي ضد الحكومة التونسية وادائها الضعيف في التعامل مع الأزمات الاقتصادية.
- تراجع التصنيف الائتماني لتونس ومخاطر عدم القدرة على السداد
خفضت الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني “فيتش رايتينج” يوم 8 يوليو 2021، التصنيف الائتماني لتونس من “B” إلى “- B” مع آفاق سلبية، الأمر الذي يعكس مخاطر في توفر السيولة المالية محليًا وخارجيًا، في ظل تأخر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بخصوص برنامج للإصلاح الاقتصادي، وهي المرة السابعة التي يتم فيها تخفيض التصنيف الإئتماني لتونس منذ عام 2011، بسبب عدم الاستقرار السياسي، إذ إن النظام السياسي المنقسم الذي تغلب عليه الصراعات والتجاذبات يمنع كل إصلاح وكل مسار لاتخاذ قرار في الاتجاه الصحيح، ما يعقّد الجهود لتأمين برنامج صندوق النقد الدولي، والوصول إلى الأسواق الدولية، كما تفضي التوترات الاجتماعية، ولا سيما مع الاتحاد العام للشغل، إلى تقلبات اقتصادية تثير قلق المستثمرين الأجانب، وتؤثر سلبا على باقي المؤشرات الاقتصادية.
ويشار إلى أن وكالة “فيتش” راجعت توقعاتها لتونس من “مستقرة” إلى “سلبية” في نوفمبر 2020، وهو ما يعني إمكانية إعادة خفض الترقيم الإئتماني (السيادي) لتونس واقترابها بشكل غير مسبوق من عتبة الإفلاس. وفي تقرير لها في مايو 2021، حذرت وكالة “ستاندرد اند بورز” من احتمال عدم قدرة تونس على سداد ديونها الخارجية مع استمرار الأزمة السياسية، وغياب اتفاق حول الإصلاحات العاجلة المتوجب إقرارها، وأشارت إلى إن التخلف عن سداد ديون سيادية ربما يكلف البنوك التونسية ما بين 4.3 و7.9 مليار دولار، أي ما يعادل نسبة تتراوح بين 55% و102% من إجمالي رأسمال النظام المصرفي، أو 9.3% إلى 17.3% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي المتوقع لعام 2021، واذا ما وصلت تونس إلى نقطة عدم القدرة على السداد فإنها ستكون معرضة بدرجة كبيرة للذهاب إلى “نادي باريس”.
ثانياً: مصير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي
أصبح اللجوء لمؤسسات التمويل الدولية هو الملاذ للاقتصاد التونسي، للحصول على التمويل اللازم من جهة، وليكون بمثابة شهادة ثقة في الاقتصاد التونسي لجذب الإستثمارات الأجنبية وأموال الداعمين من جهة أخرى، وأمام الأزمات المتعاقبة التي مر بها الاقتصاد التونسي خلال العقد الماضي، لجأت تونس إلى صندوق النقد الدولي أكثر من مرة لمساعدتها في الحصول على تمويل، وحصلت عام 2013 على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 1.7 مليار دولار على سنتين، بينما في 2016 كان من المقرر حصولها على قرض بقيمة 2.88 مليار دولار، وحصلت على جزء منه قبل أن يتم تعليق بعض الشرائح لعدم التزام تونس بخطة الإصلاح المقرة من جانب الصندوق.
فضلًا عن أن حكومة “هشام المشيشي” قبل إقالتها، كانت تسعى إلى الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي لمدة 4 أعوام بقيمة 4.5 مليار دولار، ولكن الخلافات السياسية بين المشيشي والبرلمان أعاقت إمكانية تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، ومن بينها تخفيض كتلة الأجور ورفع الدعم عن المواد الأساسية والبنزين وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية التي تثقل كاهل المالية العامة، حيث يقف “الاتحاد التونسي للشغل” ضد أي إصلاحات ذات علاقة بتخفيض الأجور وعدد العاملين، وتقف المعارضة ضد أي إصلاحات تضغط على الشعب التونسي، وبالرغم من سعي “المشيشي” للوصول إلى اتفاق مع الصندوق، أقدم على خطوة تنافي هذا السعي، حيث وقع اتفاقاً مع الاتحاد العام للشغل يقضي بمواصلة الزيادة في الأجور، الأمر الذي عارضه الصندوق، ثم جاءت القرارات الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد لتوقف اجراءات السعي للحصول على قرض الصندوق إلى أجل غير مسمى.
وبالتالي فإن المفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي شبه متوقفة حاليًا بسبب المشهد السياسي المتأزم، ما يعقد الوضعية المالية والاقتصادية لتونس، حيث تشترط المؤسسات المالية الدولية الاستقرار السياسي كي تدخل في مفاوضات، وهذا الشرط غير متوافر حاليًا في تونس، كما أن الصندوق لن يقبل بالتفاوض مع حكومة مؤقتة لا يمكنها أخذ قرارات حاسمة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصادر التمويل الخارجية، وبالتالي فإن المخرج الوحيد لتونس هو التعجيل في وضع خريطة طريق واضحة لإعادة الثقة، واستكمال تنفيذ شروط الصندوق، وبطبيعة الحال، فإن هذا الوضع المعقد سيؤدي، إلى عرقلة أي فرص لحصول تونس على التمويل الخارجي اللازم للخروج من المأزق المالي الحالي.
وعلى الرغم من أن متحدثا باسم صندوق النقد الدولي أكد “إن الصندوق على استعداد لمواصلة مساعدة تونس في التغلب على تداعيات أزمة فيروس كورونا وتحقيق تعافٍ غني بالوظائف وإعادة مالية البلاد إلى مسار مستدام”، إلا أنه من غير المرجح أن يقوم الصندوق بذلك قبل إستيفاء تونس لشروط الإصلاح التي يفرضها الصندوق.
ثالثًا: تونس والإنزلاق نحو السيناريو اللبناني
يتداول محللون مقاربة النموذج التونسي بالنموذج اللبناني، حيث يشبه الاقتصاد التونسي نظيره اللبناني في أكثر من مجال، لاسيما الدور الذي تلعبه السياحة والقطاعات الخدمية وتحويلات المغتربين والاعتماد على القروض الخارجية، فضلا عن نسبة الدين العام التي تجاوزت 100% من الناتج المحلي الاجمالي في تونس، ومصادر الدخل التي تتراجع بأسرع من المتوقع، وإن كانت هناك بعض الاختلافات على مستوى حجم التطورات، حيث قطع لبنان الشوط الأكبر في الطريق إلى الإنهيار الاقتصادي، بينما لا تزال تونس تقف عند بداية الطريق.
فعلى مستوى النمو نلاحظ نفس الهشاشة في البلدين، والتي بدأت في تونس عام 2018، وتواصلت عام 2019، ثم شهدت تراجعا كبيرا وانكماشا غير مسبوق سنة 2020 تحت تأثير الجائحة، وهو تقريبا ما حدث مع لبنان مع اختلاف القيم.
شكل4: تطور معدل النمو بين تونس ولبنان – المصدر: بيانات البنك الدولي
بالإضافة إلى ذلك، شهد عجز الموازنة تطورا مشابها ايضا بين البلدين كما يوضحه الشكل التالي.
شكل5: تطور نسبة عجز الموازنة – المصدر: صندوق النقد الدولي
فضلا عن مستوى المديونية الذي شهد تطور مشابه هو الآخر في الحالتين، ففي تونس كما في لبنان لجأت الحكومات إلى المديونية من اجل سد احتياجاتها وسد عجز الموازنة.
شكل6: تطور مستوى المديونية – المصدر: صندوق النقد الدولي
بالرغم من التشابه بين الحالتين اللبنانية والتونسية في بعض المؤشرات، فلا تزال تونس في المرحلة الأولى من السيناريو اللبناني، حيث حققت تونس معدلات نمو سلبية خلال عام 2020، ولجأت إلى المديونية لتغطية عجز الموازنة، ولكن تونس لم تصل إلى المرحلة الثانية بعد وهي “المرحلة صفر” حيث تصبح عاجزة عن سداد التزاماتها، وإن كانت تونس في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة قد تصل إلى المرحلة الحرجة “صفر” إذا لم يتم التعامل مع الأزمة في أسرع وقت لتفادي السيناريو اللبناني.
ولا يتعلق الأمر بالاقتصاد وحسب، ولكن على المستوى السياسي ايضا، تعيش تونس أزمة مشابهة للبنان مع الاختلافات السياسية بين مصادر السلطة الثلاث، وعلاقتهم ببعضهم البعض. وكانت هذه الأوضاع وراء العجز الذي تعيشه الحكومات وعدم قدرتها بالتالي على تطبيق الإصلاحات الضرورية من اجل إيقاف النزيف الاقتصادي.
وفي سياق متصل، حذّر تقرير نشرته مجلة “لوبوان” الفرنسية من أن الشلل السياسي والعجز عن إدارة الأزمة الصحية والصعوبات المالية والاقتصادية قد تدفع بتونس نحو الإفلاس، لتكون أقرب إلى السيناريو اللبناني.
رابعا: تداعيات قرارات الرئيس “سعيد” على الاقتصاد التونسي
تركت قرارات الرئيس التونسي “قيس سعيد” مساء يوم 25 يوليو 2021، خلفها حالة من الغموض الذي أصبح يخيم على الوضع الاقتصادي والمالي لتونس وعلى استثماراتها الأجنبية، فمن غير الممكن الجزم الآن بتأثير هذه القرارات على الاقتصاد التونسي، ولكن المؤكد أنها لن تمر دون تأثيرات كبيرة على الوضع الاقتصادي والمالي لتونس، حيث تعاني البلاد ركوداً اقتصادياً غير مسبوق بسبب الأزمات الاقتصادية والصحية، يهدد باتجاه الدولة نحو الإفلاس.
ومن المرجح أن تؤدي هذه الإجراءات إلى تعميق الأزمة الاقتصادية أكثر، وشل الحركة التجارية، حيث لم ترفق القرارات بتراتيبات ضامنة لسير قطاعات الاقتصاد، وتدابير لحماية الأنشطه الاقتصادية المنهكة أصلا بسبب تداعيات فيروس كورونا.
وربما كانت النتيجة الأبرز لأي توتر سياسي هو هروب الاستثمارات، خاصة وأن تونس عانت خلال عام 2020، من انخفاض في الاستثمارات الدولية المتدفقة على البلاد خلال عام 2020، حيث تراجعت بنسبة 28.8%، لتصل إلى نحو 1885.9 مليون دينار (670.6 مليون دولار)، مقابل 2648.2 مليونا العام السابق، وفقا لتقرير صادر عن وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي، كما أشارت الوكالة إلى تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 26% خلال سنة 2020 (1834.4 مليون دينار مقابل 2479.1 مليونا)، بسبب تأثير تداعيات انتشار فيروس كورونا.
وبالتالي من المتوقع أن تؤثر الأزمة السياسية الحالية في تونس، بعد القرارات الأخيرة للرئيس “سعيد”، في ظل تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى مزيد من هروب المستثمرين من المناخ التونسي غير الجاذب للاستثمار مع مخاطر مرتفعة لن يجازف المستثمرون بتحملها. وبعد ساعات فقط من قرار “سعيد” هوت قيمة السندات التونسية بالعملة الأجنبية في السوق المالية الدولية، حيث نزل سعر السند بقيمة 100 دولار إلى 85 دولارا، وهو أمر طبيعي في ظل اتخاذ رئيس الدولة لقرارات ضبابية بالنسبة للمستثمر.
فضلا عن هروب رؤوس الأموال للخارج، وتعطل الاتفاقات الدولية مع المانحين الدوليين، الأمر الذي من شأنه أن يعوق التنمية أكثر وأكثر، بالإضافة إلى التأثيرات على معيشة المواطن العادي الذي سيدفع الثمن الأكبر، خاصة بعد قرارات حظر التجوال حيث يستوعب القطاع الغير رسمي في تونس (كباقي دول شمال افريقيا) حوالي 70% من العمالة، ويساهم بنحو 40% من الناتج المحلي الاجمالي، وفقًا لدراسة أجراها مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط في مايو 2020، وبالتالي فإن هذه العمالة معرضة للخسائر خلال فترة الحظر التي تستمر لمدة 30 يوم قابلة للتعديل.
ولكن من جهة أخرى، يظهر سيناريو بديل آخر أكثر إيجابية، بموجبه قد تكون قرارات “سعيد” ذات مردود إيجابي على الاقتصاد التونسي، وتحمل أملًا في الخروج من المأزق الحالي، حيث تضع البلاد على سكة الإنقاذ المالي بعد التدهور الذي تسببت به إدارة النهضة للبلاد، وتكون بمثابة طريق للخروج من الأزمة السياسية الحانقة التي دامت لسنوات وأعاقت الاصلاحات الاقتصادية، ومن ثم ستساعد في توجيه الجهود للإنقاذ الاقتصادي والمالي عوضًا عن استنزافها في الخلافات السياسية كما كان يحدث في السابق، وهو ما يفتح الباب أمام استقبال تونس للدعم من الدول التي من مصلحتها عدم عودة تيار الإخوان متمثلا في “حزب النهضة” بقيادة “الغنوشي” مرة ثانية إلى السلطة.
ولكن يظل هذا السيناريو مرهونًا بالطريقة التي سيتجاوب بها الشارع التونسي والاحزاب السياسية وحتى حزب النهضة ذاته مع قرارات “سعيد”، وإن كانت نسبة تحقق هذا السيناريو أقل من السيناريو ذي التأثير السلبي على الاقتصاد لكنه يظل مطروحًا.
خامسا: خطة إنقاذ وإجراءات عاجلة
تواجه تونس عددًا من التحديات الاقتصادية التي تحتاج إلى قرارات عاجلة للخروج من المأزق الحالي، أبرزها:
التعجيل بتشكيل الحكومة: في ظل توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي كانت تعتبره تونس أملها الأخير في إنقاذ اقتصادها، ستكون تونس أمام خيار صعب بحلول شهر أغسطس، حيث ستكون مطالبة بسداد القسط الثاني من قرض بقيمة 500 مليون دولار تنتهي آجاله يوم 5 أغسطس، بضمان الولايات المتحدة، وفي ذات الوقت ستكون مطالبة بسداد أجور العاملين مع عدم توافر الإيرادات الكافية للسداد، ما يدفع بضرورة التعجيل بتشكيل الحكومة التي ستتولى تسيير الأعمال، للتعامل مع هذا المأزق، والتي ربما تلجأ للإقتراض من القطاع المصرفي الداخلي لسداد قسط القرض، أو اللجوء لدول صديقة للمساعدة، حتى لا تضطر تونس إلى جدولة ديونها في سابقة غير مبشرة لمستقبل الاقتصاد التونسي.
وضع خارطة طريق: الخطوة التالية التي ربما تحتاج تونس بقيادة “سعيد” للإسراع بها هي الاعتماد سريعاً على خطة لها آليات واضحة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية والسياسية للخروج بتونس لبر الأمان، وتهدئة مخاوف الشعب التونسي، حيث أن قرارات “سعيد” بتجميد البرلمان وإقالة الحكومة دون الإعلان عن معالم خارطة الطريق للفترة التالية، تسببت بحالة من الإرباك والغموض، ويتحتم إزالة هذا الغموض والإرباك حتى يتسنى للاقتصاد ان يستقر ويزدهر.
اللجوء لدول صديقة: بالإضافة لذلك، قد يلجأ الرئيس التونسي للحصول على دعم مالي من دول صديقة، سواء في شكل تبرعات أو استثمارات أو إيداعات بنكية لمساعدة الاقتصاد التونسي على الإنتعاش، ولكن كما أشرت في السابق أن الوضع السياسي هو المحرك الرئيسي للأوضاع الاقتصادية في تونس، وبالتالي فعدم وضوح نويا “سعيد” وخطته المستقبلية للتعامل مع الوضع السياسي في البلاد، خاصة ما بعد انتهاء ال30 يوم مدة تعليق البرلمان، ستقف عائق أمام إقدام هذه الدول على مساعدته تغليبا لمصالحها السياسية سواء مع أو ضد الأطراف المشاركة في حكم تونس.
زيادة التلقيح ضد فيروس كورونا: لا يزال السواد الأعظم من سكان تونس بدون تلقيح، وفي ظل الدور الأساسي الذي تلعبه جائحة فيروس كورونا وأثرها السلبي على الاقتصاد التونسي، يحتاج “سعيد” إلى التعامل مع هذا الملف بسرعة وبحكمة حتى يمتص جزء من الغضب الشعبي في الشارع التونسي، وقد تكون التجربة المصرية في التعامل مع الأزمة مفيدة بالنسبة لتونس خاصة بعد إشادة “سعيد” بها، ما يسهم في عودة النشاط السياحي لتونس، الذي توقف تماما من جراء فيروس كورونا، وبالتالي عودة النمو الإيجابي للاقتصاد.ختاماً، فإن الوضع الاقتصادي في تونس مرتبط بالوضع السياسي بها، كما تم توضيحه، وإذا استمرت الأزمة السياسية فإن ذلك سيكون له تبعات سلبية وخيمة على الاقتصاد التونسي المنهك، وسيدفع المواطن فاتورة الخلافات السياسية كما هو الحال على مدار العشر سنوات الماضية، ولكن بالرغم من التدهور الواضح لمؤشرات الاقتصاد التونسي فلا تزال هناك بارقة أمل نحو تحسن محتمل وخروج عن المسار اللبناني، إذا تبنت القيادة في تونس، ممثلة حاليا في رئيسها، خطة واضحة للإصلاح الاقتصادي والقضاء على الفساد، لإستعادة ثقة المؤسسات المالية الدولية في تونس، وثقة الشعب التونسي صاحب المعاناة الأكبر في الاقتصاد.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



