الاقتصاد المصري

ارتفاع مؤشرات الحوكمة في مصر: ثمار الإصلاحات الهيكلية

تحتل سياسات تطبيق الحوكمة أهمية خاصة في تعزيز دور مؤسسات الدولة وزيادة فعاليتها في تحقيق النمو الاحتوائي والتنمية الشاملة. ولذلك فقد تضمنت خطة الإصلاح الاقتصادي التي تبنتها مصر خلال الفترة (2016-2022) محور خاص بالإصلاحات الهيكلية، والذي تضمن السياسات الخاصة بخلق وتعزيز بيئة استثمارية أكثر تنافسية، وكذلك سياسات تعزيز المساءلة ومحاربة الفساد بكل انواعه، ورفع جودة المؤسسات العامة، وزيادة فعاليتها، وتدعيم اللامركزية. وقد اتخذت الدولة العديد من السياسات والتشريعات التي من شأنها تعزيز مبادئ العدالة والمشاركة والشفافية وسيادة القانون والمساءلة، اتساقا مع الهدف السادس عشر من اهداف التنمية المستدامة المعني بالسلام والعدل والمؤسسات القوية. 

مفهوم الحوكمة

يختلف مفهوم الحوكمة وتتعدد تعريفاته وفقا لسياق تطبيقه؛ فعلى مستوى الشركات، يقصد بحوكمة الشركات مجموعة القواعد والاجراءات التي يتم بموجبها إدارة الشركة والرقابة عليها، بما يعمل على تنظيم العلاقات بين أصحاب المصالح المختلفة. ويمكن تعريف الحوكمة على نطاق واسع على أنها مجموعة المؤسسات والعمليات والتقاليد، التي يتم من خلالها ممارسة السلطة السياسية، والاقتصادية، والإدارية، لإدارة شئون الدولة على كافة المستويات، ويشمل عدة محاور، وهي: سيادة القانون، المساءلة والمحاسبة، الكفاءة والفاعلية، المشاركة، والشفافية. وعلى المستوى القطاع العام، تعرف الحوكمة بأنها حزمة من التشريعات والسياسات والهياكل التنظيمية والإجراءات والضوابط التي يتم بموجبها ادارة الجهة الحكومية لتحقيق أهدافها، وفقا لمعايير النزاهة والشفافية، مع تطبيق آليات المتابعة والتقييم، ونظام صارم للمساءلة لضمان كفاءة وفاعلية الأداء من جانب، وتوفير الخدمات الحكومية بعدالة وبجودة مرتفعة من جانب آخر، بما يؤدي في النهاية الى الحفاظ على المال العام، وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وضمان حقوقهم، الأمر الذي من شأنه تعزيز الصالح العام.

تطور وضع مصر في مؤشرات الحوكمة

مع تعدد تعريفات الحوكمة وشمول المفهوم للعديد من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نجد بعض التعارض في نتائج المؤشرات المختلفة التي تستخدم لقياس جودة الحوكمة. وتتعدد الجهات المعنية بإصدار مؤشرات للحوكمة بين المنظمات الدولية، مثل البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية، والمنظمات الإقليمية مثل منظمة مو ابراهيم في أفريقيا، والمنظمات المحلية مثل مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار الذي قام بحساب مؤشر منع ومكافحة الفساد الإداري. وبدراسة تطور بعض مؤشرات الحوكمة في مصر وفقا لأخر اصدار من الجهات المعنية، يتبين تحسن تصنيف مصر في بعض المؤشرات وثباته في مؤشرات أخرى، وتراجع عدد اخر من المؤشرات. كما يوضحها الشكل التالي:

جهود الدولة المصرية لتعزيز الحوكمة في مصر

اتخذت الحكومة المصرية عدد من السياسات التي من شانها تعزيز وادماج مبادئ الحوكمة في الجهاز الإداري للدولة لتحسين كفاءة تقديم الخدمات وتعزيز الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد، وذلك من خلال العمل على عدة محاور؛ وهي: الإصلاح الإداري، التحول الرقمي وتطوير النظم المعلوماتية للرصد والمتابعة، تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين، تحسين الأداء الاقتصادي وبيئة الاعمال، تعزيز الشفافية وسيادة القانون ومكافحة الفساد.

فعلى صعيد الإصلاح الإداري، تم تشكيل الأمانة الفنية للجنة العليا للإصلاح الإداري ولجانها الفرعية، كما تم إصدار قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 ولائحته التنفيذية لإصلاح الجهاز الإداري للدولة، وتم إطلاق جائزة مصر للتميز الحكومي للعمل على تحفيز روح التنافس والتميز على مستوى الموظفين والمؤسسات الحكومية، وتم استحداث تقسيمات تنظيمية جديدة بالجهاز الإداري للدولة تتمثل في إنشاء وحدات التخطيط الاستراتيجي والسياسات، والتقييم والمتابعة، والمراجعة الداخلية، والموارد البشرية، والدعم التشريعي، ونظم المعلومات والتحول الرقمي في كافة الدواوين الحكومية على المستويين المركزي والمحلى، كما تعمل الدولة على تقديم عدد من البرامج التدريبية لبناء وتنمية قدرات العاملين بالجهاز الإداري للدولة.

اما بالنسبة للتحول الرقمي، تبنّت الدولة المصرية منظومة متابعة الأداء الحكومي لرصد الإنجاز المحقق في تنفيذ برنامج عمل الحكومة، كما تم إنشاء المجلس القومي للمدفوعات والمجلس الأعلى للمجتمع الرقمي، والمنظومة الآلية الموحدة للتحول الرقمي ومنظومة المدفوعات الإلكترونية الحكومية.  وصدر قانون تنظيم التعاقدات التي تبرمها الجهات العامة، وتم إطلاق منظومة المشتريات والتعاقدات الحكومية الإلكترونية لتبسيط إجراءات التعاقد، وتعزيز مبدأ الشفافية بين الجهات الحكومية ومجتمع الأعمال. وتم إنشاء مراكز تكنولوجية بالمحافظات لتسهيل تقديم الخدمات للمواطنين. وأطلق مركز المعلومات ودعم واتخاذ القرار التابع لرئاسة الوزراء آليات لتحليل ورصد الواقع في المجتمع وتوفير معلومات صحيحة لمتخذي القرار مثل الرصد الميداني واستطلاعات الرأي وبوابة الشكاوى الحكومية وقطاع إدارة الأزمات والكوارث ومرصد أحوال الأسرة المصرية. وقامت وزارة التخطيط للمرة الأولى بتصميم قاعدة بيانات لمؤشرات الأداء على مستوى المحافظات، وذلك في إطار اهتمام الوزارة بتطوير منظومة التخطيط المحلي. كم تم تبني برنامج تحديث البنية المعلوماتية للجهاز الإداري للدولة، والذي تضمن: تطوير مكاتب الصحة، وميكنة المعامل المركزية بوزارة الصحة وبعض المستشفيات.  وتم تبنّي برنامج ربط ودمج قواعد بيانات مكاتب التسجيل التجاري، ميكنة عدد من الخدمات القضائية، وتطوير وتحديث المواقع الإلكترونية للجهات الحكومية بشكل مستمر.

وبالنسبة لتطوير الخدمات المقدمة للمواطنين، تم تطوير الخدمات الأمنية المقدمة للمواطنين؛ اذ تم التوسع في تقديم خدمات إلكترونية للمواطنين، وتحسين مستوى الخدمات في مجالات الجوازات والهجرة وتصاريح العمل، واستخدام الرصد الإلكتروني الأوتوماتيكي للمركبات، ومراقبة حركة المرور وإدارتها بالطرق الذكية، وإنشاء مواقع جديدة للسجلات المدنية، وتطوير القائم منها.  كما تم تبنّي برنامج علاج المواطنين على نفقة الدولة، وبرنامج تطوير الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين، وبرنامج تطوير الخدمات القضائية المقدمة للمواطنين، وميكنة وتطوير الخدمات المقدمة للمصريين بالخارج، وميكنة خدمات التصديقات، وتطبيق التأشيرة الإلكترونية فضلا عن تطوير منظومة الخدمات التموينية؛ من خلال زيادة عدد المنافذ الحكومية لإتاحة السلع الأساسية، ومنافذ وسلاسل بيع وتوزيع السلع التموينية.

وفيما يتعلق بتحسين الاداء الاقتصادي وبيئة الاعمال، تم انتهاج سياسة تحسين كفاءة الإنفاق العام، من خلال ميكنة إعداد وتنفيذ الموازنة العامة بكافة الوحدات المحاسبية في الدولة، وميكنة نظم رواتب العاملين بالدولة لضمان صحة احتسابها وإحكام الرقابة عليها، والشراء المجمع لتوحيد الأصناف المستخدمة وإحكام الرقابة على المخازن.  وكذلك سياسات تعزيز حوكمة النظام الضريبي، من خلال ميكنة عمليات الحصر والفحص والمراجعة، والربط بين المصالح الضريبية في مختلف القطاعات، بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات المتعلقة بتحصيل الضريبة، وتحديث الإطار التشريعي الضريبي بما يتناسب مع المبادئ الحديثة. كما تبنّت الدولة المنظومة المتكاملة لإعداد ومتابعة الخطة الاستثمارية إلكترونيا لضمان متابعة وتقييم أداء المشروعات الاستثمارية وتنفيذ أهدافها التنموية. وكذلك تم تطبيق برنامج مكثف لتطوير ودعم ورفع كفاءة البنية التحتية والطرق والكباري لتعزيز كفاءة بيئة الاعمال. ومن جهة أخرى تم إنشاء صندوق مصر السيادي للمساهمة في التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال إدارة أصول وأموال الدولة غير المستغلة. كما تم تحفيز الاستثمار الصناعي الخاص من خلال تبسيط إجراءات التراخيص الصناعية بتخفيض الوقت المستغرق لبدء الأعمال وإنشاء خمسة فروع تابعة لهيئة التنمية الصناعية.   وتم تبنّي برنامج التطوير المؤسسي لدعم مناخ الأعمال وجذب الاستثمارات، عن طريق ميكنة وتبسيط إجراءات تأسيس الشركات، إتمام إجراءات التأسيس والتعديل إلكترونياً، وإطلاق خريطة استثمارية شاملة، وزيادة عدد المناطق الحرة العاملة المتكاملة بالمحافظات وإنشاء منطقة حرة لوجستية بالظهير الخلفي لكل محافظة، تنفيذ عدد من المناطق الحرة، وإنشاء مناطق استثمارية جديدة.

وفيما يتعلق بتعزيز الشفافية وسيادة القانون ومكافحة الفساد، فقد تم صدور النسخة الثانية من استراتيجية مكافحة الفساد (2019-2022) للتغلب على التحديات التي واجهت تنفيذ النسخة الأولى من الاستراتيجية. وتم تعديل قانون هيئة الرقابة الإدارية وفقاً للقانون 207 لسنة 2017، والذي نص على أن تهدف الهيئة إلى منع الفساد ومكافحته بكافة صوره واتخاذ التدابير اللازمة للوقاية منه ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة، وحفاظاً على المال العام وغيره من الأموال المملوكة للدولة. كما تم إنشاء الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد التابعة لهيئة الرقابة الإدارية لتدريب أعضاء جهات إنفاذ القانون والارتقاء بمستوى أداء موظفي الجهاز الإداري للدولة.  وينص قانون الشركات رقم 1981/159 على ضرورة التزام الشركات العاملة في مصر بالشفافية والإفصاح.  وقد تتضمن برامج الحكومة تعزيز قيم المواطنة والمسئولية وتفعيل دور الشباب في مواجهة الفساد. وتم إطلاق مدونة السلوك الوظيفي لتعزيز قيم النزاهة لحسن أداء الوظيفة العامة ومنع الفساد، كما تم إصدار مدونة الأخلاق والسلوك المهني لشركات القطاع الخاص. وتم تضمين قسم المراجعة الداخلية بالجهاز الإداري للدولة للمساهمة في الحد من ممارسات الفساد. وتعمل الحكومة على تنفيذ خطة تدريبية لرفع كفاءة العاملين بالقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني فيما يتعلق بالشفافية ومكافحة الفساد، وتوجه المزيد من الموارد المالية لإصدار حملات توعوية تركز على خطورة الفساد، بالإضافة الى إدراج خطورة الفساد في المناهج التعليمية للمراحل المختلفة. وعلى المستوى القاري، فقد انضمت مصر للآلية الأفريقية لمراجعة النظراء وهي آلية أفريقية لمراجعة وتقييم أداء وبرامج الدول الأفريقية في أربعة مجالات: الديمقراطية والحوكمة السياسية، الحوكمة الاقتصادية والإدارة، حوكمة الشركات، التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتهدف الآلية إلى تسريع تبنّي سياسات ومعايير وممارسات عبر تبادل الخبرات، تعزيز أفضل وأنجح الممارسات، تحديد أوجه القصور والتقييم والمتطلبات الخاصة بتعزيز القدرات.

انطلاقا مما سبق، يتبن إدراك الدولة المصرية لأهمية تطبيق مبادئ الحوكمة على مستوى وحدات القطاع العام، وتبني السياسات الخاصة بالإصلاح الإداري، والتحول الرقمي، وتحسين الاداء الاقتصادي وبيئة الاعمال، وتعزيز الشفافية والمساءلة ومحاربة الفساد بكل انواعه، وتدعيم اللامركزية. وقد ترتب على ذلك رفع جودة المؤسسات العامة، وزيادة فعاليتها، وخلق بيئة استثمارية تنافسية، والمحافظة على المال العام، وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وتعزيز الصالح العام للدولة والمواطنين، وانعكس ذلك على تحسن وضع مصر في عدد كبير من مؤشرات الحوكمة.

+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

أسماء رفعت

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى